«ينبغي للمغرب أن يصبح رشديا في روحه، عقلانيا في تدبيره، وحداثيا في دولته» ربما يكون هذا التلاعب بصناعة البراءة، وعلم الحقيقة الذي نشاهده في زمننا هذا عبارة عن ميل طبيعي يكمن في أعماق الفشل، أي اقتراب موعد الغروب للأرواح الشقية والتي لا يمكن أن ننتظر منها السعادة، لأن الكمال لا يتصف بالنقصان. هكذا ستولد الحقيقة مكتملة بعد غروبهم في الضياع. وبخاصة وأن السياسة كعلم لتدبير الإنسان والدولة لا يزدهر في أمة إلا بعد شروق شمس الحقيقة، وينير الحوار بين الحاكم والمحكوم، حيث يتم الابتعاد عن الخطابة والسفسطة والمغالطات واعتبار الإنسان مجرد أداة لجلب المال من الداخل والخارج، فإلى أي حد يمكن الهدم أن يصبح ضروريا في البناء؟، وما الذي يجعل النقد لحظة أساسية في تشييد سياسة الأمل، وتدمير سياسة اليأس؟ ولماذا يختفي الخطباء وأهل السفسطة وراء العقيدة من أجل إخفاء ضعفهم السياسي وفشلهم في التدبير؟ بل كيف يمكن التلاعب بأرواح الأبرياء من خلال الصراع بين حكومة التيولوجيا وحكومة التيقنوقراط؟. ليس هناك شكل صحيح يمكن أن توجد عليه الحقيقة السياسية سوى نسق الفكر السياسي المدني العقلاني المتنور، والذي يبعد السياسة عن المزايدات الطائفية، والعشائرية والمذهبية، لأنها مملكة الحقيقة تشمل برعايتها الجميع، تدافع عن الاختلاف في الرأي، وفي الفكر والثقافة، تعمم خيرات الوطن على المواطنين، ولا تعتبرهم من أحط الطبقات في مقابل طبقة النبلاء والأعيان. نريد مغربا جديدا، بسياسة حديثة متنورة، ترفض سياسة علماء الكلام، غايتها الإنسان بما هو إنسان، وليس الإنسان بما هو عبد لمذهب تيولوجي، وإني لأعلم أن هذا الرأي سيبدو مدهشا لتلك النفوس الهشة والتي تسيطر بعددها على عصرنا الحاضر الذي يؤمن بالأغلبية على حساب النخبة الفكرية، ولعل هذا بالذات هو سبب انتشار هذه النزعة العدمية في التسيير. بلد يتجه نحو المجهول كل الاحتمالات تظل ممكنة لأن انتشار اليأس من السياسة يؤدي إلى الانهيار مهما طالت الأيام. لابد من نهضة فكرية تؤدي حتما إلى نهضة سياسية، لكن بعد هدم أحزاب الأولياء والأضرحة، وأداة الهدم لن تكون سوى النهضة الفكرية، والتي يتزعمها الفكر الفلسفي، وبعبارة حكيمة ينبغي للمغرب أن يصبح رشديا في روحه، عقلانيا في تدبيره، وحداثيا في دولته. ابن رشد هو روح العصر، معلم الحوار مبشر بطلوع شمس الحقيقة، منظر للتسامح بين الحكمة والشريعة، فلماذا نتركه مغتربا في الضفة الأخرى؟، ولماذا لا نمنحه أوراق الإقامة كما نمنحها للأفارقة الآن؟، فهل هناك من مبرر عند فقهاء الظلام الذين حولوا المغرب إلى فضاء وسطوي مدى الحياة؟. هكذا تقودنا هذه التأملات إلى سلسة من الاستعارات المجازية عن الوضع السياسي في المغرب، ذلك أن الشعوب تتقدم وتنهض بتقدم السياسة والفكر، فكيف يمكن تحقيق نهضة بسياسة غير ناهضة؟، كيف يمكن تحقيق مشروع مجتمع حداثي بفكر وسطوي؟، كيف يمكن التشريع للبلاد بمسرح برلماني باهض الثمن؟. من أبشع العلامات التي يبشر بها التاريخ على اقتراب فشل الروح وانهيار إرادة القوة هي تحول السياسة إلى مجرد صراع بين المذاهب عن السلطة والثروة، حيث تظل روح الإنسان منصهرة في العالم القديم الذي تسكنه بحميمية مع الأوهام والخرافات، وتحقق بذلك قطيعة مع تشوقها للكمال في العلم والمعرفة، إنها بلغة هيجل تشكل نفسها حين تنضج ببطء وبهدوء لتتخذ شكلها الجديد محطمة في الوقت ذاته، عالمها القديم، بيد أن تربيتها على الآراء القديمة، وتنشئتها على الصواب الموروث يجعلها سجينة في الكسل والنسيان، ويحكم عليها بصياغة عصرها في أوهام الماضي، وبخاصة إذا كانت تطمئن للخطباء الذين يتحدثون بلغة دوغمائية عن السياسة، باعتبارها عقيدة تقود المؤمن بها إلى الجنة، ها هنا يحصل الخلط الشرس بين العلم الإلاهي والعلم الإنساني، فالتدبير السياسي والاقتصادي شيء، والإيمان بالعالم الآخر شيء. والجمع بينهما في حل الأزمة مغالطة. وإذا تساءلنا ما الذي حدث لروح المغرب الأندلسي المتوسط سنجد أنها تتجه نحو الأفول في شفق الأصيل؟. الواقع أن تجليات الروح عندنا قد أخطأت الطريق عندما أرادت أن تتعرف على نفسها من خلال ثقافة المشرق وأهملت ظاهريات الروح الأندلسية المتوسطية، ولذلك أن نموها لم يكن طبيعيا، بل كان مصطنعا، لأن الاقتراب من الاكتمال لا يكون إلا بواسطة الأصل والذي هو ثقافة الفكر وحضارة الاختلاف، ونبذ التشدد والجمود، لأنهما مصدرا اغتيال الروح. في قمة هذا الانتشاء بعودة شمس الحقيقة من بزوغ حضارة البحر الأبيض المتوسط على أرض المغرب الأندلسي، مغرب ابن رشد، لابد من منح جواز السفر للروح لتعيد عظمتها ومجدها الفكري بواسطة التراث الفلسفي العقلاني، لا تقدم إذن ولا سياسة متنورة، ولا نهضة فكرية بدون زلزال فلسفي يحطم أوهام العقل، ويقتلع السلاسل لتحرير الروح.