هناك أشياء لا تُفهم في بلادنا، خصوصا ودائما من طرف هؤلاء الذين يتحدثون باسْم إسلام لا ندري من أيْن جاؤوا به. ولكيْ نبرّئ الإسلام الحقيقيّ الذي تشبّعنا به وبقيمه، نضيف أنّ الذي يحرّك هؤلاء هو الإسلام السياسي في أسوأ صُوره. ففي الوقت الذي يعبّر فيه عدد كبير من المثقفين والمفكّرين وحتى الفقهاء عن شجْبهم لحملة تكفيرية من أحد الخُطباء المغمورين المحسوبين، في جميع الأحوال، على التيارات الإسلامية في بلادنا، وما يصدر عنها بين الفيْنة والأخرى من فتاوى ووصايا، في هذا الوقت يخرج بعض المنتسبين إلى حزب «العدالة والتنمية» ليعتبر أنّ كل هذا الشجب لتكفير الرأي والاجتهاد والتفكير هو مجرّد «زوبعة في فنجان»، سببها معركة إدريس لشكر الخاسرة التي تحولت إلى معركة رابحة معركة خاسرة في مجتمع مسلم لا يعرف طريقة أخرى لاقتسام الإرث سوى ما جاء في الآيات القرآنية». واضح في هذا الحكم المتسرّع نزعة شخْصَنَة النقاش وتسْييسه. لقدْ كنتُ دائما مقتنعا، ولا زلت، بكوْن الذين ينسبون إلى الإسلام مدّعين وحدهم احتكار الحديث باسمه، والإفتاء بلسانه، همْ أكبر المسيئين له. ليْس فقط بسبب ما يقترفونه باسمه من مساوئ وأخطاء قاتلة تزيد سمعته قتامة من بين الديانات التوحيدية الأخرى، ولكنْ بصورة أعمق وأخطر بسبب جهل غالبيتهم المهول والمقرف بما ينطوي عليه الدين الإسلامي. أعتقدُ أنني أعرف بما يكفي ما جاءت به كتب الحديث والاجتهاد والفقه الإسلامي قديما وحديثا، لكنني لمْ أجدْ جُملا وأحكاما مثل التي نسمعها يوميا على لسان كَتِيبة الإسلام السياسيّ. هذه حال الكثيرين من المتأسْلمين اليوم الذين لايزيدون الإسلام إلاّ تشويها وتزمّتا وتخلّفا بسبب جهلهم أوّلا، وثانيا بسبب الخَوَاء الداخليّ الذي يملؤونه بالخطاب والتكفيري المتشنّج. لكن الخطير في الأمر هو أنْ يصْدر مثل هذا الخطاب عن مسؤولين في مواقعَ حساسة تفترض لوْك اللسان في الفم مآت مرّات قبل التفوّه بما لا يليق بالموقع. والأخطر، فوق هذا وذاك، أنْ يكونَ المستهدفُ هو الكاتب أو الصحافيّ أو المفكّر. فالمُشكلُ الحقيقيّ لا يتعلّق، هنا، بادْريس لشكر ولا بشخص غيره، بقدر ما يتعلق بمبدأ حرية التفكير والتعبير عنه. المشكل في المضمون لا في الشكل، في البنية الذهنية والنفسية لا في الشخصنة. هذه النّازلة ليستْ فعلا معزولا، إنها خطوة من بين خطوات أخرى تصدر عن سلفيين متشددين في أعماقهم، يتصرفون بتقيّة محسوبة وظرفية. ومن حسن حظّنا أنّ زلاّت الكثير من مسْؤولي العدالة والتنمية، منذ جاء إلى الحكومة ممتطين صهوة الدّين، تكشف من حين لآخر أنّهم يجرّون البلاد إلى أفق فكري مجهول لا نتوقّع عواقبه. مثل هذه الاتهامات لا يمكن أن يسكت عليها المثقفون لأنها تمسّ في العمق مبدأ حرية التعبير عن الرأي، مهما تكن درجة اتفاقنا أو اختلافنا مع صاحبه. إنّ عدد المثقفين والمفكرين والكتّاب في بلادنا قليل، وهذه القلة لا ينبغي إسكاتها بالتهديد والتخويف والتكفير. وبالتالي فإنّ المنظمات والجمعيات والمنتديات الثقافية والحقوقية في بلادنا لا ينبغي أنْ تعتبر مثل هذا الخطاب التكفيري، المدروس والمقصود، مسألة غير ذات قيمة. لا بدّ من عودة دفاع المثقف المغربي على حرية التفكير والإبداع والكتابة. فبدون حرية، لا يمكننا أنْ نتقدّم، وبالاستناد إلى لغة تكفيرية متهالكة لا يمكن أنْ نستعيد صورة الإسلام الحقيقة التي لطّخها هذا الخطاب. إنّ الشجاعة التي عبّر عنها عدد كبير من مثقفينا، خلال الأيام السابقة، تحتاج إلى دعْم وانخراط لمؤسسات وهيئات ثقافية وحقوقية واجتماعية، مثل الذي عبّر عنه اتحاد كتّاب المغرب من خلال تنديده بالمناخ الذي يتم فيه تعميم فتاوى التكفير المناهضة للديمقراطية وحقوق الإنسان، ويعتبر أن مبادئ الإسلام وقيمه السامية تتجاوز الروح الظلامية المتشددة التي يعلنها دعاة التكفير والإرهاب هلْ يعلم المدعوّ «أبو النعيم» أنّ الرسول، الذي بشّر بالديانة الإسلامية وبلّغها بكل أمانة، لمْ يحدث أنْ كفّر مشركا أو نصرانيا أو يهوديا. الرسول نفسه هو الذي استقبل وفدا من نصارى نجران بالمسجد وليْس ببيته، وهو الذي رفض قتل أبيّ بن سلول الذي أساء له ولبيته، وهو الذي لمْ يرفض أنْ تبقى زوجته ريْحانة على دينها اليهودي، كما لمْ يرفض أنْ يظلّ مارية القبطية، أمّ ولده إبراهيم، على دينها المسيحي. وبالعودة إلى أبسط كتاب في »أسباب النزول«، ككتاب الواحدي أو السيوطي، يتبيّن أنّ الرسول كان منصتا للاختلاف والانتقاد إلى درجة أنّ العديد من الآيات تمّ نسْخها أو تعديلها بوحي حتى تتماشى مع الواقع المتعدد والمخلف. وما تعدّد كتب التفسير والفرق الإسلامية والكلامية، في التاريخ العربي الإسلامي، إلا دليل ملموس على قبول الاختلاف الذي كان الفقهاء يروْن فيه رحمة على الدين والعباد. إنّ أغلب الناطقين باسم الإسلام يعيشون على ثقافة القنوات الاجتماعية التهييجية التي فيها كلّ شيء إلا ما يتصل بالحقيقة الدينية، يعيشون على ثقافة الأذن التي لا يمكن أنْ تفرز إلا فكرا قطيعيا يأتمر بكلمة واحدة قدْ تدفع إلى القتل.