من مكاتبها المكيفة في الخرطوم، وفي الوقت الميت الفاصل بين مكونات ملذات الحياة الرغيدة ربما، تفضلت الأمانة العامة لاتحاد الكتاب السودانيين، مؤخرا، بإصدار بيان «جد إنساني ومؤثر»، رغم أنه كتب بحروف الخشب، نعت ضمنه وفاة الكاتب والتشكيلي والموسيقي السوداني محمد حسين بهنس. وبعد التنويه بمواهب الراحل الشاب «المتعددة والمتنوعة التي لم يسعفه الوقت للتعبير عنها بكل الزخم الذي كانت تجيش به نفسه»، ومدح محمد حسين بهنس الذي عرفت فيه الأوساط الأدبية والفنية، والعهدة على البيان، «شابا متقدا، نابها ومبرزا، إذ كان بجانب كتابته للرواية والشعر فنانا تشكيليا ونحاتا وصاحب عدسة ماهرة التقطت صورا فوتوغرافية تتميز بأسلوبه الخاص، كما عرف ملحنا وعازفا ومساهما نشطا في الملتقيات والمناشط الثقافية...»، أبرز أعضاء الأمانة تلك المحترمون أن « وفاة بهنس خسارة أكيدة لكل محبيه وأهله، وخسارة للثقافة السودانية على مختلف مشاربها». لقد كان من الأفضل أخلاقيا للهيئة المذكورة أن تصمت. أن لا تعتقد الناس بلداء. أن تفهم أن المبدع في حاجة إلى الانتباه لأوضاعه حيا لا ميتا. خاصة حين يتعلق الأمر بموت من قبيل ذلك الذي حصد روح الراحل. أجل، لقد قضى الرجل نحبه جائعا متجمدا من البرد على أحد أرصفة شوارع القاهرة في 17 دجنبر الجاري، بعد أن عاش متشردا ومعوزا في شوارع وأزقة العاصمة المصرية طوال سنتين! فأين كان اتحاد كتاب السودان أيامها؟ ربما كان منشغلا بقضايا الأمة المصيرية وبالتحديات الإستراتيجية الكبرى المطروحة عليها بسبب تكالب القوى المعادية للعروبة ضدها! أما أن يعيش مبدع عيشا ضنكا، فهذا مجرد تفصيل ليس من شأنه أن يشغل الاتحاد عن مهامه التاريخية! ألم يكن محمد حسين في حاجة إلى التفاتة من الأمانة العامة الموقرة لاتحاد الكتاب السودانيين في تلك الأوقات الصعبة، بدل أن تذرف دموع التماسيح عليه وهي تؤدي واجب العزاء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يرد صقيعا؟ لنتأمل ما حدث، فهو يؤشر ببلاغة لا تحتاج إلى استعارات على استبلاد هيئة كتاب السودان للجميع عبر نعيها المذكور، وخاصة ذاكرة الغائب: عثر على الفنان السوداني (42 عاما) ميتا فجر الثلاثاء 17 دجنبر الجاري في ميدان مصطفى محمود بالقاهرة، وتم نقله إلى قسم الدقي ثم إلى مشرحة زينهم دون أن يعرفه أحد، وكتب اسمه في خانة المجهولين حتى تعرف عليه بعض أصدقائه بعد يومين. وصرح التقرير الطبي أن الفنان الراحل توفي من جراء البرد والجوع. كفى الكتاب والمبدعين العرب من ضحك من يزعمون تمثيليتهم على ذقونهم، أما المؤسسات الرسمية الوصية على القطاع، فتلك قصة -عفوا فضيحة- أخرى! والراحل ?-42 سنة-، تقول تقارير صحفية، فنان متعدد المواهب، فهو روائي وشاعر وتشكيلي وعازف ومغنٍ ومصور، وبعض لوحاته تزين قصر الإليزيه في فرنسا، وقد شارك في عدد من المعارض في السودان وفي الخارج، له رواية بعنوان «راحيل» أثارت الكثير من الجدل حين صدورها في 1999. وكان بهنس قد ذهب إلى القاهرة قبل عامين ليقيم معرضا تشكيليا ومعرضا آخر لصور تعكس الثقافة والفلكلور الأفريقيين، وأصابته حالة من الاكتئاب، حيث ظل مشردا في شوارع القاهرة بلا مأوى أو عمل، يعيش في الميادين وينام أمام المطاعم. هي فضيحة أخرى تضاف إلى فضائح العناية المركزة بمبدعي العرب. فضيحة لا يغفرها نعي الأمانة العامة لاتحاد الكتاب السودانيين لبهنس. ولا ما قد يليها من بلاغات الرثاء الصادرة عن وهم يدعى اتحاد الكتاب العرب!