تعرض الحكومة على المغاربة أن يقبلوا بعودة الأموال المهربة إلى الخارج، ضمن مشروع قانون المالي المعروض حاليا للنقاش داخل البرلمان.. والحكومة لم توضح «فلسفتها» في مشروع كهذا، الشيء الذي يطرح العديد من الأسئلة، ومن التساؤلات المحيرة. أول سؤال على وزير المالية أن يقدمه هو: من هم المعنيون بالأمر؟ فقد اعتدنا من الحكومة أن تقدم اللوائح وتسهر على تعميمها. وتعودنا أيضا أن نصفق لإعلان هذه اللوائح، ونطلب المزيد ونتقدم بملتمس التدقيق في المرحلة التي تأتي من بعد، ودراسة الجدوى السياسية والأخلاقية من العملية برمتها. اليوم لا يمكن للوزارة المعنية بالأموال المهربة، وليست محولة وخاضعة للقانون (الجمارك وسقف التحويلات) أن تعرض على المغاربة عودة المهربات بدون أن تعرفها وتعرف من أين جاءت ولماذا تعود. لنكن صرحاء ونسأل: من هم الذين هربوا أموالهم إلى الخارج: هل هم أشخاص تعرضوا للتعذيب أو للمطاردة السياسية، أو هم مجرد أناس اعتادوا ألا يثقوا في بلادهم، لظروف لا تتعلق دوما بالموقف من النظام أو من سياساته؟ إنهم في الغالب من العينة التي لم تكن تطمئن إلى بلادها أو التي كانت تعتبرها مجرد صندوق أو بقرة حلوب، وهربوا عنها لكي يتمتعوا بما امتصوه منها!! والذين هم من هذه العينة، علينا أن نسأل عنهم أكثر من أن نسألهم: ماذا حدث في حكم الله حتى يشعروا بالحاجة إلى «عودة» أموالهم وتوطينها في بلادنا؟ ليس هناك جواب تقدمه الحكومة في هذا الصدد. وإذا افترضنا جدلا أن الحكومة تعرف أسماءهم : هل يمكن أن نطمئن الرأي العام أن هذا المال «الهارب» سيكون في خدمة الوطن واقتصاد الوطن وقضايا الوطن، وأنه لن يحن إلى الهروب مجددا، إذا اقتضت الظروف التضحية أو الجهاد الاقتصادي؟ لاشيء مضمون في هذه الحالة.. ولنا أن نسأل الوزير بوسعيد عن الجدوى الأخلاقية، ثم المالية من وراء عودة المال؟ والأمر يتعلق بالثروات الكبرى وليس ببعض الدريهمات التي توضع في حقيبة يد صغيرة.. السؤال المؤرق هو: كم هي المبالغ المعنية بالتسهيلات السياسية والضريبية التي تقدمها الحكومة؟ حسب تقرير أمريكي صادم : 34 ألف مليار سنتيم هربت من المغرب نحو حسابات بنكية بالخارج خلال 39 عاما. منذ 3 سنوات بالضبط 2010، كنا قد نشرنا تقريرا أمريكيا صادما حول مآت الملايير التي خسرها المغرب في العقود الثلاثة الأخيرة، وهي أموال طائلة تقدر بمئات الآلاف من ملايير السنتيمات.. نفس التقرير كشف أن المغرب يتصدر قائمة الدول المغاربية التي تم استنزاف ثرواتها المالية. وجاء المغرب ونيجيريا ومصر والجزائر وجنوب إفريقيا على رأس قائمة الدول التي عانت من تحويل الأموال نحو وجهات معروفة، وغير معروفة. وقد أوضحت الدراسة التي أشرف عليها المركز الأمريكي Global Financial Integrity، أن التحويلات اللاشرعية للثروات الافريقية تمت بالأساس اعتمادا على تهريب البضائع والتقليد الصناعي وتجارة المخدرات، ولكن أيضا، وبنسبة هامة، عن طريق التملص الضريبي. وتوصل التقرير الذي صدر حديثا، واعتمد نموذجين في البحث والدراسة معمول بهما في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى أن المغرب خسر على امتداد 39 سنة، أي من سنة 1970 إلى 2008، ما يفوق 33 مليارا و850 مليون دولار من الأموال التي تم تهريبها بطريقة غير شرعية في اتجاه دول أجنبية. وتتوزع تلك الأموال المهربة على الشكل التالي: 1.1 مليون دولار سنة 1970، 0.3 مليون دولار سنة 1971، 1.1 مليون دولار سنة 1972، 1.1 مليون دولار سنة 1973، 5.2 مليون دولار سنة 1974، 678.7 مليون دولار سنة 1975، 2.6 مليون دولار سنة 1976، 426.7 مليون دولار سنة 1977، 1.6 مليون دولار 1978، 3.1 مليون دولار 1979، 3.8 مليون دولار سنة 1980، 0.2 مليون دولار سنة 1981، 16.8 مليون دولار سنة 1982، 5.1 مليون دولار سنة 1983، 2.1 مليون دولار سنة 1984، مليار و279 مليون دولار سنة 1985، مليار و668.7 مليون دولار سنة 1986، 3ملايير و198.4 مليون دولار سنة 1987، 545.6 مليون دولار سنة 1988، 673 مليون دولار سنة 1989، مليار و305.1 مليون دولار سنة 1990، 177.8 مليون دولار سنة 1991، 356 مليون دولار سنة 1992، 536.4 مليون دولار سنة 1993، مليار و57 مليون دولار سنة 1994، ملياران وتسعة ملايين دولار سنة 1995، مليار و789.6 مليون دولار سنة 1996، مليار و426.1 مليون دولار سنة 1997، ملياران و84 مليون دولار سنة 1998، 865.9 مليون دولار سنة 1999، 114.3 مليون دولار سنة 2000، 323.7 مليون دولار سنة 2001، 635.9 مليون دولار سنة 2002، ملياران و762.5 مليون دولار سنة 2003، 722.8 مليون دولار سنة 2004، ثلاثة ملايير و569.8 مليون دولار سنة 2005، ملياران و351.6 مليون دولار سنة 2006، ملياران و914.4 مليون دولار سنة 2007 و33.2 مليون دولار سنة 2008 . ويظهر من المؤشرات (انظر مقال عبد الله أوسار الصادر في ابريل 2010) أن التهريب ما فتيء يتزايد ولا شيء يمكنه أن يقنع الرأي العام بأنه سيتقلص، وذلك لمؤشرين اثنين، الأول يتعلق بالتملص الضريبي، والذي أصبح اليوم يحظى بغطاء سياسي واضح يعفي الناس من الجزاء المنصوص عليه قانونا، والثاني يتعلق بتضخم تجارة المخدرات ومحافظة المغرب على الريادة الكونية في إنتاج القنب الهندي وما يشتق منه. والغريب أن الحكومة لم تقدم لا اللوائح ولا المبالغ، وكأنها تطالب من البرلمانيين أن يصادقوا على لائحة شبح أو لائحة صناديق وهمية أو سوداء. المال الهارب، مثل المال السايب«كايعلم السرقة»، كما يقول المغاربة المقيمون في بلادهم، كانوا فقراء أو كانوا أغنياء. وإذا كان لابد من «توافق» وطني تمليه الحالة الاقتصادية الصعبة التي وصلنا إليها، فلابد من أن يعرف الرأي العام، قبل ذلك وعبر حوار مؤسساتي غيرمجهض بكل ما يتعلق بهذه الأموال الطائلة وأصحابها والسياق الوطني الذي وردت فيه. لأن السياق، كما نقول دوما، هو الذي يخلق المعنى..!