كنت مديرا لمعهد الدراسات الإفريقية عندما انتدبتني وزارة الخارجية لأحضر ندوة نظمها حزب نيلسون مانديلا، حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في أبريل 1993 . بعد عشر ساعات من الطيران من لندن وصلت إلى جوهانسبورج في الساعة التاسعة صباحا. لم يكن أحد في الانتظار، لكن موظفا من البيض في المطار، غالب الظن أنه من الأمن المدني، عرض علي القهوة والاستراحة في مكتبه في انتظار أن يأتي المنظمون لاستقبال رفاق مدعوين ينتظر وصولهم في طائرات من أوربا. أحسست أن الرجل الأبيض متعاطف مع السيرورة التي أفضى إليها نضال مانديلا وحركته، وأخبرني أن الندوة قائمة وإن تقلصت الحفلات المصاحبة لها بسبب وفاة زعيم من زعماء المؤتمر الوطني الإفريقي هو أوليفر طامبو في تلك الليلة. أنزلت في فندق كارلطون الشهير وسط المدينة، وهالني ما في الغرفة من التنبيهات إلى الاحتياطات الأمنية ولاسيما ما يتعلق بعدم الخروج إلى الشارع دون رفقة من البلد. ركبنا حافلة لحضور عشاء منظم للضيوف، وسارت الحافلة في شوارع فسيحة من الأحياء السكنية الراقية، ثم أطفأت الحافلة أضواءها، ثم توقفت وأنزلنا لنركب في حافلة أخرى سارت كالأولى بلا أضواء. كل ذلك يوحي بأن الأجواء تحتمل أن يقوم العنصريون من غير المقتنعين بالسيرورة الجديدة، بإفساد البرنامج على السود ومهاجمة ضيوفهم. كانت دار الضيافة للعشاء في ملك ناس من البيض، وكان معظم الحاضرين منهم شخصيات مرموقة تتشوف لعهد جديد في جنوب إفريقيا. وفي صباح الغد بدأت الندوة، وكان موضوعها «الثقافة والتنمية» في مستقبل جنوبي إفريقيا. كانت من الأنشطة المنظمة للإبقاء على جذوة الحماس في انتظار الانتخابات التي تقرر أن تجري بعد عام، والتي أسفرت عن انتخاب مانديلا رئيسا لجنوب إفريقيا. كان مقررا أن تجري أعمال الندوة في المسرح البلدي لمدينة جوهانسبورج المعروف بسيفيك ثيترCivic Theater. كان يوما مشهودا لأنها المرة الأولى التي يضع فيها السود ومانديلا منهم أقدامهم في تلك القاعة، قاعة مسرح جوهانسبورج. امتلأت القاعة بالناس من البيض والسود على السواء، والأكثرية من السود، وكان منشط الحفل ينبه إلى السلوك الذي تنبغي مراعاته حتى لا يقال إن السود لا يستحقون الولوج إلى هذه القاعة، كان يقصد على الخصوص أطفالا على ظهور أمهاتهم يمزقون بصراخهم تلك المواضعات. دخل نيلسون مانديلا واستقبل بالحماس المناسب من الحاضرين، واستقبل على الخصوص بالأهازيج الشعبية وبأشعار ورقصات المداحين التقليديين بأرياش فوق الرؤوس وأصباغ على الوجوه وجذوع عارية. وبعد حفل الافتتاح اشتغل الخبراء في الندوة في أربع عشرة لجنة غطت كل مجالات الثقافة، من الكتاب إلى المسرح إلى الرسم إلى غير ذلك، وكان معظم المؤطرين للموائد والملفات من البيض، وسجلوا اسمي، لعلة لا أعلمها، في لجنة القضايا اللغوية. كان الإشكال الأكبر هو الاختيار اللغوي في مستقبل جنوب إفريقيا، وهو بلد بعديد من اللغات المحلية، بعضها لا يتكلمه سوى بضعة آلاف، والبعض يتكلمه مئات الآلاف أو الملايين. وكانت نصيحة الرفاق الأوربيين الضيوف لأصدقائهم من أهل البلد، ألا يرتكبوا خطأ الأوربيين بالتفريط في اللغات المحلية والسماح بهيمنة لغة العاصمة لتصبح اللغة الوطنية. سألوني وسجلوا في محضر اللجنة فكرتي الخاصة في الموضوع، ومؤداها أن بلدا فيه ستة ملايين من السكان المتقدمين جدا في تعليمهم، وأربعة وعشرون مليونا من السكان الذين يتعين عليهم الالتحاق بالآخرين في المستوى التعليمي، ينبغي أن يجعل الأولوية هي إدراك هذا التعادل في المستوى، وذلك يقتضي اتخاذ لغة مشتركة من لغات التقدم الحديث في المدرسة يمكن أن تتم بها أولا غاية اللحاق في أجل غير بعيد بالأقلية المتقدمة في مستوى التعليم، وهذا ما لا يحول دون مراعاة الحفاظ على اللغات المحلية في برامج مدرسية وإعلامية، وكان تقرير العلاقات بين الأجناس لعامي 92 و93 Race Relations Survey قد بين أن عدد طلبة الجامعة في بريتوريا وحدها أربعة وعشرون ألفا، منهم ثلاثة وعشرون ألفا من البيض والألف ما بين أفارقة وملونين وهنود. كانت هذه المشاركة تجربة غنية بالنسبة لي، تمتعت في بعض أوقاتها بعناية الدبلوماسي القائم بأعمال المغرب هناك، الذكي النشيط السيد سعيد بريان. وقد زرت بفضل عنايته معهد الدراسات الإفريقية في بريتوريا، المدينة التي لم يكن يسمح للعمال السود بالمبيت فيها. كما رافقني إلى المدينة العجيبة سان سيتيSun City وأحواض تربية التماسيح في طريقها، وتعلمت على الخصوص أمورا مهمة من شخص مسلم من أعيان طائفة السكان من أصل هندي لقيته في دار السيد سعيد، حدثني بأمور منها الإسهام المالي القوي لطائفته من مسلمي البلد من أصل هندي، ومعظمهم من التجار، في دعم حزب مانديلا أثناء الكفاح.