عاشت باريس، خلال شهر اكتوبر الماضي، على إيقاع إحدى أهم التظاهرات التشكيلية عالميا: الدورة السابعة والثلاثون للمعرض الدولي للفن المعاصر ?الفياك?، التي عرض في إطارها 195 رواقا للفن الحديث والطلائعي من 24 دولة. ?الفياك? محج كبار المقتنين والمتتبعين لمسارات الحداثة التشكيلية في عالم اليوم، يقول أهل الميدان عنها إنها «تعتمد عملية اختيار حكيمة لا ترتكز فقط على المال ولا تستسلم كثيرا إلى أهواء الموضة السائدة»، وقد استطاعت الصمود في وجه معرض لندن الحامل لذات سمتها والمنافس الشرس لها. ومع ذلك، فقد انتبه زوار المعرض الباريسي هذه السنة إلى «تحف فنية» أقل ما يمكن وصفه بها هو كونها جد مثيرة للجدل حول مفهوم الفن نفسه، والحداثة التشكيلية وتصنيف بعض «المنشآت» ضمن خانة الإبداع. وأكثر من ذلك، فالقيمة المالية لهذه الأعمال باهظة إلى حد أن المليونير يعجز عن اقتنائها، وأن امتلاكها يظل متاحا للملياردير فقط. فهذا أحد أكبر الفنانين الفرنسيين المعاصرين، بيرتران لافيي، يكتشف في كراج بيته أن له سيارة من نوع فيراري تعرضت لحادثة سير منذ 1993. لكن المبدع الكبير سيقرر أنها «تحفة فنية» بمجرد عرضها على إحدى منصات عرض «الفياك» وتوقيعها باسمه. ربما تكون القيمة الفنية للسيارة المصدومة خفية على الناس البسطاء الذين لا إلمام لهم بخيمياء الحداثة التشكيلية، لكن رجلا تركيا لم يخطئ جمالية التحفة واقتناها ب 250 ألف دولار، لا أقل ولا أكثر! لقد أصبح يكفي إذن أن يأخذ الفنان ?الذي من الأفضل أن يكون مكرسا? أية أداة أو قطعة ويجعلها تحيد عن وظيفتها الأصلية وتوقيعها والإعلان على أنها عملا فنيا ليعتبرها العالم كذلك. نعم هذا نقاش قديم، ظهر مع بروز «الريدي ميد» ومارسيل دوشان ?1887- 1968? وعمله الشهير المتمثل في تلك المبولة التي غير وضعها من العمودي إلى الأفقي قبل التوقيع عليها. لكن دوشان مبدع حقيقي، بينما بعض من يقتفون أثره مجرد هواة للصباغة وجمع المتلاشيات، وخاصة في المجتمعات الحديثة العهد بالتشكيل المعاصر، ومنها المغرب. وإذا كان مارسيل دوشان يقول إن «كل شيء جميل حتى سلة المهملات»، فإن أحد العارضين بدورة 2013 للمعرض االباريسي العالمي قد طبق المقولة هذه ونجح في إقناع بعض الزوار بأنه أنجز «تحفة فنية» هو الآخر. ها هو الفنان لوكا أبراي يخدع حراس أكبر قاعات المعرض ?القصر الكبير? مقدما لهم دليل منشآت فنية مزور. تسلل صاحبنا إلى القاعة وأحاط سلة مهملات» بشريط لاصق أبيض اللون، الشريط ذاته الذي يحيط بالأعمال الفنية «الحقيقية في المعرض للإشارة إلى أنه من الممنوع لمسها. لقد حول الرجل سلة قمامة تافهة يمكن للواحد منا أن يعثر على الملايين من مثيلاتها في أي مكان إلى «تحفة فنية فريدة». ثم أضاف على ورقة كافة التفاصيل المتعلقة بإنجازه: التوقيع، اسم العمل ?كان ولا يزال?، المقاييس والمواد الموظفة... وبالطبع الثمن: 70 ألف دولار! لا أعرف إن كان أحد هواة الفن المعاصر قد اقتنى «تحفة» لوكا أبراي، لكن أكذوبته التي صدقها بعض زوار «الفياك» المختصين ذكرتني بما تحتضنه، بين الفينة والأخرى، بعض قاعات العرض في البيضاء والرباط وما جاورهما من أعمال تدبج حولها المقالات وتطبع الكاتالوغات الأنيقة. إذا أخذت العلك من مختلف الألوان الذي استهلكته طوال مدة من الزمن ووضعته فوق سند صائحا: إنها تحفة فنية يا أعزائي، فهل سيصدقني أحد؟ بالطبع لا، لكن هذا بالضبط ما عرضه الفنان والنحات الأمريكي الشهير دان كولن في النسخة الأخيرة من «الفياك»! أجل، ثمة إشكال ما في مجال الفن المعاصر في أعرق بلدانه، فكيف يكون الحال هنا والآن؟