أثارت الوساطة التي يقوم بها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بين كل من رئيس حركة النهضة الإسلامية الحاكمة في تونس راشد الغنوشي وزعيم حزب حركة نداء تونس المعارض الباجي قائد السبسي قلقا لدى التونسيين ورأوا فيها تدخلا في شؤون بلادهم الداخلية التي كثيرا ما فخرت باستقلالية قرارها الوطني في أحلك الأزمات. فقد هاجم معارض تونسي لجوء بعض القيادات الحزبية إلى الجزائر و»محاولة إدخالها في الشأن التونسي لأنّ السيادة التونسية مقدسة». ويأتي هذا في الوقت الذي يثير فيه التدخل الجزائري بالشأن الداخلي قلق التونسيين. واعتبر الهاشمي الحامدي الذي يُقيم في العاصمة البريطانية منذ عدة سنوات، أن ما يقوم به راشد الغنوشي رئيس الحزب الحاكم (النهضة) والباجي قائد السبسي رئيس نداء تونس (الحزب المعارض القوي) اللذان التقاهما عبدالعزيز بوتفليقة «يشبه محاولة إدخال الأسد إلى البيت» من خلال إدخال الجزائر وإشراكها في الشأن الداخلي. وأضاف أن من يحاول توسيط الجزائر «هو بصدد اللعب بالنار، لأن بوتفليقة يتشاور مع الجنرالات والمخابرات وأطراف لا ترغب في نجاح الثورة التونسية، قبل لقاء الغنوشي والسبسي وعنده أجهزة تسيّره وبالتالي فوساطته ليست مجانيّة»، لافتا إلى أن ذلك «سيكون خطوة نحو تسمم العلاقات التونسية- الجزائرية». ويرى التونسيون أن بلادهم رغم صغرها كافحت كثيرا من أجل استقلالية قرارها ونأت بنفسها عن أي تدخل أجنبي منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1956 وهي ليست مستعدة اليوم للتفريط في مكاسب الاستقلال تحت أي مسمى من المسميات حتى وإن كان الأمر يتعلق بوساطة «دولة شقيقة» مثل الجزائر. وكانت وساطة بوتفليقة بدأت منذ سبتمبر الماضي حين استقبل الغنوشي وقائد السبسي في زيارتين منفصلتين قاما بها إلى الجزائر في محاولة منه لتنفيس الاحتقان بين الرجلين الذين يتزعمان أكبر حزبين سياسيين في البلاد. وعلى الرغم من التكتم الشديد الذي أطبق على خلفية الزيارتين إلا أن تسريبات سياسية ودبلوماسية أكدت أن الرئيس الجزائري أجرى وساطة سياسية بين كل من الغنوشي وقائد السبسي تهدف بالأساس إلى حلحلة الأزمة الخانقة التي تتخبط فيها تونس. وقالت مصادر سياسية تونسية ودبلوماسية عربية إن بوتفليقة أبدى اهتمامه بالشأن الداخلي التونسي وحرصه على إنهاء الفترة الانتقالية كما طلب من رئيس حركة النهضة «تنازلات» لفائدة المعارضة التونسية. وأضافت المصادر أن الجزائر «قررت» إجراء الوساطة «لأن الشأن التونسي الداخلي بات يعنيها مباشرة» في ظل استفحال الأزمة وهشاشة الوضع الأمني وتزايد خطر الجماعات الإسلامية المسلحة. وخلال الأسبوع الماضي استقبل بوتفليقة للمرة الثانية راشد الغنوشي في لقاء اعتبره التونسيون خطيرا باعتباره أكد حرص الجزائر على التدخل في الشأن التونسي وسعيها إلى المساس باستقلالية قرارها السيادي. وتحت الضغط السياسي والشعبي اضطر الغنوشي للإدلاء بتصريح صحفي مقتضب لوسائل الإعلام نفى خلاله «وجود وساطة جزائرية بين مختلف الفرقاء السياسيين التونسيين» مشيرا إلى أن لقاءه مع بوتفليقة لم يتعد «بحث سبل تعزيز علاقات التعاون بين البلدين». غير أن تصريحات الغنوشي تبدو غير مقنعة بالنسبة للسياسيين وكذلك غالبية التونسيين خاصة في ظل تواتر معلومات حول زيارة مرتقبة لكل من قائد السبسي والرئيس منصف المرزوقي إلى الجزائر خلال الفترة القليلة القادمة. وكشف الناطق الرسمي باسم حركة النهضة زياد العذاري جانبا من لقاء بوتفليقة والغنوشي مؤكدا أن رئيس الحركة «اطلع الإخوة في الجزائر على تطورات الوضع الانتقالي في بلادنا والوضع بصفة عامة» وهو تصريح يتناقض مع نفي الغنوشي ويؤكد أن الحركة الإسلامية الحاكمة «رحلت» الملف التونسي إلى الجزائر وهو ما يرفضه التونسيون رفضا مطلقا. وأكدت مصادر مطلعة أن الرئيس الجزائري أبدى خلال لقائه برئيس حركة النهضة رغبة بلاده في «حلحلة الأزمة السياسية» خاصة أن «العديد من المخاطر محدقة بمنطقة المغرب العربي نتيجة هشاشة الوضع الأمني» ملاحظة أنه طلب «التعجيل بإنهاء المرحلة الانتقالية» من أجل «الوصول إلى «مرحلة الاستقرار السياسي». ويرى التونسيون أن الرئيس بوتفليقة وضع قدمه في الشأن التونسي من «الباب الخطأ» باعتباره يجري وساطة مع الغنوشي وقائد السبسي الذين لا يملكان صفة رسمية تخولهم التحدث باسم الدولة التونسية ومصالحها وأن الأعراف الدبلوماسية تقتضي التعامل مع رئيس الدولة ورئيس الحكومة. وعلى الرغم من اقتناعهم بأن رئيس النهضة ورئيس نداء تونس يمثلان الشخصيتين السياسيتين الأكثر تأثيرا في المشهد السياسي إلا أنهم يرون بأن الرجلين ليس من حقهما الخوض في الشأن الوطني مع دولة أخرى حتى وإن تعلق الأمر بدولة جارة. غير أن ما يثير قلق التونسيين فعلا هو خوفهم من سقوط بلادهم في الاستنجاد بقوى أجنبية عربية أو غربية لحل أزمتها بعد أن عجز سياسيوها على حلها وهو ما سيفتح الباب أمام تلك القوى لترسم مستقبل تونس وفق أجندات بعيدة عن التطلعات الوطنية. ولا يستبعد التونسيون أن تكون وساطة بوتفليقة بداية لترحيل سيادة القرار الوطني إلى عواصم أجنبية مثل واشنطن وباريس في ظل تجاذبات سياسية حادة بين الفرقاء السياسيين وخاصة بين الإسلاميين والعلمانيين. ويبدو المجتمع التونسي المسيس بطبعه على وعي عميق بأن اهتمام الجزائر بالشأن الداخلي لبلادهم إنما يهدف بالأساس إلى المحافظة على مصالحها الإستراتيجية قبل كل شيء من خلال إدارة الملف التونسي والقيام بدور في رسم ملامح المشهد السياسي الوطني. وقد أعلن رئيس الحكومة الجزائرية، عبدالملك السلال أن بلاده تعمل من أجل الاستقرار في تونس من دون التدخل في شؤونها الداخلية. وقال خلال زيارة لولاية تبسة القريبة من الحدود الجزائريةالتونسية إن «تونس دولة شقيقة ونحب لها الخير، ونحن نسعى لكي تستقر الأمور فيها». وأضاف أن «الجزائر لا تتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، لأن ذلك يعد مبدأ أساسياً لسياستها الخارجية». وتابع: «طلب منا النصح للخير، وقد قمنا بذلك من أجل التقريب بين الأخوة حتى يتمكنوا من إيجاد حلول للمشاكل التي تعيشها بلادهم تونس». وهذا ما أكده المحلل السياسي الجزائري عثمان اللحياني بالقول أن «الجزائر تضغط على طرفي الصراع في تونس (النهضة ونداء تونس) من اجل تقديم تنازلات لتجاوز الأزمة الحالية» مشددا على أن «الجزائر تتخوف من تدويل الأزمة التونسية وتدخل أطراف دولية». وتؤكد مثل هذه التسريبات أن الرئيس بوتفليقة يحاول أن يلقي بثقل الجزائر في الشأن التونسي من خلال «وساطة مفروضة على الشعب التونسي» الذي يرى فيها انتهاكا لسيادة البلاد تعكس حالة من «العجز والضعف» لفرقاء سياسيين لم يتوصلوا إلى حل مشكلاتهم الداخلية من جهة، وتعكس سعي الجزائر إلى المحافظة على مصالحها والهيمنة على تونس من جهة أخرى. وتأتي وساطة الرئيس الجزائري على خلفية تعثر الحوار الوطني الذي يهدف إلى تشكيل حكومة كفاءات غير متحزبة جراء تمسك حركة النهضة بفرض مرشحها لرئاسة الحكومة المرتقبة أحمد المستيري ورفضها مناقشة أي مرشح آخر تقترحه المعارضة. ويخشى التونسيون أن تؤدي وساطة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى إضعاف قدرة الفاعلين السياسيين على حلحلة الأزمة التي تعيشها البلاد بأنفسهم ومن ثمة إنهاك القرار السيادي لبلادهم وارتهانه لدى الجزائر الدولة القوية اقتصاديا التي تربطها مصالح إستراتيجية مع تونس.