هناك في رواية (العمى) للروائي البرتغالي الراحل جوزي ساراماغو، لحظة حاسمة وكفيلة بأن تكشف أمامنا نسبية الكثير من المواقف والأفكار الإنسانية. إنها اللحظة التي ستتطوع فيها السجينة الوحيدة في معسكر الاعتقال التي مازالت تبصر، لتطلب من الحراس الإذن لدفن الموتى. تقترب من البوابة الحديدية الضخمة، وتقف أسفل أبراج الحراسة وتظل تصرخ لكنها تكتشف باندهاش أن الحراس رحلوا، وأن باب المعسكر مفتوح وأن لا أحد يحرس العميان المساجين فتصرخ بملء فيها: (نحن أحرار...أحرار). معنى ذلك أن العميان ظلوا أياما حبيسي الجدران في معسكر لم يكن يحرسه فيهم سوى عماهم، وأن الحرية في نهاية المطاف قد تكون مجرد وهم، تماما كما السجن الذي ظلوا فيه مجرد وهم، وأنهم مثل أبي العلاء المعري كانوا رهيني محبسي العمى والجدران. ذكرني هذا الحدث بقصة قصيرة جدّا قد تكون في وجازتها الدالة والمحيرة، شبيهة بحكاية ميتافيزيقية لكافكا عنوانها (القانون)، وتحكي عن شخص قيل له بضرورة الوقوف أمام باب القانون في انتظار الدخول، وكان هناك حارس يقف أمام الباب. ظل الشخص سنينا واقفا أمام باب القانون ينتظر الإذن بالدخول إلى أن شاخ واشتعل رأسه شيبا وهرم معه الحارس، الذي أخبر الشخص المنتظر في أحد الأيام بأنه ملزم بإغلاق الباب، والذّهاب إلى حال سبيله خصوصا بعدما بلغ من العمر عتيا، وحين تساءل الشخص بأنه لم يلج بعد باب القانون، أخبره الحارس العجوز بأن هذا الباب يخصه وحده، وأنه ظل سنينا مفتوحا له وحده ليلجه ولكنه لم يفعل. أسقط في يد الشخص وعاد يجر أذيال اللاجدوى. القانون هناك أيضا ليس مسألة قارة ولا ملفوظا ثابتا ولكنه مجرد وجهة نظر، فقد فضل الشخص انتظار الإذن بالدخول سنينا علما بأنّ الباب مفتوح أمامه وممنوح له. الحرية كانت أقرب إلى شخصيات رواية ساراماغو من حبل الوريد، ولكنهم لا يستطيعون إدراكها ورؤيتها ولن يستطيعوا ذلك، إذ ما الجدوى من التمتع بالحرية في بلاد تحوّل كل أفراد ساكنتها إلى شعب من العميان. مؤكد أنها ستظل حينها مجرد حرية بالقوة لا بالفعل. وما الجدوى أيضا من أن نتوق للحرية وننتزعها إذا لم نكن أحرارا في ذواتنا كأفراد أولاّ وكجماعة إنسانية ثانيا؟. إن الأنظمة الاستبدادية التي تؤسس للعمى السياسي والإنساني والفكري لا يهمها أن تحكم وتراقب وتحصي أنفاس أفراد ساكنة وقد صاروا عميانا. قد تضعهم في البداية في معسكرات اعتقال حين تصاب بالهلع من أعدادهم المتزايدة والانتشار الوبائي للعمى بينهم، ولكنها تكتشف في لحظة مّا بأنه لا جدوى من حكم العميان وقيادتهم. لقد قال المعري، ذلك الشاعر والمفكر والشاك الكبير بيتا دالاّ في هذا السياق، علما بأن المعري لم يكن سلطة ولا نظاما سياسيا والذي قطع متطرفون إسلاميون مؤخرا رأس تمثاله المنتصب في إحدى ساحات بلدته (معرة النعمان). لقد قال المعري: (أنا أعمى فكيف أهدي الناس والناس كلهم عميان). قد لا نتحدث هنا عن عمى البصر إلا مقرونا بعمى البصيرة، والثاني، دون شك، أشد هولا وخطرا من الأوّل. ما الجدوى إذن من أن نكتشف الشواطئ الفسيحة، والحدائق الغناء، والسهوب البكر للحرية، وأن نصرخ مرددين ملفوظا إنشائيا performatif: (نحن أحرار. نحن أحرار)، بعدما صرنا عميانا. يكتفي ساراماغو بنوع من السرد الموضوعي للأحداث التي تنذغم فيها شخصيات روايته (العمى)، فيصف لنا كيف تحول مجتمع العميان الأسير بين جدران معسكر الاعتقال إلى جماعات وعصابات متناحرة، مستنسخا نفس التفاوتات والتجاذبات التي تنتظم مجتمع المبصرين. لقد تحول مجموعة من العميان إلى فئة اجتماعية شرسة ومستغلة، تحتكر حصص الطعام التي يسلمها الحراس للمساجين وتغتصب نساءهم العمياوات، وتفرض عليهم إتاوات عينية فقط لأن زعيم العصابة يمتلك مسدسا، بينما تحوّل الفئة الأخرى المستغلة (بفتح الغين) إلى جماعة تفكر في الثورة والانتقام، وهو ما حدث في النهاية وخلف موتى ومعطوبين كثيرين. هل هذه الشخصيات ضحايا أم هي مسؤولة عما حدث لها؟ يكتفي ساراماغو بالوصف الروائي الدقيق الذي لا يخلو من مسحة تخيلية سوسيولوجية ولا يمنحنا جوابا، شأنه في ذلك شأن الروائيين الكبار، تماما كما فرانز كافكا في روايته (المحاكمة)، فلقد استيقظ (جوزف كافكا) في أحد الأيام ليجد بأن حياته قد انقلبت رأسا على عقب ولم يعد يملك أي ضمانة لحمايتها لأنه صار متهما، تماما كما استيقظ (غريغور سامسا) يوما في رواية (المسخ) ليلفي نفسه وقد تحول إلى حشرة. لا أحد منهما (جوزف كافكا) و (غريغور سامسا) حافظ على هويته السابقة. يتساءل جوزف كافكا عمّا فعله عاجزا عن فهم الآخر والعالم. قد لا تكون شخصيات رواية (العمى) ضحايا تماما كما الشخص المنتظر في قصة كافكا القصيرة قد لا يكون هو الآخر ضحية. إنه مجرد افتراض. هل كانت الحشود الألمانية التي انتخبت هتلر ضحية؟. أحيانا يلزمنا اختيار تشاؤم العقل ضدّ تفاؤل الإرادة وحينها قد تصير الأجوبة ممكنة. لقد كان السؤال الأساس والحاسم الذي قاد سبينوزا الفيلسوف الفذ إلى كتابة (رسالة في اللاهوت والسياسة) هو الأحداث الدموية الرهيبة التي عرفتها هولاندا في القرن السابع عشر وهو السؤال: (لماذا يناضل الناس من أجل عبوديتهم كما لو أنهم يناضلون من أجل حريتهم؟). لن نكون أحرارا أبدا ونحن عميان. إنّ العالم الوحيد الذي يمكن داخله أن ننعم بالحرية بالرغم من أننا عميان هو عالم الخراب والكارثة، أي العالم الذي سنفقد فيه كلية وجودنا الإنساني، والسياسي والفكري. إنه الحياة الكارثية والمشوهة التي تسودها الانهمامات الحزينة والارتكاسية عوض الانهمامات الفرحة والفعالة. إنه العالم الذي ننفصل فيه عن قدراتنا وإمكانياتنا ونصير/نتحرك كآلات معطوبة. لا تسود في عالم الحياة المشوهة هذا غير سلطة الزائف، السلطة الوحيدة التي توهمنا بأننا قد صرنا أحرارا، وداخل هذا العالم بالذات نندغم في نوع من العبودية المختارة وننخرط في سرود زائفة حيث يتحول القهر والاستعباد إلى انعتاق وحرية، والخطاب القروسطي النكوصي إلى خطاب ثوري، والانكفاء على الماضي إلى تقدم نحو المستقبل. يجب أن لا ننسى بأن الشخص الذي ظل ينتظر أمام العتبة، ولم يلج باب القانون إلى أن شاخ وهرم وغادر الحارس مكانه بعدما أغلق الباب، لم يفعل ذلك لأنه ظل سنينا واقفا ينتظر الإذن له بالدخول. السرد الأساس لا يمنحنا الراحة أبدا ولكنه يقودنا إلى العمق اللجي للأسئلة، وفي رواية (العمى) قد يكون العمى المعمم، عودة إلى رحم بدئي يكتشف داخله كل فرد غرائزه الكامنة، أو نوعا من النبوءة العمياء لما يمكن أن تكون عليه الكائنات الإنسانية في عالم فقد روحه وسحره، أو قد يكون العمى استعارة تقول الوجه الآخر لعالم قد صار مسكونا بالعميان من فرط الرؤية، رؤية الصور المتناثرة على الشاشات مثل جثت نتنة متحركة، رؤية مختلف مظاهر الاستهلاك المعمم، رؤية الأشكال والصور الزائفة التي تحاصرنا يوميا على شاشات التلفزة والحواسب والهواتف المحمولة وعلى جدران فيسبوك وفي تغريدات تويتر وكوارث أخرى. ما الجدوى من اكتشاف الحرية في عالم مليء بالزيف والعمى؟. لا نتحدث طبعا عن العمى السياسي الذي قد يكون أمره أحيانا كثيرة منذرا بأوخم العواقب، بل عن العمى الذي يقود حشودا بأكملها إلى الانوجاد على هوامش التاريخ وهي التي تعتقد واهمة بأنها تصنع التاريخ. هذا العمى شبيه بغياب العالم، أو بالاضطلاع الإرادي بالغياب عن العالم. نستحضر أيضا عمى أوديب في مسرحية سوفوكل (أوديب ملكا) حين سيسمل عينيه، حتى لا يرى كوارث الحقائق التي اكتشفها بغتة بعد أن رفض سماعها حين كان ملكا مستبدا وهي تسرد على لسان أعمى آخر هو العراف تيريزياس، ذلك الكائن الأندروجيني بامتياز. العمى الأوديبي كان حلاّ، هروبا من واقع كارثي، قبل التيه على أبواب أثينا في مسرحية (أوديب في كولون). داخل عالم عمّه الخراب والكارثة يمكن أن تكون الحرية التي يكتشفها العميان بلا حدود، أي حرية فعل كلّ شيء وبأي طريقة كانت، أي حرية أن نكون داخل عالم لم يعد لنا، لم يعد قادرا على استضافتنا، الحرية الشبيهة نوعا مّا بحرب الكل ضدّ الكل التي تهيمن، حسب هوبز، في حالة الطبيعة....