سرقسطة رواية للأستاذ الميلودي شغموم . صدرت عن وزارة الثقافة ، سلسلة إبداع ، سنة 2013 . الحجم متوسط . عدد الصفحات 146 . صورة الغلاف لوحة تشكيلية بديعة للفنان رشيد الطالب . قسَّم الكاتب المتن المحكي إلى أربعة وعشرين فصلا . هذا الرقم في نظري ليس وليد الصدفة فهو يرمز إلى اكتمال دائرة زمنية ، كي تبدأ أخرى معلنة صفر ساعة من الزمن . الزمن بهذا البعد ينطبق تماما على الزمن العام المؤطر لأحداث الرواية . هذا الزمن الدائري هو إحدى البنيات الأساسية في هذا العمل السردي ، الذي تحكمه بنية مغلقة ؛ إذ تبدأ بخروج السارد من أغمات مدفن جده الشاعر الملك المعتمد بن عباد في اتجاه سرقسطة الأندلسية ، وتنتهي بعودة السارد بعد أداء المهمة التي كلف بها إلى أغمات . تنطلق الأحداث من باب مدينة سبتة نقطة العبور إلى الأندلس في زمن أومأ إليه الكاتب في السطور الأولى من الرواية بالرجل الملثم ، كما ذكره صراحة في الصفحة الأولى .»... يتابع الصوت الملثم ، لا يفسد الوارث الذي على رأس السلطة،لكن النظام هو الذي يفسد من كثرة الانتهازيين، والوصوليين ، وسائر المتدافعين على مصالحهم الخاصة . أوَ ليست هذه حال المرابطين اليوم ، وقد كانوا في أولهم مصلحين ؟ « [ ص: 3 ] من خاصيات هذا الزمن أنه زمن الفتن سواء في المغرب ، أو الأندلس . هذا المعطى التاريخي ساهم في تأزمه عامل المناخ ؛إذ توالت سنوات عجاف أتت على الأخضر واليابس، واضطر الناس إلى أكل الحمير،والأفاعي، والفئران ، وسائر الحشرات من عقارب ، ونمل ، وسحالي . أكلوا الكلاب ، وفتك القوي بالضعيف بدون شفقة ولا رحمة. زمن اختلت فيه القيم بحيث ثمة من باع أبناءه ، أو زوجته للأغراب، كما ورد إلى علم السارد أن الكثيرين منهم أكلوا أبناءهم . هذا الزمن اقترن أيضا بالعقم ، وانقطاع النسل. زمن نضوب الماء الأبيض» [ عنوان الفصل الثاني ] بحيث عجز الأزواج في تخصيب زوجاتهم «... لم يعد الذكور قادرين على مضاجعة نسائهم ، ومن بقيت لديه بعض الهمة لم يعد يجد ما يكفي من القدرة على الانتصاب .» [ ص 11 ] تبدأ الرواية بفصل « باب الأندلس « ، ويُقصَد به مدينة سبتة التي وقف السارد على مشارفها واصفا ، فهي» كعش طير بني فوق الماء ، ولا تتوقف الريح عن إبعاده عن اليابسة « [ ص: 3] هذا المكان الإستراتيجي ، والضاج تاريخيا بالأحداث جعل السارد يستعيد من الماضي المشرق أحداثا مجيدة صنعها أبطال عظام من قبيل طارق بن زياد ، الذي أحرق بعد العبور السفن كي تكون النتيجة إما النصر، أو الموت. هذا البطل طاله الإهمال ، والإقصاء من طرف طغاة زمانه ، برغم ما قام به من بطولات لا نظير لها. هل لأنهم وهو الأمازيغي استكثروا عليه ملحمة العبور ، والفتح المبين ؟ انتهى الأمر بفاتح الأندلس إلى التسول في أزقة دمشق ، التي مات فيها فقيرا سنة 729 م [ ص 6 ] . في الرواية أكثر من سارد ، إلا أن صوت السارد المشارك ، والمصاحب لنا في القراءة هو المهيمن من خلا ضمير المتكلم . اسمه لم نتعرف عليه إلا في الصفحة السادسة والخمسين من خلال مونولوج يحث فيه نفسه عل عدم الاستسلام لمشاقِّ الطريق « ... كنت أقول لنفسي في كل مرة أشعر فيها بأن حزمي سيخذلني : اسمع ، يا أبا البهاء ، إنك تولد من جديد ، قويا وسعيدا ، وأبو البهاء القديم ، الذليل الحقير، قد رحل إلى رحمة الله غير مأسوف عليه ، بدون حداد .» اقترنت الولادة الجديدة للسارد بسقوط أمطارغزيرة فرح لها الناس» مهللين ، مبشرين ، مبللين ، فتعود إليَّ الإرادة وتقوى ، من جديد قدماي على المشي .»[ص57] . نلاحظ أن اسمه لم يبح به إلا لنفسه ، مخافة ما سيترتب عن ذلك من مخاطر محدقة تهدد حياته ، فكل الملثمين الموجهين لمسار رحلته بدءا من أغمات أكدوا له أن النطق باسمه لأي غريب معناه الموت. عدا الاسم نعرف أن السارد قبل خروجه في رحلة إلى سرقسطة كان محبا للأدب والفلسفة برغم اشتهاره بالطب ، الذي تركه ، لأنه غدا مهنة يمارسها كل من هب ودب من الدجالين والمشعوذين. اهتم بحرفة أبيه، واشتغل ورَّاقا ينسخ الكتب . نعرف عنه أيضا أنه من قبيلة هرغة المصمودية بالأطلس الصغير ، والتي كانت دائما في صراع مرير مع المرابطين المنحدرين من قبيلة صنهاجة الصحراء . الحدث الرئيس في الرواية هو خروج السارد من مدينة أغمات في مهمة سرية باتجاه مدينة سرقسطة . المهمة هي حمل كتاب « استغرب له لأنه خليط من ديانات التوحيد الثلاث « فيه آيات مختارة من القرآن ، وأخرى من التوراة والإنجيل مكتوبة بخط مغربي جميل « . [ ص20 ] كان عليه أن يمر بعدة محطات وصفت بالتدرج على خارطة الطريق . لا يعرف مساره إلا من خلال ملثمين ، وهم في الغالب نساء جميلات متنكرات ، وقد كشفن عن سرهن بعد التأكد من هويته ، وأنه صاحب « المشعل المنير» 1 ، بل منهن من جادت عليه بجسدها الجميل، ومنحته لحظة دفء عابرة . ولأنه صاحب مهمة صعبة ، اختبر عدة مرات ، بل تعرض لتسمم لا يفضي إلى الموت لاختبار مدى قدرة جسده على التحمل . تسول أحيانا ، بعد أن أهمل نفسه حتى يظهر في هيئة شحاذ ، كما أنه وضع عجمة على لسانه ، إذ يلحن في الكلام لكي يُخفي هويته ، وذلك من باب الحيطة ، والحذر لأن عيون الأعداء من الجواسيس ، والمخبرين تترصد في كل مكان أي مشتبه فيه . استطاع بعد أن أدرك خطورة الأمر أن يجتاز كل اختبار، وامتحان بسلام ، وقد ساعده في ذلك ذكاؤه ، وفطنته ، وما يعرفه من علوم ، وآداب عصره ، فهو من كبار مثقفي زمانه ، ولو لم يكن في حجم المهمة لما كلف بها . بعد عبوره لعدة مدن ، وجهات استطاع أن يصل إلى سرقسة التي تعيش آنذاك أوضاعا سيئة كباقي ممالك الأندلس بسبب التفرقة ، والصراع ، والحروب بين الأشقاء ، والتهديد المستمر للملوك النصارى ، وفي طليعتهم الفونسو السادس ملك برشلونة . كان يحمل كتابين ؛ الأول حمله معه من مراكش من طرف السلطان، والثاني منحته له في الشاوية مبروكة الداودية . كتابان : واحد للحقيقة ، والثاني للتمويه ، وفي كل منهما صفحات بيضاء حاملة لخطاب سري لا يقرأ إلا باستعمال مادة خاصة . هذا الخطاب المشفر تردد كثيرا في الرواية ، بحيث لا أحد استطاع فك لغزه . خطاب يبشر بقائد « يفتح الدنيا شرقها وغربها ، وكما كان في الأول سيكون في الأخير.» [ ص : 63 ] تنتهي الرواية بسقوط سرقسطة .تنتهي باستفسار السارد عن المهمة الغامضة التي كلف بها ، ويأتيه الجواب على لسان أحد صقور هذه الرواية « يا أخي ، وابن عمي ، هذا الكتاب بطاقة هوية نتعرف بها على بعضنا البعض ، ونستدل ، ومرشد المهمة المخطط لها ، منذ الأول، من طرف جدنا « ، والمقصود بهذا الجد هو المعتمد بن عباد . الرواية غنية بعدة أبعاد يلزمها أكثر من ورقة . هامش 1 المقصود بالمشعل هو المهدي بن تومرت ، الملقب بأَسَفو ، أي المِشعل بالأمازيغية .