لحسن العسبي حين تبحث عن سيرة باحث مغربي مرموق، من طينة الراحل محمد العيادي، تكاد لا تجد شيئا يذكر من المعلومات عن قصة حياته، تلك التي عاشها بكبرياء ونزاهة. هل ذلك راجع، لطبيعة شخصه في حياته، التي جعلته زاهدا عن الظهور وعن الإهتمام بالذات قدر اهتمامه بالموضوع (سؤال الجماعة، سؤال الفكر، سؤال التاريخ)، وأنه كان ذمث الأخلاق، من ذلك النوع من الرجال الذي يسرع في الإنسلال من الضوء للفرح بالتنقيب في متون الكتب التي تعنيه فكريا؟. هل لذلك علاقة بأصوله الأمازيغية، هو القادم من ثقافة سلوكية لا تهتم كثيرا بالذات (ثقافة الأعالي، عكس ثقافة المدينة التي لها آليات أخرى للتواصل تجعل الذات مركزا للإستثمار المادي والرمزي)؟. أليس الطفل الذي كانه، القادم عائليا من أعالي الأطلس الكبير، هناك قرب إيمنتانوت (التي تعني في الأمازيغية «فم البئر» وأيضا «فم بيت النار»)، التي تعتبر واحدة من أجمل المناطق الطبيعية في الأطلس الكبير، استمرار خضرة وجريان مياه وشلالات على طول السنة، هناك حيث النسر سيد، وحيث الأيائل تختال بين الشعاب، وحيث ماء الثلج القادم من سلسلة الجبال المحيطة بتوبقال جنوبا غربيا، يهب للطبيعة أن تكون جنة فوق الأرض. هناك أيضا وهبت للإنسان (ذكورا وإناث) جمالا ربانيا خاصا مميزا في كل بلاد الأمازيغ السوسيين.. أليس الطفل ذاك، إنما تشرب معنى الصمت والتأمل والتواضع من بئر تلك الثقافة؟. أليس أنه طفل شبع باكرا من دروس الحياة؟. هو الذي ولد بالرباط يوم 25 أكتوبر 1948 بحي المحيط غير بعيد من الثكنة العسكرية القديمة، التي تحولت فيما بعد إلى حي جامعي ثم إلى مستشفى عسكري اليوم (مكر الصدف شاء أن يصدر هذا الملحق المحتفي به، اليوم 25 أكتوبر 2013، أي في يوم عيد ميلاده 65). وتشرب اليتم باكرا، في سن الخامسة، حيث رعاه وتكفل به خاله، التاجر الصغير بالمدينة القديمة، حين كانت المدينة القديمة بالرباط مثل عائلة واحدة. كانت الرباط، حينها، كما يحكي عنها أحد أكبر العارفين بقصتها وسيرتها، الدكتور فتح الله ولعلو، مدينة تتحول من مدينة اقتصادية تجارية، بميناءها النهري/ البحري (على نهر أبي رقراق)، بسبب توسع ميناء الدارالبيضاء وميناء القنيطرة النهري (على نهر سبو)، إلى مدينة إدارية، بعد أن اختارها الماريشال ليوطي عاصمة للمغرب سنة 1913. كانت أحياؤها الجديدة، خارج أسوار المدينة القديمة، قد بدأت في التشكل، بتوزيع سوسيولوجي جديد، حيث أحياء الأروبيين موزعة بين حي المحيط الجديد (الأوربيون البسطاء من الموظفين والجنود والتجار الصغار من الكورسيكيين والإسبان والبرتغاليين)، وحي حسان (الأوربيون الفرنسيون الأغنياء والقادة)، وحي الضباط العسكريين (حي مابيلا). بينما بدأت تتشكل أحياء المغاربة الجديدة حينها في أواسط الأربعينات، من العائلات التي غادرت المدينة القديمة، حسب مكانتها الإجتماعية اقتصاديا، إما باتجاه حي ديور الجامع وحي الليمون (الشرائح المتوسطة والغنية)، أو باتجاه حي العكاري (الشرائح المتوسطة الفقيرة)، وبدأت تتشكل أنوية أحياء صفيح بدواري الدوم والمعاضيض (يسكنها أساسا مهاجرون من الصحراء ومن طاطا) والتي تحولت في ما بعد إلى أحياء يعقوب المنصور والنهضة. في هذه الرباط، كبر الطفل محمد العيادي، بحي المحيط، مجاورا الأوربيين الصغار، متأملا الحياة بعين من لا يعول سوى على ذاته أمام خواء العالم (فالأم ليست هنا ولا الأب. حتى والخال أب ثان، يقول المثل المغربي، وكان رفقة عائلته من زوجته وأبنائه خير السند له دوما). علبة أسراره، التي يمثلها رفيق عمره وصديقه الأستاذ أحمد المتمسك (الأستاذ الباحث سابقا بالمدرسة العليا للأساتذة بالدارالبيضاء)، سيؤكد لنا أن الطفل ذاك، ربح سنة كاملة من دراسته الإبتدائية، بسبب نجابته، حيث قرر مدير مدارس محمد الخامس أمام طاقة عطاء وذكاء مثل التي كانت تصدر عنه، أن يلحقه مباشرة بقسم المتوسط الثاني. ولم يكن ذلك المدير سوى المربي الوطني الكبير عثمان جوريو، مربي الأجيال، والرجل العلم، العالي قيمة في سيرة الشرف والوطنية. ألم يعلمنا المثل المغربي الأمازيغي أن «الشوك يخرج حادا من تحت الأرض»، فبقي التلميذ محمد العيادي يطوي السنوات الدراسية بذات النجابة والنجاح حتى حاز الباكالوريا سنة 1968، وقرر الإلتحاق بشعبة الفلسفة بكلية الآداب بالرباط (القسم العربي)، حيث قضى بها سنوات 1969 ? 1972. ولمن لا يعرف قصة الجامعة المغربية في شقها الطلابي وفي شقها التربوي لطواقمها المؤطرة المدرسة، فإن هذه السنوات هي أغنى وأشد السنوات نضالية في تاريخ الجامعة المغربية، على مستوى المنظمة الطلابية العتيدة الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، وأيضا على مستوى المنظمة النقابية الوليدة، النقابة الوطنية لأساتذة التعليم العالي. في تلك السنوات كانت الفكرة الإتحادية والفكرة اليسارية الماركسية اللينينية في أوجهما، وكانت شعبة الفلسفة أكبر مجالات الحراك والمواجهة والنقاش. وفي خضم ذلك الجو، تشرب الطالب محمد العيادي معنى النضال الطلابي وانخرط فيه، بل وانخرط حتى في النضال النقابي باكرا لرجال التعليم، هو الذي تسجل بالتوازي في شعبة الفلسفة وأيضا في المدرسة العليا للأساتذة، التي تخرج منها سنة 1972 (السنة الحامية جدا في تاريخ المدرسة والجامعة المغربية)، وعين بعدها مباشرة، أستاذا في واحدة من أرقى ثانويات الدارالبيضاء، وأشدها سخونة على مستوى نقابة التلاميذ، هي ثانوية الأمير مولاي عبد الله، بحي لارميطاج. كان المرحوم محمد العيادي، على عادته في الجدية في العلائق وفي وضوح الرؤية له مع ذاته، قد اختار رفيقة حياته، السيدة ليلى العيادي (الإطار البنكي) وتزوجا وهو لا يزال طالبا سنة 1970، أي أنه تزوج وعمره لا يتجاوز 22 سنة (مرة أخرى اختار جيدا تاريخ زواجه، الذي كان يوم عيد ميلاده يوم 25 أكتوبر 1970). رزق بعدها بابنه البكر شريف العيادي (الدكتور المتخصص في طب العيون حاليا)، ثم رزق بابنته لبنى (الطبيبة المتخصصة في طب حوادث الشغل اليوم)، وحين كبر الأبناء، كما يحكي زميله في شعبة الفلسفة بكلية الرباط، الباحث والمفكر المغربي كمال عبد اللطيف، أصبحوا أقرب لإخوته الصغار من أن يكونوا أبناءه، فظلت صداقته لأبنائه رأسمالا فريدا ظل دوما يغري صحبه وزملاءه ويغبطهم. ورغم كل مسؤوليات الحياة التي دخلها باكرا، وهو في تلك السن الشابة جدا، لم يتوقف أبدا عن إكمال طموحه في الإنتصار من أجل البحث العلمي الأكاديمي العالي، حيث قرر إكمال دراساته العليا بباريس، وهناك حاز على دكتوراه السلك الثالث سنة 1978، ثم على دكتوراه الدولة في شعبة التاريخ بجامعة دينيس ديدرو السابعة بالعاصمة الفرنسية سنة 1997. علما أنه كان قبل قد تسجل بالمدرسة العليا للتجارة والتسيير بالدارالبيضاء وحصل منها سنة 1976 على دبلوم عالي في مجال التسيير. وفي كل رحلته العلمية الأكاديمية تلك، كانت السند هي الزوجة ورفيقة الطريق. حينها، في بداية السبعينات، بدأ صوته العلمي يطل على الدنيا، من خلال دراسات فلسفية وتاريخية تنشر هنا وهناك، باللغتين العربية والفرنسية، قبل أن ينتصر أكثر للكتابة بلغة موليير، التي أصدر بها أرصن كتبه وأبحاثه المعرفية. كان الباحث الشاب متشربا لابن رشد، عاشقا له تجربة معرفية وإنسانية، يؤكد صديقه الأستاذ أحمد المتمسك، مثلما كان شغوفا بكتابات المفكر المغربي عبد الله العروي، وبكتابات الطيب التزيني الأولى في المشرق العربي. قبل أن يكتشف وهو أستاذ باحث، انتقل للتدريس بكلية الآداب عين الشق بالدارالبيضاء، أبحاث المفكر الجزائري محمد أركون، ويرتبط به صديقا سنوات بعد ذلك، خاصة حين أصبح مهتما علميا وأكاديميا بالسؤال الديني في المغرب وأصبح واحدا من أهم المراجع الأكاديمية فيه. وكانت له مكرمة الإنتباه لأهمية الصورة في عالم اليوم، فأشرف على تقديم برنامج تلفزي بالقناة الثانية (دوزيم)، ظل إلى اليوم واحدا من أرصن البرامج الفكرية والثقافية باللغة العربية التي عرفها المشهد التلفزيوني المغربي، حيث استضاف فيه كبار المفكرين المغاربة والمغاربيين والعرب والأروبيين، في ندوات حوار ونقاش علمي جد رفيعة معرفيا وأكاديميا وتواصليا أيضا. وفي المسافة بين بداياته المعرفية الأولى نشرا وكتابة وبين آخر أبحاثه العلمية الرفيعة في سؤال الشأن الديني بالمغرب، كان قد انخرط في كل مجالات البحث الفلسفي التدريسي التربوي بالمغرب، وكان اسمه دوما حاضرا في كل مفاصل آليات التفكير في الشأن التعليمي بالمغرب، وحاضرا في كل مجلات البحث العلمي الأكاديمي الفلسفية والتربوية والتعليمية بالمغرب، وأستاذا زائرا في كبريات الجامعات الأروبية (باريس، مدريد، برلين، جنيف)، وعضوا مساهما في مؤسسات بحث علمي دولية، خاصة في ألمانيا وإسبانيا وسويسرا، وعضوا أكاديميا بارزا في مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للثقافة والأبحاث، واسما لا استغناء عنه قط، كمرجع علمي رصين في مجال فهم التحولات المعتملة سوسيولوجيا بالمغرب، وكان رفقة جيل من الباحثين الأنثربولوجيين والسوسيولوجيين المغاربة (أساسا رفاقه وأصدقاؤه: حسن رشيق ومحمد الطوزي ورحمة بورقية)، قد نجحوا في أن يشكلوا ليس فقط فريقا علميا، بل أن يؤسسوا لملامح مدرسة جديدة مغربية في مجال السوسيولوجيا المدينية وفي مجال السوسيولوجيا الدينية. كل ذلك، وهو مكتف فقط بعالمه المعرفي، بمكتبته الخاصة الغنية جدا، بسفرياته العلمية المنقبة عن الحقيقة المعرفية الرصينة، غير مهتم بالأضواء، غير متردد في النشر في أي مجلة علمية مغربية حديثة الصدور أو راسخة الصدور، وكان دوما يصدر عن روح العارف الفقيه، التي رأسمالها الأبقى التواضع العالم والأثر الطيب في الناس. محمد العيادي الذي غادرنا بعد مقاومة لمرض السرطان بباريس، له مع شهر أكتوبر حكايات مثيرة وقدر أكثر إثارة. لقد ولد يوم 25 أكتوبر 1948، تزوج يوم 25 أكتوبر 1970، تم تعيينه أستاذا لأول مرة في حياته المهنية في شهر أكتوبر 1972، وتوفي يوم 9 أكتوبر 2013. توفي في نفس يوم وفاة الشاعر المغني البلجيكي الشهير جاك بريل (9 أكتوبر 1978)، وفي مكان ما يسمع صدى أغنيته الشهيرة «أنظر يا فتى» كما لو أنها تخاطب الطفل الصغير الذي كانه محمد العيادي، في بحر يتمه الباكر، وهي تقول: «أنظر يا فتى، أنظر جيدا في ذلك المنبسط الكبير هناك، على مرمى السنابل، بين السماء والطواحين، هناك رجل قادم لا أتبينه.. أنظر من ذاك القادم من بعيد، هناك، أنظر يا فتى جيدا، هل هو جار قديم؟ مسافر تائه؟ على صهوة فرس، مثل العائد من حرب؟. أم هي فقط الريح تنفخ الرمل والتراب؟».. محمد العيادي، في مكان ما، ينظر للفارس ذاك، الذي ليس سوى هو، وقد انتصر على الوقت الصعب ونجح.