تعيش الإدارة العمومية المغربية واقعا مأزوما منذ ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، ولقد أصبح هذا الواقع أكثر تجليا مع اتساع إقبال المرتفقين والمواطنين على السواء, على الخدمات المطلوب من الإدارة وتقديمها بالسرعة والجودة اللازمتين للاستجابة للحاجيات الجديدة التي أفرزتها الحياة المعاصرة، لكن هذه الإدارة لم تتمكن من تجديد آليات وأدوات اشتغالها وتطوير كفاءات وقدرات مواردها البشرية للتلاؤم مع التحولات الجارية. وفي هذا الباب، لابد من الإشارة إلى أنه بالنظر إلى كون الإدارة، وكما هو معلوم، تعد بمثابة الأداة الأساسية بيد الجهاز التنفيذي من أجل تطبيق سياسته على أرض الواقع، فإن ذلك يتطلب في اعتقادنا، من الساهرين على هذا الجهاز الانفتاح الواسع على مختلف الفاعلين وإشراكهم الفعلي في كل ما يرتبط بصياغة القرارات وإرساء النظم والقوانين وتحديد قواعد العمل، وهو الأمر الذي أثبتت نجاعته كافة التجارب الدولية. ومن هذا المنطلق، يمكن التساؤل عن مدى تقيد الحكومة المغربية بمثل هذه الخيارات لترقى بالإدارة العمومية، على وجه الخصوص، كمشغل إلى مصاف الإدارات العصرية. لكن واقع الحال ببلادنا يؤكد استمرارية التوجه الأحادي في التعاطي مع العديد من القضايا التي تهم حياة المواطنات والمواطنين، وذلك ناتج بالأساس على ضعف النضج الفكري وغياب الإرادة السياسية المنفتحة على مختلف الفاعلين للمساهمة والانخراط، كل من موقعه، في كافة أوراش الإصلاح المفتوحة في أفق استكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية والحداثية، من منطلق تصور شامل للإصلاح بدءا بالإدارة العمومية ومنظومة الوظيفة العمومية التي لازالت تدبر بأساليب تقليدية وأنظمة وقوانين عتيقة يعود تاريخها إلى الحقبة الاستعمارية. فبالرغم من كل المحاولات المحدودة في التصور والإنجاز للإصلاح، في ظل تغييب الفاعلين والمعنيين المباشرين، التي قامت بها (المحاولات) البعض من الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام ببلادنا لمعالجة أمهات الإشكالات التي تتخبط فيها الإدارة العمومية عامة، والوظيفة العمومية على وجه الخصوص، والتي لم تنفذ إلى عمق وجوهر الاختلالات التي تعتري منظومتها، بل لم تعد كونها إصلاحات جزئية ولحظية ينتهي مفعولها بانتهاء اللحظة التي استوجبت القيام بها على نحو قيصري، وكان دوما مآلها ومصيرها الفشل. وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن مقاربة الاستشارة والتشاور مع أهم الفاعلين في مجال الإدارة عامة، وفي مقدمتهم ممثلي الطبقة العاملة وممثلي أرباب العمل، كما دأبت عليها العادة في ظل الحكومات المتعاقبة ولو بدرجات متفاوتة، كلما تعلق الأمر بملف يهم عالم الشغل، قد ولت إلى حين غرة في تدبير الحكومة الحالية لشؤون البلاد، ويتجلى هذا الأمر بوضوح من خلال انفرادها بالعديد من الملفات والقضايا باعتماد النظرة الأحادية، ولعل آخرها يتجسد في ما عرفه إعداد المناظرة الوطنية حول النظام الأساسي للوظيفة العمومية التي احتضنت أشغالها مدينة الصخيرات يوم الجمعة 21 يونيو 2013، والتي قاطعتها أغلب المركزيات النقابية للأسباب ذاتها. ولاشك أن الحكومة الحالية التي تعد استمرارا لسابقاتها في كل الالتزامات المبرمة، تعتبر المسؤولة الأولى والأساسية عن عرقلة منظومة إصلاح الوظيفة العمومية بتعاطيها الأحادي والانفرادي بملفات إصلاح الإدارة من جهة، وبتعطيلها الإرادي السلبي لما يقارب السنتين في رفض تفعيل أهم ما تبقى من مضامين اتفاق 26 أبريل 2011 المبرم بين الحكومة السابقة والمركزيات النقابية واتحاد مقاولات المغرب، حتى يتسنى بذلك التوافق على إصلاح أنظمة التقاعد كجزء من هذا الاتفاق، من جهة أخرى. ونظرا لأهمية هذه المضامين سواء بالنسبة لموظفي الدولة أو مستخدمي القطاع الخاص، فلا بد من الوقوف على البعض منها: فعلى مستوى القطاع العام لازالت أهم التزامات الحكومة تجاه موظفي الدولة عالقة بفعل تعنت وتشنج هذه الأخيرة، ومن ضمن هذه الالتزامات: - مراجعة الأنظمة الأساسية بالنسبة للهيئات ذات المسار المهني المحدود التي لا تسمح بالترقية إلا مرة واحدة أو مرتين من خلال إحداث درجة جديدة تحقيقا للانسجام بين الأنظمة الأساسية المختلفة، وإنصافا للموظفين المعنيين بتمكينهم من مسار مهني محفز؛ - المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية؛ - إصلاح منظومة الأجور؛ - إصلاح شامل للتعويض عن الإقامة؛ - مراجعة منظومة التنقيط والتقييم؛ - مراجعة منظومة التكوين المستمر؛ - مراجعة منظومة اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء... وعلى مستوى القطاع الخاص، هناك التزامات مهمة لم تر هي الأخرى النور، ومن بينها: - وضع برنامج للسكن الاجتماعي لفائدة الأجراء ذوي الدخل المحدود بالقطاع الخاص؛ - إدخال إلى حيز الوجود نظام التعويض عن فقدان الشغل الذي سبق التأكيد على أهميته إلى حيز الوجود في أقرب وقت؛ - تطوير العمل الاجتماعي داخل المقاولات بوضع مشروع قانون بإحداث وتنظيم المصلحة الاجتماعية للشغل داخل المقاولة؛ - مراجعة قانون الضمان الاجتماعي، لتمكين وفي مرحلة أولى مهنيي النقل الحاملين لبطاقة السائق المهني وأجراء الصيد الساحلي التقليدي من الاستفادة من منافع الضمان الاجتماعي؛ - وضع جدولة زمنية لدراسة ومعالجة النزاعات الاجتماعية المستعصية وكذا إيجاد الحلول النهائية بتوافق مع المركزيات النقابية لكل الملفات القطاعية... كما أن الحكومة، وإلى اليوم، لم تف بالتزامها بتسريع ملاءمة التشريعات الوطنية المتعلقة بالحقوق والحريات النقابية مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وأمام عجز الحكومة والأحزاب المشكلة لها على تملك أدوات ومنهجية المقاربة التشاركية مع الأطراف الأساسية في معادلة إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية وفي مقدمتها المركزيات النقابية، أصبحت بعض المؤسسات الوطنية ذات اختصاصات وطبيعة استشارية أو رقابية تقتحم مجالات تدخل في صميم النشاط الحكومي، حتى وإن كان القانون يجيز لهذه المؤسسات تقديم اقتراحات لإصلاح بعض المنظومات مثلا. ونذكر من هذه المؤسسات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمجلس الأعلى للحسابات وغيرهما. لكن هذا الواقع يطرح سؤال الإشراك الفعلي للفرقاء الاجتماعيين في أوراش الإصلاح التي تهم الإدارة ومواردها البشرية، وتساءل الجدوى من خلق لجن وطنية مشتركة بين الحكومة والمركزيات النقابية والباطرونا، كما هو عليه الحال بالنسبة لملف التقاعد التي أصبحت تتجاذبه جهات جديدة تتقدم بشأنه باقتراحات غوغائية وبهم محساباتي وهاجس مالي خارج تقديرات العقل المغربي وزمن التوافق السياسي الذي يعد أحد ركائز الاستقرار الاجتماعي ببلادنا. على هذا الأساس، يمكن اليوم، الجزم بأن إصلاح نظام التقاعد بالمغرب لا يمكن أن يرى النور إلا عبر توافق وطني بإشراك كافة مكونات المجتمع، وفي طليعتهم الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين، على أن يتم هذا العبور الحتمي بمقاربة شمولية لمنظومة الحماية الاجتماعية التي يجب أن تنسجم في مضمونها وأبعادها مع أوفاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المستحضرة في روحها وفلسفتها البعد الإنساني، على اعتبار أن الحماية الاجتماعية هي حق أساسي للشعوب يندرج ضمن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان. وهي أيضا واجب على الدول كونها تسهم في التماسك الاجتماعي وتدعم لبنات العدالة الاجتماعية من جهة، وترسخ أسس البناء الديمقراطي ودولة المؤسسات والمواطنة من جهة ثانية. فمسألة إصلاح نظام التقاعد على غرار عمليات الإصلاحات الكبرى ذات الحساسية والتعقيد، ليست وليدة عمليات محاسباتية ومالية تخضع لقواعد حسابية جبرية كما قد يتخيلها البعض من المسؤولين، حكوميين وغير حكوميين أيا كان موقعهم. ولنا أخلص الدروس والعبر في الإصلاحات التجزيئية والمتسرعة التي عرفتها منظومة الوظيفة العمومية سنة 2006 والتي لازالت آثارها السلبية سارية إلى اليوم، ومنها ملف المغادرة الطوعية ومنظومة التقييم والتنقيط وغيرها، بل أن الإصلاحات المرتقبة بالإضافة إلى أنه يتعين في الشرط التاريخي للمغرب أن تراعي بما يكفي من التقدير الجاد والمسؤول للتوازنات الاجتماعية المختلة، على أن تكون في الأساس نتاج مزيج من الدراسات الرصينة والمتأنية في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسوسيولوجية وغيرها مع الاستئناس طبعا بالدراسة الاكتوارية ليس إلا، بهدف ضمان انتقال سلس من وضعية اجتماعية إلى وضعية أخرى دون المساس بالتوازنات الأسرية المبنية على ضمان تقاعد يحفظ الكرامة ليس فقط للمتقاعد بعينه، لكن أيضا وبطريقة ضمنية لغير العاملين بحكم أزمة التشغيل أو حتى لأسباب ترتبط بالوضع الصحي أو التقدم في السن دون التوفر على ضمان اجتماعي، من داخل الأسرة الوحيدة وهم كثر في أحايين ليست بالقليلة من بينهم، الوالدين والأخوات والإخوة الذين يعيشون على حساب المقبل على التقاعد المعيل لهذا الكم الهائل من العاطلين، ومن ضمنهم المعطلين أصحاب الشهادات ومن بين الأولاد، وذلك في إطار التضامن العائلي الساري المفعول به لعقود بالمجتمع المغربي، في غياب دور الدولة في الحماية الاجتماعية، والذي لا يمكن أن يستمر كذلك إلى ما نهاية في ظل اشتداد وصعوبة الأوضاع الاقتصادية ليس فقط على القدرة الشرائية للمتقاعدين، بل حتى على الذين لازالوا يشتغلون. فالحذر كل الحذر من السقوط في منزلقات الحماس الزائد والتسرع المفرط والإستقواء بالذات والاستخفاف بهشاشة الوضع الاجتماعي وقابلية اشتعاله في أي وقت وحين، مع الاكتفاء فقط بحسن النية لنيل شهادة حسن السيرة من جهة طرف المتحكمين في القرار بالداخل والمؤسسات المالية المانحة بالخارج من جهة أخرى، خاصة منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي لا قلب لها ولا هم لها لا على البلاد ولا العباد. ولنا أجلى العبر وأخلص الدروس في القرارات التي أملتها هذه المؤسسات على بلدنا مع بداية النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي من خلال فرض سياسة تقشف همت جميع مجالات الحياة الاجتماعية في إطار ما تمت تسميته آنذاك ببرنامج التقويم الهيكلي الذي انطلق سنة 1983 والذي كاد أن يدخل البلاد في فتنة اجتماعية لا يعلم مداها إلا الله وحده. فما بالك اليوم في ظل الأوضاع الاجتماعية المزرية مع حدة سخط الشارع وضغط الاحتجاجات الشعبية وتصاعد وتيرتها مع غلاء المعيشة بفعل الزيادات المتوالية في أثمان المحروقات التي تنعكس بالنتيجة على أسعار المواد الغذائية الأساسية لعيش المواطنات والمواطنين جراء السياسات اللاشعبية المتبعة لهضم الحقوق والإجهاز على المكتسبات. فهمتني ولا لا ؟