مر الآن ما يشارف أربعة أشهر على مسلسل مفاوضات رئيس حكومة تصريف الأعمال مع قيادة التجمع الوطني للأحرار من أجل تشكيل حكومة جديدة، وليس ترميم الحكومة القائمة كما يتداول في خطابات أمين عام حزب العدالة والتنمية، وهي على أية حال حكومة أقلية لا يحق لها في تقدير العديد من المحللين والسياسيين اتخاذ إجراءات وتدابير، فبالأحرى استصدار قرارات تهم الجوانب الاسترتيجية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما، والتي من شأنها أن تعصف بكل ما بناه المغرب منذ عقود ليستتب بهذا البلد الأمين الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي, اللذان يمكن اعتبارهما ضلعين رئيسيين فيما اصطلح عليه بالاستثناء المغربي. اليوم، وفي ظل وضعية الانتظارية القاتلة التي أدخلت الحكومة الحالية فيها البلاد والتي ساهمت بسياساتها الانفرادية والمرتكزة أساسا على إبعاد كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بحجة الشرعية الانتخابية دون الأخذ بعين الاعتبار التكلفة الاجتماعية التي قد تكون غالية من جراء اتخاذ قرارات بطريقة فجائية حتى بالنسبة للأحزاب المشكلة لها، والتي تمس بكيفية مباشرة قوت المواطنين وتدفع في اتجاه توسيع درجة الفقر وتقوية دائرة الاحتقان الاجتماعي في ظل أفق غامض، بل ومظلم أدخل البلاد ومن جديد ,خاصة في الآونة الأخيرة في موجة احتجاجات بمختلف الجهات والمناطق يتم الاستخفاف بها أحيانا وتجاهلها أحيانا أخرى، وهو ما قد يهدد هذا الاستثناء المغربي. مناسبة وقوفنا على هذا الوضع تتزامن مع اطلاعنا على مضامين المذكرة التأطيرية لمشروع قانون المالية لسنة 2014 التي أعدت من طرف مصالح وزارة الاقتصاد والمالية والموقعة من طرف رئيس الحكومة بتاريخ 23 شتنبر 2014 والموجهة في بحر هذا الأسبوع إلى السيد وزير الدولة والسيدة والسادة الوزراء والمندوبين السامين والمندوب العام والمندوب الوزاري لمطالبتهم بتقديم اقتراحاتهم إلى مديرية الميزانية في أجل أقصاه 5 أكتوبر 2014، وهذه السرعة القياسية في إعداد وثيقة ترهن مصير البلاد والعباد لمدة سنة تؤكد لوحدها الارتباك الكبير الذي تتخبط فيه هذه الحكومة ومعها بالنتيجة تدبير قضايا العباد. وتستحضرنا في هذا الباب الحكمة التي تكتنزها المقولة المغربية الشعبية التي تفيد: « عرس ليلة، تخمامو عام» فما بالك إذن بتدبير سنة وكم تتطلبه من مدة للتحضير؟. وقبل الشروع في تقديم بعض الملاحظات والتنبيه إلى خطورة بعض الإجراءات والتدابير التي تتطرق إليها المذكرة التأطيرية لمشروع قانون المالية لسنة 2014 من خلال قراءة أولية لمضامينها، يبدو لنا مهما طرح بعض الاستفهامات المدخلية التي قد تسائل ليس فقط واضعي هذه المذكرة، بل كل الطبقة السياسية والمؤسسات الوطنية وأصحاب الاختصاص والتنظيمات النقابية وهيئات المجتمع المدني ببلادنا. وأول هذه الأسئلة، هل الحكومة الحالية باعتبارها حكومة أقلية مؤهلة لإعداد قانون مالية سيرهن لا محالة في حالة إقراره مستقبل البلاد لسنة كاملة؟ وهل حزب الاستقلال الذي استقال وزراؤه من هذه الحكومة ويرفض نظام المقايسة كإجراء معزول لإصلاح صندوق المقاصة مثلا، معني بمشروع قانون مالية يتضمن مثل هذا الإجراء ومستعد لتحمل تبعاته؟ وهل حزب التجمع الوطني للأحرار المنتظر التحاقه بالحكومة الجديدة والمتطلع بإصرار إلى الإشراف ولوحده على حقيبة وزارة الاقتصاد والمالية سيقبل بمشروع قانون مالية لم يسهر وزيره المرتقب على إعداده انطلاقا من تصوره المشترك مع باقي أطراف الحكومة لمحتوياته ومكوناته؟ وهل الفرقاء الاقتصاديون والاجتماعيون سيلتزمون الصمت على المقاربة الأحادية لحكومة الحال في التعاطي مع أهم وثيقة وأخطرها في تدبير الشأن العام لمدة سنة ومدى انعكاساتها على ما سيأتي من السنوات المقبلة، وهم لم يخبروا حتى بالأمر إلا من خلال الصحافة، فبالأحرى أن يشركوا في الحوار والنقاش الذي تؤسس له الوثيقة الدستورية لسنة 2011 في إطار ما يسمى بالديمقراطية التشاركية التي تنبني أولا على المقاربة التشاركية في تناول ومعالجة قضايا الأمة، علما أن تقديم هذه المذكرة يتحدث عن أولويات المشروع التنموي والإصلاحي ببلادنا الذي لا يعود فيه الأمر للحكومة لوحدها حتى وإن كانت لها الصلاحيات الكافية، فالأحرى أن تكون حكومة أقلية كما هو واقع الحال؟ هذه فقط، بعض الأسئلة التي إذا لم يتم تفكيكها منذ البدء، فإننا لا نجازف في تخميناتنا بالقول بأن بعض التدابير والإجراءات الواردة في المذكرة التأطيرية لمشروع قانون مالية 2014 يمكن أن يكون مآلها السحب بحكم عدم دستوريتها، ونستحضر هنا واقعة تعديل مدونة السير التي قدمت في إطار قانون مالية سنة 2009 على عهد وزير التجهيز والنقل رئيس مجلس النواب الحالي بعد استجابة المجلس الدستوري لطلب فرق المعارضة بمجلس النواب ومنها فريق حزب رئيس الحكومة، بسحب أحد بنود قانون المالية. بعد هذه التوطئة، نعود إلى صلب المذكرة التأطيرية لمشروع قانون مالية سنة 2014، التي حددت بموجبها حكومة تصريف الأعمال أربعة محاور أساسية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام يوفر فرص الشغل، ويضمن العيش الكريم للمواطنات والمواطنين في تضامن بين فئات المجتمع وفي ظل الحفاظ على القرار السيادي الاقتصادي والمالي لبلادنا، حيث نتوقف في أكثر من مرة على محاولة تبرير الإصلاحات المعلنة بالاستناد إلى التوجيهات السديدة لجلالة الملك، وهذا أمر مهم وجوهري، غير أن التلويح بشدة بمثل هذه التبريرات قد يوحي بأن كل مضامين هذه المذكرة مشفوعة بالموافقة الملكية، وهذا أمر خطير ينزع عن الحكومة مسؤوليتها الدستورية أمام جلالة الملك والبرلمان. وتتمثل المحاور الأربعة للمشروع، أولا في تسريع وتيرة الإصلاحات الكبرى المهيكلة، وثانيا في تحفيز النمو ودعم الاستثمار والمقاولة وتطوير آليات الاشتغال، وثالثا في تدعيم آليات التماسك الاجتماعي ورابعا وأخيرا في ضمان استقرار الموجودات الخارجية والتحكم في عجز الميزانية. وبعيدا عن الخوض في لغة الأرقام والنسب المأوية، تعلق الأمر بالنمو الاقتصادي أو بالعجز التجاري وعجز الميزانية أو بمستوى الاستثمار والاحتياطات من العملة الصعبة أو غيرها من الجوانب التي تتطلب قراءتها وتمحيصها وفك رموزها الاختصاص والخبرة، فإننا سنكتفي بالتوقف عند المحور الرابع والأخير الذي يتعرض «للإصلاحات» التي تعتزم الحكومة الحالية أو المقبلة، الله وحده يعلم، اتخاذها للتحكم في عجز الميزانية، ولن تكون المفاجأة سارة إذا علمنا أن محور كل التدابير المقترحة تدور حول أوضاع الموظفين المزرية والذي جعلت هذه الحكومة منهم أكثر من سابقاتها الحائط القصير الذي يمكن تخطيه في كل وقت وحين، وهنا تبرز أيضا قوة المثل العربي: «إذا ظهر السبب بطل العجب». فهل الموظفون أصبحوا مستباحين إلى هذا الحد، بعد أن شرعت هذه الحكومة في تجريدهم من كل مكتسباتهم التاريخية ( الإضراب) وحقوقهم في الترقية وتعميم زيادة درجة بالنسبة لجميع الأسلاك على غرار بعض الفئات وذلك من خلال الامتناع عن تنفيذ ما تبقى من بنود اتفاق أبريل 2011 مع المركزيات النقابية وكذلك توقيف الحوار الاجتماعي ومحاربة العمل النقابي بكل الطرق والوسائل؟ فأين إذن تريد حكومة الأقلية هاته الذهاب بالمغرب والمغاربة؟. ومن دون لف ولا دوران، نستعرض من ضمن الإجراءات التي تحددها المذكرة التأطيرية للتحكم الهيكلي في عجز الميزانية والمتمثلة في عزم الحكومة على القيام بإصلاح النظام الجبائي والقانون التنظيمي لقانون المالية ونظام المقاصة وأنظمة التقاعد. وغير خاف أن جل هذه الإصلاحات حتى وإن كانت ضرورية، فإن توقيتها والمقاربة المزمع اعتمادها في إطار قانون مالية 2014 لمعالجتها هي بمثابة امتثال لإملاءات المؤسسات المالية المانحة وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للحفاظ على خط الائتمان المالي، وذلك في تناقض صريح للحفاظ على القرار السيادي الاقتصادي والمالي لبلدنا بخلاف ما تصرح به الحكومة في هذه المذكرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى في محاولة تجاوز الفرقاء الاجتماعيين كطرف أساسي في إصلاح أنظمة التقاعد على وجه الخصوص دون مجازفة بسياسة التوافق التي دأبت بلادنا على نهجها كلما تعلق الأمر بملفات كبرى تفاديا لحدوث فتنة اجتماعية قد يصعب ضبطها والتحكم في مسارها، ولنا العبرة والدرس في تجارب الدول التي سبقتنا لذلك، وأقربها إلينا فرنسا على عهد الرئيس ساركوزي. وبالإضافة إلى ملف التقاعد الشائك والمعقد في أبعاده المتعددة، تطالعنا المذكرة التأطيرية لقانون المالية للسنة المقبلة بإجراءات أخرى لا تقل خطورة عن هذا الملف ولم يشهد لها المغرب مثيلا حتى في فترة برنامج التقويم الهيكلي لسنة 1983 والذي كانت له تداعيات مأساوية على الوضع الاجتماعي ببلادنا. ونورد هذه الإجراءات كما وردت في هذه المذكرة تحت عنوان: التحكم في تطور كتلة الأجور، مع تقديم بعض التعقيبات عليها: - التقيد في مقترحات الوزارات بخصوص المناصب المالية في الحد الأدنى الضروري لتغطية الحاجيات الحقيقية والملحة، والمرتبطة بتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين مع الحرص على ضمان التوزيع المتكافئ على المستوى المجالي. إن الحد الأدنى في قطاع الصحة مثلا من الموارد البشرية يقدر بخصاص من 9000 طبيب و15000 ممرض. فأين نحن إذن من الحد الأدنى بقطاع التعليم وقطاعات أخرى. وفي إطار الخصاص المهول الذي تعيشه العديد من القطاعات الوزارية هل يمكن الحديث يا ترى عن التوزيع المجالي المتكافئ وعن جودة الخدمات؟ - الامتناع عن التوظيف في المناصب المالية التي تصبح شاغرة خلال السنة. وهذا الإجراء لا معنى له ولا تأثير له ماليا ما دام أن المنصب المالي تم تقييده بميزانية نفس السنة مع تخصيص الراتب والتعويضات المناسبة له. - إرجاء تنفيذ القرارات المتعلقة بأية ترقية أو مراجعة للأجور والتعويضات أو الأنظمة الأساسية المتخذة خارج إطار قانون المالية للسنة إلى قانون المالية للسنة الموالية. وهنا يمكن أن نتساءل مثلا فقط عن مآل وضعية الموظف المستحق للترقية برسم سنة 2014 والذي سيحال على التقاعد بداية سنة 2015 ؟ - ضرورة التقيد بإعداد جداول الموظفين في بداية السنة لضمان الاستعمال الأمثل للمناصب المالية المفتوحة برسم قانون المالية لسنة 2014. وهذا الأمر يتطلب توحيد تواريخ التخرج بمختلف الكليات والمعاهد والمدارس الوطنية والأجنبية، وتوحيد تواريخ مباريات التوظيف بمختلف قطاعات الوظيفة العمومية. وعلى ضوء هذه الإجراءات المتضمنة بهذه المذكرة المشؤومة، يمكن أن نتساءل أين نحن من تنفيذ البرنامج الحكومي ومن وعود الحكومة وشعارات الحزب الحاكم على وجه الخصوص والتي استطاع بموجبها إلى جانب عوامل أخرى الظفر بالمرتبة الأولى في انتخابات 25 نونبر 2011 والتي خولته بفضل أحكام الدستور الجديد رئاسة الحكومة الحالية التي توجد الآن ومنذ ما يربو عن أربعة أشهر في حالة عطب. ومن أبرز هذه الشعارات الرنانة التي مل المواطنون من سماعها دون أن تجد طريقها للتفعيل كما هو عليه الأمر بالنسبة لتعطيل الدستور عبر فشل إخراج القوانين التنظيمية التي تشكل نصف الوثيقة الدستورية، ويتعلق الأمر بأسطوانة محاربة الفساد والاستبداد والعدالة الاجتماعية، وهي شعارات لا يلمس لها أي أثر في ثنايا المذكرة التأطيرية لمشروع قانون مالية 2014. تأسيسا على هذه القراءة السريعة، نعتقد جازمين أن مشروع قانون مالية 2014 من خلال ما تتضمنه المذكرة التأطيرية يعد في واقع الأمر مشروع قنبلة قابلة للاشتعال في أي وقت وحين لتأتي على اليابس والأخضر، وأن مواجهته بالحزم المطلوب، تستدعي على وجه السرعة التخلص من الخلافات الجانبية بين مكونات الصف الوطني الديمقراطي والتقدمي الحداثي لتوحيد الصفوف في إطار تشكيل جبهة اجتماعية وطنية تتأسس على الوحدة النقابية والنضالية للوقوف يدا في يد، وقبل فوات الأوان، في وجه غطرسة هذه الحكومة التي قد تجر بسياساتها اللاعقلانية واللاوطنية واللاشعبية البلاد إلى متاهات لا أول لها ولا آخر، للإنهاء مع نعمة الاستقرار السياسي ومزية السلم الاجتماعي الدرعين الأساسيين للاستثناء المغربي الذي تنعم به بلادنا، وهذا يفرض على الدولة ومؤسساتها الدستورية والمجتمعية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة للحفاظ عليهما مهما كانت تكلفتهما التي لا تقدر بثمن.