يعتبر الفنان المغربي عبد الله الهيطوط أحد الأسماء الجديدة داخل المشهد التصويري المغربي. وليست الجدة، في هذا السياق، بالمعنى الذي يحيل على عمر تجربة هذا الفنان الفنية ? هذه التجربة التي أسس لكثير من ملامحها الواعدة منذ أزيد من عقدين من الزمن، قضى معظمها في الإنصات الهادئ والتأمل العميق بما يمكنه من تطوير أدوات مطبخه الفني في التجريب وتمثل تجارب الآخرين، مغاربة وأجانب، فيما يشبه مرحلة ترتيب ذائقته الفنية - وإنما المقصود تلك اللمسة الفنية المتجتهدة التي يقترحها هذا الفنان كتدبير جمالي يستند على عدة معرفية معتبرة، كما لا تنقصه روح المغامرة في تمثل التجارب الرائدة ومحاولة إضافة لمسته الخاصة على متنها المكرس، بما تعنيه الإضافة من صداقة وحوار ومصاحبة، وكلها عمليات تحتاج إلى سند معرفي وإلى امتلاك عين ذكية وعارفة. بهذا المعنى المختزل، أستحضر لمسة عبد الله الهيطوط الفنية في مختلف أعماله التصويرية، أعمال تستحضر تجارب وسياقات جمالية رائدة، والتي كان لها وقع التشويش على معارف الفنان السابقة. ويحضرني هنا منجز فنانان كبيران ساهمت أعمالهما في التأسيس لتلك الموجة الانقلابية التي ألقت بظلالها على المشهد الفن التشكيلي عامة والتصويري بوجه خاص على امتداد النص الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم، والمقصود هنا الإسباني الكاتالاني أنطوني تابياس ( 1923 ? 2012 ) والأفرو- أمريكي جون ميشال باسكيا ( 1960 ? 1988 ). وبخلفية معتدة بروحها المتعلمة، المجتهدة والنائية بنفسها عن الانخراط في تساهلات الحلقية الرائجة، حاول الفنان بناء لمسته التشكيلية بغير قليل من اليقظة والدقة والتركيز وانضباط البصر. لمسة راهنت، منذ خروجها للعموم، على أن تعكس ? ضمن ما تقدمه من اقتراحات جمالية - تلك الثنائية التي نادى بها رواد الحركة التشكيلية المغربية، وهي ثنائية الموروث والمحلي والأصيل المرتبط بهوية الفضاء المغربي من جهة، وعلاقته بعالم التقنيات والإيقاعات والإضافات التصويرية التي راكمها العالم من حولنا من جهة ثانية. هذا التوظيف لممكنات الفضاء الجمالية، فضاء القاع والهامش والمهمل، هو ما أعطى لعمل الفنان الهيطوط حضورا مائزا، حيث يبدو الرهان في هذه المغامرة الجمالية منصبا نحو بناء عالم من العلامات، بما هي أثر ? آثار / Traces تؤشر على بنية بلاغية وجمالية تهيمن على نسيج متنه الفني. فالأثر باعتباره فعل يقع بين الجد والعبث، ومنطلقا للحلم الفني، ولحظة فارقة لا تكف عن معاندة عاملي الزمن والكينونة، هو ما يجعله - حين يصبح مفردة صباغية جمالية - يتحول في يد الفنان النبيه إلى إقامة بين الحضور والغياب؛ تلك المنطقة التي يتم فيها استدعاء الحركات الميتة والعلامات البائدة إلى حقل امتدادها خارج المكان غير الفني، بمعنى السفر والحلول خارج الحدود. وما يستتبع ذلك من إمعان في الإتلاف والتشويش، هو ما يجعل الحياة السابقة لهذا الأثر مجرد تعلة وذريعة يتحول على إثرها إلى تلويح من بعيد إلى معناه، إلى أصله الأول وإلى كل ما يدل عليه. من هنا، يصبح هذا الأثر مفردة في حقل دلالي شاسع يحيل على نعوته، على بقية تمظهراته في حياته الجديدة فوق سند اللوحة. شخصيا، هذا ما يعنيه لي ذلك التوظيف الذكي والمتخفف من زوائده للأثر ? الآثار والعلامات التي يستدعيها عبد الله الهيطوط إلى سنده، وكلها مفردات يلتقطها الفنان من مشاهداته اليومية، يقتلعها من أمكنتها في البيوت الشعبية ومن على جدران القاع المهملة والمنسية والمتروكه لضغينة اللامبالاة؛ خربشات غرافيكية، أرقام وتخطيطات هندسية، ورسمات لأشكال تحيل على اليومي واستعمالاته البسيطة، مثل الكأس والمصفاة , la passoire والمهراس , le mortier ، وغيرها من الأدوات البسيطة الآيلة للزوال والانقراض، هي زاد الهيطوط في رحلته الفنية حتى الآن، والتي يعيد توظيفها في سياق اشتغال تصويري فني إقلالي - Minimaliste، وفق ما يستدعيه ذلك من استعمالات واستدعاءات لونية تميل إلى الاقتضاب والتقتير أكثر من انسيابها في كرنفالية لونية مجانية، حيث تتجاور الألوان المصنعة مع الخلطات الطبيعية إلى جانب تقنيات اللصق والكشط واللطخ والذبحات ... في ما يخلق هرمونية تلوينية، تؤشر على المطلوب المعبر والدال، ودون إرباك للحضور البلاغي لمفردات الأثر فوق السند.