أكدت نتائج دراسات إحصائية بالولايات المتحدةالأمريكية، صدرت ضمن مجلة «الصحة العامة»، أن أكثر ما يثير الإنتباه في التطور الإجتماعي للأفراد الأمريكيين أمران غير مسبوقان، هما تقلص عدد البيض في مقابل السود واللاتنيين والآسيويين بأمريكا. مما سيحول أصحاب الهجرات الأوائل، القادمين من أروبا، البيض الشقر، أقلية لأول مرة ببلاد العم سام، خلال العقد القادم. ثم تسجيل اجتفاف عاطفي عال لدى الفرد الأمريكي، بسبب غياب الأدب كإنتاج معرفي مركزي ضمن العلوم الإنسانية. يهمني اليوم، هنا، الشق الثاني من تلك الدراسات الإحصائية العامة ببلاد باراك أوباما، المتعلقة بالإجتفاف العاطفي. والتعبير هنا يلخص سيرة كاملة من القرار السياسي الذي اتبع بالعالم الغربي، بالمرجعية الأمريكية، خلال الثلاثين سنة الماضية، الذي ظل يوهم أفراد المجتمع أن النموذج الإيجابي في المجتمع، الناجح، المفيد، الذي تحتاجه السوق، هو التقني وليس المفكر والمتأمل. من هنا ذلك النزوع نحو ممارسة تغيير جوهري في روح التعليم، الذي تحول إلى أداة تقنية لتعليم الإقتصاد والماركوتينغ والرياضيات والفيزياء وغيرها من المواد العلمية الدقيقة. لكن بدون سقف معرفي لا تحققه غير العلوم الإنسانية، وهي أساسا الفلسفة والأدب وعلوم الإجتماع والنفس. بالتالي، أصبح الفرد المكون ضمن هذا النظام التعليمي، فردا غير منتج لأنه غير متفاعل مع موضوع مادته ومهنته وتخصصه. بدليل أن المتخصص في الرياضيات أو في الفيزياء، يكون عالي التكوين تقنيا، لكنه فقير معرفيا على مستوى فهم تاريخ وقصة الرياضيات والفيزياء ودورهما في حياة البشرية. وهذا أمر لا يتحقق بدون معرفة معمقة واجبة بفلسفة العلوم. إذا كان الأمر في أمريكا (وبالإستتباع في كل العالم الغربي الأروبي الشمالي)، قد خلق هذا النوع من الإجتفاف العاطفي كما فهم من تقرير تلك الدراسات الإحصائية، وأنه خلق أفرادا منغلقين انعزاليين عن الجماعة البشرية، وأصبحوا يشكلون قارات وجزرا مستقلة لا تواصل معرفي وعاطفي بينها. مما حول المجتمع إلى مجتمع منغلق ومنكفئ على ذاته في ما يشبه الغيثوهات النفسية والسلوكية، وأعلى مت تيرموميتر العنف داخل تلك المجتمعات عاليا.. إذا كان الأمر كذلك، فإنه علينا الإنتباه أنه في ضفتنا العربية والمغربية قد خلق واقعا سلوكيا آخر، هو انزياح الغالبية العظمى من الأفراد عندنا (خلال نفس الفترة الزمنية، أي منذ 30 سنة)، نحو الدروشة والدجل أكثر. بحيث مثير أن تجد في الفرد العربي، مواطنا عالي التكوين تقنيا في مجال الرياضيات أو الطب أو الفيزياء أو الهندسة أو الماركوتينغ، لكنه وجدانيا وروحيا وسلوكيا، غير عقلاني بالمرة، وتجده يوسع من التآويل الخرافية لمنطق زيارة الأضرحة أو الإمتثال لمنطق الشيخ والمريد. وليس مستغربا أن أغلب التيارات المتطرفة (إحصائيا) تخرج من بين صفوف الأفراد المكونين في مجال العلوم. والسبب راجع إلى غياب المعرفة العلمية المصاحبة للتخصص العلمي لكل فرد على حدة. وأيضا التراجع الهائل في مجال الإنتاج الأدبي الذي موكول إليه تخصيب أسباب السؤال والجمال في أعين الناس. من هنا، في ضفتنا المغربية، راهنية استعادة أبحاث رصينة مؤسسة لباحثين ومفكرين مغاربة كبار، ألفوا في مجال فلسفة العلوم وفلسفة الرياضيات وغيرها، من قيمة كتب كل من محمد عابد الجابري (مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي) وسالم يفوت (مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر و الفلسفة والعلم والعقلانية المعاصرة) والميلودي شغموم (الوحدة والتعدد في الفكر العلمي الحديث ثم ترجمته الرائقة لكتاب العالم الفرنسي الرياضي هنري بوانكاري: «قيمة العلم»). لأنه في استعادة أبحاث مماثلة وتدريسها في الثانويات وفي الكليات ذات التخصص العلمي، لا ننتج فقط تقنيين بارزين في مجالات علمية، بل ننتج مواطنا عقلانيا متصالحا مع العلم والمعرفة والتاريخ. أكاد أقول ننتج إنسانا بدلا من آلة (والآلة كما نعرف جميعا تبقى دوما صماء)..