مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    أساتذة الطب ينددون بحملة التشهير    قرار "العدل الأوروبية" يدفع المغرب إلى إعادة رسم الشراكات الناجعة مع بروكسل    وزير الخارجية الاسباني يرد بسرعة وقوة على قرارات محكمة العدل الأوربية ويجدد دعم إسبانيا لسيادة المغرب على صحرائه    وزير خارجية إسبانيا يبرز أهمية اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    رغم إلغاء اتفاقية الصيد.. فون دير لاين وبوريل يؤكدان التزام الاتحاد الأوروبي الحفاظ على علاقاته الوثيقة مع المغرب    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    ابتدائية تطوان تصدر حكمها في حق مواطنة جزائرية حرضت على الهجرة    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    فون دير لاين وبوريل يجددان التأكيد على التزام الاتحاد الأوروبي لفائدة الحفاظ أكثر على علاقاته الوثيقة مع المغرب وتعزيزها في كافة المجالات    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو    عشرات الوقفات الاحتجاجية بالمدن المغربية رفضا للتطبيع وتنديدا بالجرائم الصهيونية في فلسطين ولبنان        إيران: خامنئي يؤكد في خطبة الجمعة أن إسرائيل لن تنتصر قط على حزب الله وحماس    فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    وزارة الخارجية: المغرب يعتبر نفسه غير معني بتاتا بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    الجمع العادي للمنطقة الصناعية بطنجة برئاسة الشماع يصادق بالإجماع على تقريريه الأدبي والمالي.. وإشادة كبيرة بالعمل المنجز    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    محكمة أوروبية تصدم المغرب بقرار إلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    ارتفاع طفيف في أسعار النفط في ظل ترقب تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط    محكمة العدل الأوروبية تصدر قرارا نهائيا بإلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري مع المغرب    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    آسفي: حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    وزير خارجية إيران يصل إلى مطار بيروت    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكومة الملتحية والعلوم الإنسان-فوبيا
نشر في المساء يوم 22 - 11 - 2012

ينبعث هذه الأيام الكثير من الدخان من مقر وزارة التعليم العالي في المغرب، مما يعني أن مراسيم الحرق قد بدأت تطبيقا للمخططات الوزارية القاضية بتحويل كليات الآداب إلى رماد تذروه الرياح!
هذا، على الأقل، ما صرح به وزير التعليم العالي و(البحث العلمي) في ندوة «استراتيجية الحكومة في النهوض بالبحث العلمي» حين قال إن «البلد ليس في حاجة إلى كليات الآداب، بل إلى المهندسين والمهن الجديدة»، جريدة «المساء» 18-10-2012.
وحينما يذكر الوزير كليات الآداب فإنه، بالتأكيد، لا يقصد جدرانها ومدرجاتها، وإنما يقصد التخصصات العلمية التي تؤطرها هذه الكليات، والتي تندرج ضمن مجال العلوم الإنسانية. إذن، مشكل الوزير واضح، يجب القضاء على ما تبقى من آثار العلوم الإنسانية في البلد، لأنها إضاعة للوقت وللمجهود كذلك، كما يردد عامة الشعب الذي يربط المردودية العلمية بإنتاج الخبز والحليب... وكل ما من شأنه أن يملأ البطون ويمنعها من الصراخ، ومن لا يتقن ذلك فعلمه غير نافع!
لقد نسي الوزير، أو تناسى على الأصح ما دام ينطلق من تصور استراتيجي واضح المعالم، أن مجتمع المعرفة الذي يتحدث عنه لا يميز بين المعارف، وذلك لأن أي تقدم (تنمية-ديمقراطية) يجب أن يستثمر وحدة المعرفة، حيث لكل تخصص معرفي وظيفته الخاصة في خدمة المجتمع والدولة، فلا يمكن للتقني والمهندس والطبيب... نظرا إلى طبيعة عملهم التقني، أن يؤسسوا استراتيجيات بعيدة المدى في ما يخص الإشكاليات الفكرية والسياسية التي تطرح على المجتمع، كما لا يمكن لهؤلاء أن يصنعوا الذوق الفني السليم لدى الأفراد والجماعات، وليس من صميم اهتمامهم بناء القيم الروحية والأخلاقية التي تحقق التوازن الاجتماعي.
نذكّر الوزير بأن الدولة جربت هذه الوصفة، التي توصل إليها متأخرا، ولكنها لم تنجح؛ ففي عز الصراع السياسي بين المعارضة والملكية، عملت الدولة على إغلاق معهد السوسيولوجيا الذي كان يديره الراحل الكبير (عبد الكبير الخطيبي)، وهو معهد كان يؤسس لتقاليد علمية راسخة في البحث السوسيولوجي بالمغرب، وهذا المشروع العلمي تم إفشاله خدمة لنزوعات سياسوية رخيصة لا تتماشى والمصالح العليا للوطن؛ ونفس الحرب الطاحنة أعلنت على شعبة الفلسفة في جميع كليات الآداب، بادعاء أنها تنشر الفكر النقدي، وكأن ذلك جريمة يجب المعاقبة عليها وليست الوظيفة الحقيقية لشعبة الفلسفة!
لكن، ما هي ثمار هذه الحروب الدونكشوطية الهوجاء ضد العلوم الإنسانية؟ ألم تكن الحصيلة كارثية بجميع المقاييس؟ ألم تفكر الدولة، ولو بشكل متأخر، في رد الاعتبار إلى العلوم الإنسانية، بعد أن تبين لصناع القرار السياسي أن الثمار مرة؟
لقد تميز الفكر المغربي، على مر القرون، بطابع عقلاني/نقدي، وذلك ما ساهم في ترسيخه انتشار العلوم الإنسانية بجميع تخصصاتها، ففي التاريخ وعلم الاجتماع أسس ابن خلدون مدرسة رائدة (الخلدونية) التي انتشر صيتها عبر ربوع العالم وما يزال إلى حدود اليوم؛ وفي الفلسفة أسس ابن رشد مدرسة فلسفية (الرشدية) زلزلت عرش الكنيسة الأرثوذكسية، وكانت نبراسا يستنير به المصلحون الدينيون في صراعهم ضد الفكر الكنسي. أما على علاقة بالعلوم الدينية، فقد كان المغرب رائدا في عقلنة الاجتهاد الديني من خلال علم أصول الفقه الذي يعتبر الإمام الشاطبي من بين رموزه اللامعة (ينتمي إلى الغرب الإسلامي، ولد في قرطبة إبان الحكم الموحدي ورحل منها إلى مصر بعد الثلاثين من عمره ). إن العصر الذهبي الذي عاشه المغرب كان ثمرة مجهودات رموزه الفكرية التي استثمرت قدراتها الهائلة في مجال العلوم الإنسانية لبناء صرح الحضارة المغربية، باعتبارها حضارة عقلانية ومنفتحة.
إن من يريد، اليوم، وقف عجلة العلوم الإنسانية في المغرب إنما يستهدف، بدرجة أولى، قلب التوازنات الفكرية السائدة، وهي توازنات تستند إلى الطبيعة العقلانية النقدية التي تميز الفكر المغربي، وذلك لغرض واضح، بالطبع، يرتبط بطبيعة المشروع الفكري الذي يسوق له حزب العدالة والتنمية والذي يخدم، بدرجة أولى، مشروعه السياسي القائم على أساس استثمار الدوغما وترويج الفكر الدوغمائي الذي لا يفكر ولا يسائل.
إنه توجه حثيث نحو صناعة ثقافة القطيع، التي تفرض نفس المظهر الخارجي ونفس التوجه الإيديولوجي ونفس النهج الاجتماعي والسياسي... بدعوى المحافظة على تماسك الجماعة وانسجامها. وما هو أكيد هو أن العلوم الإنسانية، بمختلف تخصصاتها، تهدد هذا النسق الفكري القطعاني ولذلك، يبدو أن استراتيجية حكومة عبد الإله بنكيران تستند إلى منطق (العلوم الإنسان-فوبيا)؛ ونفس هذا المنطق اعتمده الحزب حتى قبل وصوله إلى الحكومة، لأن نسبة أعضائه من ذوي تخصصات العلوم الإنسانية ضئيلة جدا، وحتى من حافظ منهم على انتمائه إلى الحزب فهو يتعايش مع الطابور القطعاني ليس إلا.
لقد دعمنا، منذ البداية، التجربة الإسلامية في العالم العربي، من منظور ديمقراطي، باعتبار أن الديمقراطية كل لا يتجزأ؛ لكننا أكدنا مرارا أن الواجب الأخلاقي، قبل السياسي، يفرض على الإسلاميين احترام خصوصيات شعوبهم، لأن هذه الخصوصيات جزء أساسي من تاريخ طويل من النضال التي خاضته الشعوب العربية ضد الدوغمائية الدينية، التي كانت تسعى إلى جر العالم العربي إلى عصور الانحطاط الأولى، حيث لا إبداع ولا تفكير، ولولا يقظة المغاربة، بعامتهم وخاصتهم، لتم إغراقنا، منذ القديم، في مستنقعات الفكر الوهابي. يؤكد الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي أن «المغرب لم يتلق الدعوة الوهابية بقبول حسن، سواء تعلق الأمر بالموقف الرسمي أو تعلق الأمر ببعض العلماء، أو تعلق الأمر بالأوساط الشعبية»، (سعيد بنسعيد العلوي «الاجتهاد والتحديث.. دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب»، مركز دراسات العالم الإسلامي، ص: 23).
إن المنطق السليم يفرض على الإسلاميين، اليوم، أن يستعيدوا التاريخ الذهبي للحضارة الإسلامية، والذي وصل أوجه خلال القرن الثاني الهجري، الذي سمي بعصر التدوين، حيث تزامنت نهضة المسلمين مع ازدهار مماثل للاجتهاد الديني والإبداع الفكري والأدبي، وقد ساهمت العلوم الإنسانية، خلال هذه المرحلة، وبقسط وافر، في الارتقاء بالفكر الإسلامي إلى مصاف العالمية.
وفي هذا الصدد، لا باس أن نذكر كل من يسعى إلى إقامة تعارض موهوم بين العلوم الإنسانية والعلوم الخالصة بأن تاريخ الفكر/العلم ينفي هذا التعارض، بل تعتبر نهضة العلوم الخالصة امتدادا طبيعيا لنهضة العلوم الإنسانية، ومعظم العلماء الكبار في العلوم الخالصة هم رواد كبار في العلوم الإنسانية، فرائد نظرية النسبية (إنشتاين) هو فيلسوف قبل أن يكون فيزيائيا/رياضيا، ونظريته في النسبية تؤكد هذا التداخل، فهي نظرية فيزيائية صيغت بلغة رياضية وبتخييل فلسفي، وهذا هو مكمن الجدة فيها، أي أنها أثبتت حقائق علمية بدون اعتماد التجربة، ولكن باعتماد التخييل الفلسفي والتعبير الرياضي. ونفس هذا التداخل حضر عند الرياضي/الفيلسوف (ديكارت) الذي جمع في مساره العلمي بين التكوين الرياضي والتكوين الفلسفي. لكن اللقاء التاريخي بين العلوم الإنسانية والعلوم الخالصة، كان مع ظهور الإبستملوجيا (فلسفة العلوم)، حيث أصبحت العلوم الخالصة موضوعا للتفكير من طرف الفلسفة، ويمكن أن نذكر هما برائد الابستملوجيا (كاستون باشلار) الذي تحدث عن القطيعة الإبستملوجية والعائق الإبستملوجي، كما تحدث عن النظرية العلمية باعتبارها خطأ تم تصحيحه... وكلها مفاهيم ترتبط بفلسفة العلوم.
إن مفهوم «مجتمع المعرفة»، الذي جاء للتعبير عن التحولات التي تعرفها المجتمعات الحديثة، يتعامل مع المعرفة باعتبارها رأس مال، ويتم الحديث عن المعرفة بالجمع وليس بالمفرد، أي التعامل مع جميع المعارف ضمن ما يسمى ب«وحدة المعرفة»، ولذلك فإن البحث العلمي في الدول المتقدمة لا يقتصر على مدارس المهندسين وكليات الطب وكليات العلوم، ولكنه يتجاوز ذلك إلى كليات الآداب والحقوق التي تؤطر تخصصات العلوم الإنسانية، وهكذا نجد باحثي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي يبسطون هيمنتهم على الأبحاث العلمية في مجال العلوم الخالصة، وبنفس الدرجة في مجال العلوم الإنسانية، وهذا ما تبرهن عليه نسبة الجوائز العلمية الكبرى مثل جائزة نوبل التي تهيمن عليها دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة في جميع التخصصات، من الأدب إلى الطب والفيزياء...
اعتمادا على هذا التحليل، إذن، يمكن أن نستوعب جيدا قيمة النقاش السياسي والفكري المتدني جدا في بلدنا، حيث تغلب الشعبوية والارتجال، وتغيب المقاربة العلمية والفكرية لمختلف القضايا المطروحة. وهذا يبدو أمرا طبيعيا في ظل سيادة الممارسة السياسوية الفاقدة لروح المشروع الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث تصبح الفرقعات الإعلامية سيدة الموقف، ويصبح المسؤول الأكثر كفاءة هو من يفرقع بشكل أكبر وأقوى. وهذا لن يقود، بالطبع، إلا إلى تأزيم الوضع أكثر.
كاتب وباحث أكاديمي



إدريس جنداري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.