في سنة 399 (ق.م) قررت الأغلبية الساحقة لمجلس الشعب ب «أثينا» الحكم بالإعدام على سقراط بتهمة تتكون من ثلاثة عناصر: عدم الاعتراف بالآلهة وتعويضها بأخرى مع إفساد الشباب .. دافع الفيلسوف عن نفسه في مرافعة مطوّلة و أثارت استفزازاته غضب مواطنيه فدفع حياته ثمنا لذلك.. لقد تمّ تناول هذه القصة بالرواية والتعليق مرارا وتكرارا إلى درجة الاعتقاد أنه قد أُحيط بكل مظاهرها.. وقيل بأن هذا الرجل الكبير قد لقِيَ حتفه بسبب جمهور العامة الجاهلة والأحكام المسبقة العمياء والنتائج المنحرفة للقرار الأغلبي والديمقراطية المباشرة.. هذا كل ما يتمُّ الاحتفاظ به، إجمالاً، عن هذا الحدث المُؤسِّس.. لكن، هل هذا صحيح؟ من خلال هذا البحث الصادر عن منشورات «فلاماريون»،تحت عنوان «واقعة سقراط»، يُبيِّن المؤلف «بولان إيسمار» ( مؤرخ وأستاذ بجامعة باريس I ، السربون) أن الحقيقة أكثر تعقيدا..والجديد في هذا العمل هو فتحُ سبلٍ وتدليلُ عقباتٍ كانت وراء هذه الصورة الرسمية التي رُسِمت للفيلسوف «سقراط» من طرف تلامذته ومن طرف «أفلاطون».. فلا توجد بين أيدينا أية لحظة من لحظات زمن سير المحاكمة التي أُعيدت كتابتها بشكل أكثر حدّة؛ إذ يُقدّر عدد النصوص النقدية التي تناولت الحكم بالتأويل بعد موت الفيلسوف وعبر الحقب، ما بين 200 و300 .. هكذا سيجعل أوائل المفكرين المسيحيين من «سقراط» ضحية وشهيدا مفترضِين كونه توحيدي استسلم للقتل على يد وثنيين بلداء.. وتمَّ تخيُّله في عصر النهضة إنسانياً مضطهدا وفي عصر الأنوار مفكرا حرّا عانى من تعسف المؤسسات القمعية.. أما بالنسبة للثورة الفرنسية فلقد تمَّ وصفه كثائر من عيار «اللامُتسَروِلين» وضحية من ضحايا حزب الرهبان والأرستقراطيين.. كل هذه الأقنعة العديدة و المتباينة التي يكشف عنها المؤلف ويعيد إحيائها، تشير إلى ما يتمتع به الرمز (سقراط) من قوة وقابلية للتطويع؛ لكنها لا تُفشي بما وقع فعلا سنة 399 ق.م .. ليبقى الحدث لغزا واستفهاما تُطرح من خلاله أسئلة حول اعتبار مقتل سقراط كأولى خطايا الديمقراطية ، أم مجرد حادث مسار عابر وخطأ مؤسف..؟ يتيح لنا «بولان إيسمار» في هذا البحث فرصةً تجعلنا نفهم أن مثل هذه الأسئلة قد تُعتبَر ذات معنى بالنسبة لنا اليوم؛ لكنها لا تُناسب الواقع القانوني والسياسي والديني للمجتمع الأثيني في ذلك العصر.. إلاّ أن البحث يتميّز بالدقة والحذر والصرامة، مما يجعله ينتهي إلى تغيّر المشهد.. ويتعلق الأمر بإعادة تشكيل الدوافع التي أدّت بمواطني «أثينا» إلى إدانة سقراط مع إعادة تركيب الصورة التي كونوها عن الرجل في أذهانهم وإعادة عرض الخصومات السياسية التي اجتازها الجيل الذي ينتمون إليه.. يقوم «بولان إيسمار» بكل هذا بُغية استشفاف الأسباب الكامنة وراء اعتبار الفيلسوف مصدر تهديد «للمدينة»؛ ولبلوغ ذلك، وجب التذكير بخصوصيات العدالة في «أثينا»، آنذاك،حيث لا وجود لفصل السلط ولا لنيابة عامة.. فالشعب وحده يسود ويحكم بدون مساءلة تجبره على تبرير قراراته ولا وجود لقانون فوق أحكامه.. فالمحاكمة تكون عبارة عن فرجة كلامية ومبارزة لها رموزها وحِيَلها، إذ يُعبِّر فيها كلُ من «المُدَّعي» (الذي يتهِم) والمُدَّعَى عليه عن نفسه في نوع من التنافسية المُعلنة.. والحال أن سقراط لم يلعب نفس اللعبة؛ بل بالعكس.. فلقد نصب نفسه قاضيا حاكما ضد من يحاكمونه؛ فساهمت إستراتيجية القطيعة هذه في إدانته.. يضيف «ب. إيسمار» عنصرا آخر حينما يعرض مجموعة من العوامل تضافرت لتتدخل في الحكم الصادر ضد سقراط : تاريخ الصراعات التي جمعت في عهد قريب بين الديمقراطيين وخصومهم، ثم العلاقات الفريدة التي كانت تربط بين الحياة السياسية والآلهة، فالتطور الذي كانت تشهده، إبان تلك الحقبة، تمثلات الديمقراطية في طريق تحوّلها من فكرة «هيمنة الشعب» إلى فكرة «السِّلم العام».. إلاّ أن «سقراط» ظلّ في نظر الرأي العام ب»أثينا» مُقرّباً من الأقوياء والمحافظين (فتلامذته وأصدقاؤه لا ينتمون إلى معسكر الديمقراطيين) ومصدرَ بلبلة للنظام القائم (لأن تعليمه يهدم الروابط الأسرية).. إذا كان الفيلسوف يُشكِّل ? في نهاية المطاف ? تهديدا سياسيا لمجموع المُواطنين، فالأمر قد يكون أيضا بسبب ما يجمع الفلسفة والديمقراطية من خصومة وتضاد عميقين رغم ميلنا للاعتقاد في كونهما شقيقتان توأمان.. فالسلطة السياسية الحقيقية، حسب سقراط، لا يمكن تأسيسها إلاّ على العلم وعلى معرفة الحقيقة بمعزل عن عدد من يتقاسمونها؛ أما الديمقراطية المباشرة، خلافاً لذلك، فهي تستند،عند الأثينيين، على المساواة الأولى بين الجميع، على قرار الأغلبية وعلى الاقتراع.. فالهُوّة عميقة بين الفيلسوف والديمقراطيين رغم أن مثل هذا الاستنتاج يبدو اليوم مصدر إحراج.. يُسجّل هذا العمل ميلاد أسلوب جديد في البحث التاريخي.. فمِن وراء السِّيَر الأسطورية للفلسفة (كالصورة التي رسمها أفلاطون لسقراط)، يبْدُل المؤلف، «بولان إيسمار»، قصارى جهده في هذا الكتاب من أجل إعادة تشكيل تعقُّدات واقع العصور القديمة؛ وذلك بشكل مُختلف عن «جان- بيير فيرنان» و «بيير فيدال ? ناكي» أو «مارسيل ديتيين»، الذي يُثير الانتباه، مع «فانسان أزولاي»، إلى جيل جديد من المُتخصِّصين الفرنسيين في الحضارة اليونانية القديمة؛ مما يُنذر بأن «سقراط» سيبقى،بجلاء، ذا أهمية تاريخية.. عن جريدة «لوموند» (06 شتنبر 2013)