ليس سرا أننا تعرضنا لهزيمة منكرة، لكنها، على ما نأمل، ليست نهائية. لا تقتصر هزيمتنا على عودة الفلول لمصر، بل هى تمتد لتهدد استقلال المنطقة برمتها. إننى أخالف من يرون الثورات فى بلادنا ثورات اجتماعية محضة أو ثورات مرتبطة بزيادة الحريات الشخصية فقط. السؤال الأكبر فى تاريخنا الحديث من قرنين هو سؤال الاستقلال، لأن النهب الأكبر فى بلادنا، وفى معظم بلاد العالم الثالث، نهب استعمارى، وطبقاتنا الثرية والحاكمة لا تنهبنا لمصلحة نفسها، فهى أضعف من ذلك وأذل، بل هى تؤمن أن ينهبنا البريطانيون والفرنسيون سابقا والأمريكيون اليوم، وتعيش على ما يسمح لها به هؤلاء الأجانب من عمولة. ثم إن هذه الطبقات تؤمن عملية النهب تلك بإنشاء جيوش وأجهزة شرطة، ليس هدفها أن تحمينا بل هدفها أن تحمى نقل المواد الخام، كالقطن أمس والبترول اليوم، إلى الغرب وحراسة خطوط الملاحة والتجارة الدولية، فترتكب هذه الجيوش وأجهزة الأمن من انتهاكات حقوق الإنسان ما ترتكب. لذلك فإننى أرى أن الحركات الثورية المناهضة للاستعمار فى منطقتنا ثورة واحدة ممتدة. كذلك فإن كل حركة تتحالف مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل فى بلادنا ثورة مضادة واحدة ممتدة. واعتبر بذلك حين تحكم، فليس ثائرا من يأتى بالأمريكان إلى سوريا، ولا من يأتى بهم إلى العراق أو ليبيا من قبل، ولا من يأتى بحلفاء إسرائيل المنسقين معها أمنيا من فلول وعسكر عندك هنا فى مصر فى 30 يونيو وما بعدها. وبهذا المقياس، فإن الثورة الوحيدة التى حظيت بقدر من النجاح فى المنطقة كلها حتى الآن هى الثورة الإيرانية. لقد أخرجت إيران تماما من حلف أمريكى كانت تشكل هى واسطة عقده منذ الخمسينيات، وأسقطت نظاما ملكيا ينهب أهل البلد، لتنشئ نظاما جمهوريا شهد تداولا سلميا للسلطة، وبدلا من أن يكون هم الجيش والشرطة تأمين نهب الأمريكان للنفط الإيرانى، أصبحت مهمتهم تأمين استخدام عوائد ذلك النفط فى بناء استقلال إيران عن الولاياتالمتحدةالأمريكية. وإن احتياطى إيران من الذهب مثلا يقلل من قدرة الولاياتالمتحدة من التأثير فى اقتصادها بتغيير أسعار الدولار، على عكس الحال فى تركيا، والتى تبدو أكثر رخاء، لكنها أقل استقلالا من الناحية الاقتصادية، وبالتالى من الناحية السياسية. كذلك فإن الثورة الإيرانية حولت النظرية السياسية المنبثقة عن المذهب الشيعى الجعفرى، والتى كانت تدعو طوال قرون إلى انتظار الفرج من عند الله والإمام الغائب والصبر على الملوك، إلى نظرية ثورية تأمر الناس بأن يطلبوا المُلك لأنفسهم. ولقد تم الرد على الثورة الإيرانية فورا بحبسها فى إطارها الطائفى، وبشيطنة الشيعة، ثم بحرب شنها العراق على إيران بلا أى سبب مقبول. وبعد جيل كامل، قامت ثورة ضخمة فى مصر، كانت مرشحة أن تتجاوز حتى الثورة الإيرانية فى مدى الاستقلال المحتمل ان تحرزه. الولاياتالمتحدة كانت تمر فى لحظة ضعف فى 2011 وكذلك كل حلفائها، وانفلات مصر من الحلف الأمريكى وإعادة صياغة معادلات الاقتصاد والأمن فى الداخل والخارج كان ممكنا جدا. وكان ممكنا بل متوقعا، بل ضروريا، أن تقدم الثورة المصرية نموذجا أكثر تطورا حتى من الثورة الإيرانية، وأن تكون أفضل منها فى مجال حقوق الإنسان والحريات الشخصية والتعددية الثقافية والدينية، دون أن يقلل ذلك من قدرتها على إحراز استقلالها عن الحلف الأمريكى الإسرائيلى فى المنطقة. لذلك لم يكن لواشنطن هم إلا أن تمنع تحول القاهرة إلى طهران جديدة لأنه لا طاقة لواشنطنبطهرانَينِ فى بلادنا. فقامت الولاياتالمتحدة بأمرين، الأول هو احتواء الثورة المصرية وساعدها فى ذلك العسكر, ثم الإخوان ثم خصوم الإخوان اليوم، والثانى هو فتح جبهة ضد الثورة الإيرانية، وإذ لم تكن واشنطن قادرة على مواجهة الثورة الإيرانية فى إيران، قررت أن تواجهها فى سوريا. إن الحرب القادمة على سوريا، إنما المقصود بها إيران، فما عاد فى سوريا شيء يهدد إسرائيل وأمريكا، لقد أنهك البلد فى حربه الأهلية، وقصفته إسرائيل أكثر من مرة، وفى عاصمته، فلم يحرك ساكنا. المقصود هو محاصرة الإيرانيين فلا يبقى لهم فى المنطقة حلفاء. وإن الناظر إلى الخريطة ليرى، أن العراق منهك وشبه معدوم القدرات الاستراتيجية فى أى مواجهة من الغرب، واليوم أصبح حال سوريا من حال العراق. ومصر، ما تزال متمترسة بقوة فى حلفها مع إسرائيل واليمين الأمريكى، ولا خلاف لعسكرها الحاكم مع الإدارة الأمريكية اليوم إلا أنها أتخذت الإخوان المسلمين ضرة لهم فى لحظة من اللحظات، فهى غيرة ضرائر، وتركيا عضو فى حلف الناتو لا يمكن لعسكرها أن يتخذ أية خطوة بدون إذن واشنطن، وإن حاربت فستحارب سوريا لا إسرائيل، فمن بقى فى المشرق من الجيوش إلا إيران معنا، وإسرائيل علينا؟ أقول تعرضنا لهزيمة منكرة، لكنها ليست نهائية. إن من علامات الفرج أن خصومنا يكررون الخطط القديمة، وأن تلك الخطط فشلت من قبل فلا أرى سببا لها أن تنجح اليوم، واشنطن تكرر العراق فى سوريا، والعسكر والفلول يكررون مبارك فى مصر، وحلفاء أمريكا اللبنانيون يكررون الكتائب والقوات اللبنانية وجيش لبنان الجنوبى، وقد هزم الأمريكيون فى العراق، وأطيح بمبارك فى مصر، وانتهى قائد جيش لبنان الجنوبى مدير مطعم فى تل أبيب. أقول إن هذه الحرب الدائرة الآن فى سوريا، هى حرب بين أمريكا وإيران، بين الثورات المضادة الموحدة فى العالم العربى معها حلفاؤها التقليديون: أمريكا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وحكام القاهرة الجدد ومن قبلهم، وبين الثورة الوحيدة التى لم يتم احتواؤها حتى الآن فى المنطقة، وهى الثورة الإيرانية. فإذا اشتعل المشرق، ودخلت إسرائيل الحرب، ووقف معها كل أنصار الثورة المضادة، لا سيما فى القاهرة، ثم هزمت إسرائيل، أو على الأقل، لم تنتصر، فلربما فتح هذا بابا جديدا للثورة فى مصر، وأتاح لنا أن نستردها من الثورة المضادة فنسترد معها باقى المشرق. * استشاري بالأمم المتحدة