الحفاظ على صحة المهنيين كأفراد وكمجموعات بالمنظومة الصحية ، تعتبر اليوم، إحدى أهم الأولويات . فتدهور الحالة الصحية الجسمية والنفسية، إعاقة حقيقية للإنتاجية والمردودية المهنية بالقطاع الصحي. فظروف وشروط وبيئة ممارسة المهن الصحية، وخصوصا بالمؤسسات الاستشفائية والعلاجية، تؤدي إلى تدهور مبكر للحالة الصحة d?gradation pr?coce de l??tat de sant? ، والتي تتجسد بالملموس من خلال الاستعمال والاستهلاك المهني المكثف (usure professionnelle) واليومي في مواقع الممارسة بحكم الضغط الكبير للمهام والحاجيات ورغبات المواطنين الصحية ، بالعلاقة مع ضعف الإمكانيات المادية والتقنية والبشرية المتاحة، والتي تؤدي مباشرة إلى تحقيق شروط تسريع وتيرة الشيخوخة الصحية المبكرة .vieillissement en sant? وبالتالي التعرض إلى الأمراض المهنية والارهاقات المؤدية إلى عدم القدرة للقيام بالعمل وممارسة المهام بشكل صحي وطبيعي . الاستعمال المهني المكثف والمبكر ، وارتفاع معدلات التغيب عن العمل لأسباب متعلقة بالإرهاق والأمراض ، وتراجع مستويات المعرفة العملية le savoir-faire المهنية ، وجودة الخدمات المنتجة ، وصورة المؤسسة الصحية ، ورضى المواطنين... هي نتائج لها علاقة مباشرة بصعوبة p?nibilit? ممارسة المهن الصحية ، والمرتبطة أيضا بمظاهر الاختلالات الوظيفية dysfonctionnements في التنظيم العقلاني للعمل الصحي . يمكن تحديد صعوبة المهن الصحية كنتيجة للاستعمال المكثف الجسدي والنفسي، في سياق ضغوط مهنية مستمرة خصوصا مع ديمومة التناقض بين الحاجيات الخدمية المتراكمة ، والتراجع الحاد في التأطير البشري للمنظومة الصحية والتي تترك آثارا غير صحية دائمة يمكن تشخيصها، وباعتبارها أحد العوامل المحددة للشيخوخة الصحية المبكرة للمهنيين . إن واقع ممارسة المهن الصحية اليوم، تطرح ضرورة بناء معرفة علمية وموضوعية حول كيفية معايشة المهنيين لمهنهم، وكيف يواجهون يوميا الاكراهات التي تعترضهم بالعلاقة مع الأهداف المسطرة والإمكانيات المتوفرة والمعرفة المحصلة والخدمات المطلوبة وموقع المؤسسات في هرم التنظيم الصحي . فالعوامل التقليدية لصعوبة المهن الصحية، يمكن استكشافها في التعامل اليومي والمتكرر مع الإنسان كمرض، أو كحالة الاستعجالية ومحيطها الاجتماعي والأسري والاستعمال المركز على المعرفة التقنية والطبية والصحية ضمن أوضاع تتحدد فيها العلاقة بين الحياة أو الموت ، والمجهود الجسدي المتكرر، والوضعيات الصعبة كالوقوف واستعمال وسائل ومواد خطيرة والتعرض للفيروسات المتعددة بالإضافة إلى التأثيرات غير المباشرة للأمراض والحوادث التي تدخل يوميا للمؤسسات الاستشفائية على الحالة النفسية والعقلية للمهنيين .... أما العوامل غير التقليدية فتتلخص في الكيفية التي يشخصون ويعبرون بها عن حياتهم ومعايشتهم لمهنهم الصحية ، بحيث يمكن التأكيد، وبناء على دراسات افتراضية، أن مجموع المهنيين لديهم شعور وإحساس يتبلور في الكثير من الأحيان وفي مختلف المواقع الصحية بموقف سلبي يتركز مجمله في العلاقة بين المطلوب انجازه و الاكراهات البنيوية والهيكلية للإنجاز، وتراكم المهام والأنشطة غير المنجزة، بالإضافة إلى مؤشرات انهيار علاقة المهني الصحي مع القيم الصحية واختلال التوازن بين الحياة العملية والحياة خارج العمل ... وهذا يعني في تقديرنا ضرورة التعامل مع موضوع صعوبة المهن الصحية من منظور شمولي يستحضر تعدد عوامل الخطر في بعدها الوموضوعي والذاتي . فالإنصات المستمر والمتحرر من الضوابط الإدارية، ينتج تعبيرات ومواقف تجسد صعوبة ممارسة المهن الصحية ضمن أوضاع يشعر فيها المهنيون أنهم غير مسؤولين عنها مباشرة كالاختلالات الوظيفية والتنظيمية والاكراهات التي يواجهها المهني بشكل فردي أو جماعي أثناء مزاولته للمهام المطلوبة وغياب المعلومات والمعارف وأشكال التواصل الايجابي ، والتمحور حول تدبير المشاكل والصعوبات والعمل الجماعي ، وهيمنة العمل الفردي على العمل الجماعي والتصادمات والمواجهات المباشرة أو غير المباشرة مع التراتبية الإدارية أو مع المرتفقين وإشكاليات التدبير البشري والتقني وغياب الحوار الاجتماعي وأشكال التشاور والتداول المنظم والشعور المتضخم بعدم الاعتراف وتقدير المجهودات ، والإحساس بالضياع والضبابية وفقدان المعنى بتصميم استراتيجيات وبرامج غير قابلة للتطبيق الميداني بحكم مركزيتها وطبيعتها الإدارية ، والإحساس بالتعب الذهني fatigue mental والألم النفسي souffrance psychique وتكرار مستمر للعمل الليلي وطول مدة العمل وضغوط الانجاز والمردودية والمراقبة ، ووجود إكراهات عملية كثيرة وإمكانيات التعامل معها ضعيفة مع الإحساس المستمر بعدم استكمال وإنجاز العمل المطلوب ... كلها وغيرها من التعبيرات التي تكشف عن حقيقة المسافة الكبيرة بين مهنيي الصحة ومنظومتهم الصحية . وتعزى حقيقة الانتقال من الصعوبة في العمل الصحي إلى صعوبة العمل الصحي de la p?nibilit? au travail ? la p?nibilit? du travail من وضعية ما لا يمكن تحمله من صعوبات التحمل الجسدي بإضافة ما لا يمكن تحمله من صعوبات التحمل النفسي والذهني . إن المهن الصحية في ذاتها هي مهن صعبة لكن ما يحولها إلى مهن أكثر صعوبة، بآثار سلبية على الصحة الجسدية والنفسية للمهنيين ، هو الأوضاع المهنية المتسمة بالاستعمال والاستهلاك المكثف، والضغط المستمر طيلة الحياة المهنية للمهني الصحي، وهي أوضاع مرتبطة بالمحيط التنظيمي للمهن الصحية والتي تؤدي إلى تدهور ملموس في الصحة العامة للمهنيين ، وتضخم الشعور بالقلق والإحساس بالتعب ، وتنمية المواقف والتعبيرات السلبية من منظومتهم الصحية . مشروع هذه الورقة التوجيهية يستهدف إثارة الانتباه إلى أن التغييب المتكرر والمتراكم ، وعدم الاهتمام المهني والاجتماعي بالعنصر البشري الصحي ، يشكل في حد ذاته أحد العوامل البارزة في تفسير الفشل المتكرر للسياسات والبرامج المجربة بالقطاع الصحي ، واعتباره موضوعا أساسيا وداعما للتنمية الصحية المستدامة والاعتراف القانوني بالآثار غير الصحية في ممارسة المهن الصحية عبر: 1- بضرورة انجاز دراسات تشخيصية موضوعية وشمولية لتأكيد العلاقة بين ظروف وشروط وكيفية تنظيم العمل الصحي والشيخوخة الصحية المبكرة، وتحديد الفئات المهنية الأكثر استهدافا، والأوضاع المهنية الخطيرة وآثارها على الصحة الجسدية والنفسية والعوامل المسببة لصعوبة وعسر المهن الصحية ، ووضع مؤشرات موضوعية لقياس صحة المهنيين والتعرض للحوادث والأخطار والأمراض ، ومعدل أمل حياتهم بالعلاقة مع المعدل الوطني . 2- تصميم صياغة قانونية ملائمة لخصوصيات الميدان الصحي ، تحدد مساطر التشخيص والقياس والاستهداف والتكفل والتعويض عن الآثار المتعددة للصعوبات الناتجة عن ممارسة المهن الصحية . 3- ضرورة مراجعة نظام التعويض عن الأخطار المهنية في مستوى قيمة التعويض خصوصا بالنسبة للمهن التمريضية ومهن الإدارة الصحية، وإحداث تعويض عن المغادرة الى التقاعد 4- ربط مؤشرات صعوبة المهن الصحية ومؤشرات الشيخوخة الصحية والموت المبكر مع المؤشرات الوطنية لأمل الحياة ونظام التقاعد 5- إحداث اللجنة التقنية المتساوية الاعضاء المختصة بمسائل الصحة والسلامة المهنية، وتتبع ظروف وشروط العمل وممارسة المهن الصحية. * متصرف بوزارة الصحة