تزايدت في الآونة الأخيرة التصريحات الصادرة عن قيادات الحزب الأغلبي تنتقد فيها تأخر المفاوضات التي يباشرها رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، مع رئيس التجمع الوطني للأحرار، بشأن تشكيل أغلبية حكومية جديدة خلفا لحزب الاستقلال. اللافت في الأمر أن هاته التصريحات تصر على تحميل جهات في "الدولة العميقة" أو "الموازية" مسؤولية تعثر المفاوضات، فهي التي توحي لمزوار بالتشدد في مطالبه وأن الهدف من ذلك هو كسر شوكة رئيس الحكومة وإرغامه على تقديم تنازلات تبدو وكأنها تستهدف إذلال الحزب والنيل من "مصداقيته" لدى الشعب المغربي!... بنكيران وجماعته ينطلقون في كيل اتهاماتهم من قناعات راسخة، لا تشوبها أدنى شائبة، بكونهم يحظون بثقة الشعب المغربي الذي بوأهم المرتبة الأولى في تشريعيات 25 نونبر 2011، وفوَضهم بذلك مسؤولية تدبير الشأن العام، وبالتالي فأي حزب عبر عن معارضته لمشيئة ورغبات الحزب الأغلبي فهو بالضرورة يعاكس إرادة الشعب المغربي!... لنتفق بداية على اعتبار نتائج صناديق الاقتراع المدخل الوحيد لتحمل مسؤولية التدبير الحكومي، وأن قوة كل تنظيم سياسي مرهونة بنتائج الانتخابات. وبرجوعنا إلى النتائج التفصيلية للانتخابات البرلمانية 2011 نجد أن حزب العدالة والتنمية حصل على مليون و 200 ألف صوت من مجموع الكتلة الناخبة البالغ عددها 13 مليون مسجل، لغة الأرقام إذن تفيد أن الحزب الأغلبي لا يمثل سوى % 7,6 من الناخبين المسجلين في اللوائح الانتخابية، فهل بهاته النسبة يحق لحزب العدالة والتنمية أن يفرض نفسه على الجميع ويستفرد باتخاذ قرارات تهم مصير الشعب المغربي دون حسيب ولا رقيب، وهل تخول له هاته "الشرعية الانتخابية" حق فرض شروطه على حلفائه في الأغلبية الحكومية؟... والحال أنه بالاستناد الى الآلية الديمقراطية، فإن بنكيران مجبر على التحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل أغلبية برلمانية تمكنه من قيادة الجهاز التنفيذي، ففي جميع أقطار العالم ليس هناك تحالفات حكومية من دون تفاوض، بما يقتضيه الأمر من تنازلات متبادلة بين الأطراف المتحالفة، بل كثيرا ما تجد أحزابا صغيرة استطاعت فرض إرادتها على الأحزاب الكبيرة لأنها في حاجة إليها للوصول إلى الأغلبية، والتجربة الإسبانية أبلغ دليل على نقول ( الحزب القومي الديمقراطي الكطلاني نموذجا).... لماذا إذا يصر بنكيران وجماعته على إنكار حق الأحزاب، التي ينوي التحالف معها، في التشبث بمطالبها ؟ لماذا يعتبرون كل حزب له تصور وشروط معينة حول التحالف الحكومي، مجرد أداة في يد "جهات داخل الدولة" تسعى لإفشال تجربتهم الحكومية، سجلنا ذلك في تعامل بنكيران مع حزب الاستقلال حينما اعتبر مطالب شباط بإعادة النظر في هندسة الحكومة وتركيبتها البشرية، مجرد تشويش يستهدف عرقلة الحكومة، والجميع تابع كيف انتهى إصرار بنكيران على تجاهل مطالب حليفه القوي بانسحاب هذا الأخير من الحكومة، نفس المنطق ظل يتعامل به بنكيران مع مزوار منذ شهرين تقريبا، فرئيس الحكومة لم يخف انزعاجه من تشبث الأحرار بمطالبهم واعتبره أمرا غير مفهوم بالنسبة له، بل إنه هدد بالرجوع للملك في حال تعثرت المشاورات، في تهديد مبطن منه باللجوء لخيار الانتخابات السابقة لأوانها، الفزاعة التي يلجأ إليها بنكيران لترهيب الدولة والمجتمع. وإذا سلمنا بمنطق المؤامرة، وأن هناك جهات خفية تتحكم في ضبط إيقاع المفاوضات، كيف يسمح بنكيران لنفسه بالتحالف مع أحزاب هم في نظره مجرد كراكيز من قصب يتم تحريكهم من وراء حجاب، كيف يقبل بنكيران بوضع يده مع أحزاب فاقدة لسلطة القرار، والكارثة أنه يراهن عليها لتنزيل الإصلاحات؟!.... غير أن أخطر ما يحرك مواقف قيادات الحزب الأغلبي هو اعتقادهم الراسخ بكون تحملهم لمسؤولية التدبير الحكومي جاء بتكليف رباني لإصلاح الأوضاع الفاسدة بالبلد، وهو ما سبق لبنكيران في أكثر من مرة أن صرح، في جلساته الشهرية بالبرلمان، بكون وجوده في منصب رئيس الحكومة هو تجسيد لرغبة إلهية، وأنه لن يترك منصبه إلا إذا أراد الله ذلك، وتأسيسا عليه فإن كل من تجرأ على معارضة جماعة بنكيران، إنما يعارض مشيئة الله عز وجل!... هاته المواقف تكشف عن وجود أعطاب مزمنة في بنية التفكير لدى قيادات الحزب الأغلبي، فهم بحكم انخراطهم في حركة التوحيد والإصلاح، الجناح الدعوي لتنظيمهم السياسي، بما تشكله هاته الحركة من هيمنة وتوجيه للمواقف السياسية لحزب العدالة والتنمية، تجدهم يتصرفون وكأنهم مكلفون برسالة ربانية، اصطفاهم الله لتنزيلها ونشرها بين الناس. إنها منظومة فكرية ترفض الاختلاف في وجهات النظر، تؤمن فقط بالرأي الوحيد المسنود بالقداسة المستمدة من السماء، ولذلك ترى بنكيران يتصرف وكأنه المرشد الحاكم بأمره، فكما أنه لا حق لأعضاء جماعته في مناقشة قراراته فإن أحزاب التحالف الحكومي، بل حتى تلك المتموقعة في خندق المعارضة، مطالبة بالخضوع والامتثال، وإلا فإن هناك جهات في "الدولة العميقة" أو "الموازية" تسعى لإفشال حكومته التي أراد الله لها أن تقود البلاد في هاته المرحلة!... إن أكبر تهديد لمستقبل البلاد هي عقلية المرشد، المفتون بها بنكيران حد التماهي، إنها عقلية الاستعلاء التي ترى في الجماعة النقاء والطهرانية، وفي ما سواها الفساد كله، ولذلك لم يكن اعتباطا من بنكيران أن يوجه في كل مرة رسائله إلى من يهمه الأمر مفادها أنه محبوب من طرف الشعب، فأينما حل وارتحل يقابله المواطنون بالترحاب والنساء بالزغاريد، يدعون له بالنصر على "هادوك" الذين يريدون إفشال تجربته الحكومية، ولذلك فبنكيران يردد دائما بأنه واثق من أن الله والمغاربة سينصرونه على الأعداء الذين يعرفهم الشعب جيدا!... على بنكيران وجماعته أن يدركوا بأن الإيمان بالديمقراطية وبشرعية الانتخاب تقتضي بالضرورة الإيمان بحق القوى السياسية الأخرى في الوجود وفي التعبير عن تصوراتها، ومواقفها التي لا يفترض أن تتماهى مع مواقف جماعة بنكيران، ولا حق لحزب في فرض مواقفه إلا في حدود التمثيلية التي منحته إياها صناديق الاقتراع، أما الإصرار على منطق الاستقواء بالتكليف الرباني والتعالي عن الخلق وارتداء عباءة الطهرانية، فإنها ولاشك البوادر الأولى لقيام الدولة الدينية التي لم تجن من ورائها البشرية على مر العصور إلا الخراب والدمار....