في حوار أجرته صحيفة "لوموند" الفرنسية مع فرانسوا دوبي ، سلط عالم سوسيولوجيا التربية, الضوء على الكثير من مكامن الخلل في النظام التعليمي الفرنسي الذي كان حتى وقت قريب مفخرة وطنية في فرنسا, قبل أن يتحول إلى أزمة حقيقية,يتداخل فيها الاجتماعي بالسياسي والاقتصادي.. ولأن بعضا من مظاهر هذه الأزمة تكاد تتكرر عندنا في المغرب, نترجم هاهنا آراء هذا السوسيولوجي؟ بتصرف عن لوموند منذ زمن طويل ، كان الفرنسيون يعتقدون أنهم يمتلكون واحدا من أفضل أنظمة التعليم في العالم . غير أنه خلال الثلاثين عاما ، لم يصدر أي تقرير يخلو من الإشارة, في هذا الجانب أو ذاك , إلى أزمة التعليم . هل تتفقون مع هذا التشخيص بشكل عام؟ أنا أقول حذار من المقارنات الدولية التي تصنف المجتمعات و مؤسساتها على أنها مقاولات أكثر أو أقل نجاحا . فنظم التعليم هي جزء لا يتجزأ من ثقافات و من تاريخ الأمم ، ولا يمكن تخيل نقل أو استيراد نظام تعليمي ما, كما يتم نقل التكنولوجيا. و ليس من الضروري أن يكون المرء مولعا بالدراسات الاستقصائية الدولية ليخلص إلى أن المدرسة الفرنسية تواجه صعوبات خطيرة . في أية مجالات تقصد ؟ أولا ، في فرنسا كما في أماكن أخرى ، فإن عدم المساواة في التعليم يؤدي إلى إنتاج التفاوتات الاجتماعية ، غير أن هذه الظاهرة باتت قوية بشكل خاص بيننا . في حين أن معظم المجتمعات التي تعاني من عدم المساواة الاجتماعية يكون الأمر أقل حدة لديها حين يتعلق بالتمدرس ، ففي فرنسا بلغ اتساع هوة التفاوتات التعليمية حجما كبيرا يمكن أن يقاس بمدارك الطلاب, من حيث أنه يعكس بشكل واضح عدم المساواة الاجتماعية . لذلك ترسخ المدرسة لدينا حدة التفاوتات الاجتماعية . وهذا يؤثر بطبيعة الحال على مستوى الطلاب. ثم هناك مشكلة العلاقة بين التكوين و التشغيل. فالمدرسة الجمهورية كانت في ما مضى توزع القليل من الشهادات ، مما يجعلها فعالة, في حين أنها لم تكن تعاقب أولئك الذين كانوا بالكاد يتمدرسون. اليوم ، الدبلومات باتت ضرورية للجميع ، ولكن فائدتها أصبحت بلا قيمة ثابتة ، و هو ما يترك عشرات الآلاف من الطلاب الذين لا يحصلون عليها محرومين . المدرسة لم تعد مفيدة على الإطلاق لمنح مؤهلات ضرورية للدخول في الحياة المهنية . وأخيرا ، على حد تعبير عالم الاجتماع إميل دوركهايم (1857-1917) ، فإن المدرسة الجمهورية كانت تحمل بعدا "أخلاقيا " ، من حيث كونها كانت تتوخى تكوين الأفراد و بناء العلاقات الاجتماعية للمواطنين . الآن لدينا, أكثر فأكثر, صعوبة في تحديد المشروع التعليمي, فجميع الدراسات الدولية تظهر أن الطلاب الفرنسيين باتوا أقل تنافسية ويغلب عليهم الإجهاد والتشاؤم ، وعدم الثقة في أنفسهم وفي الآخرين . كل شيء يحدث كما لو كانت المدرسة قد أصبحت مجالا واسعا تطغى عليها المنافسة بين الطلاب و بين أسرهم ، كما لو أنها لم تعد تعرف أي نوع من الأشخاص تريد أن تنتج بعيدا عن نجاح مدرسي يخلق تفاوتات اجتماعية لا محالة. هذه النتائج مؤلمة, ولا سيما في بلد ظل يعتقد دائما أن المدرسة الجمهورية ينبغي أن تنتج أفضل الأفراد للمجتمع من خلال تعزيز قيم المساواة ، والتنمية الاقتصادية والمواطنة . على مدى أربعة عقود ، تمت دمقرطة المدرسة بشكل كبير ، خصوصا في المدارس الثانوية و الجامعية. أليس هذا تقدم اجتماعي لا يمكن إنكاره ؟ مثل معظم البلدان المشابهة لنا، اختارت فرنسا بذل جهد كبير لتعميم ولوج الجميع الى التعليم , خصوصا في الفترة مابين 1960 و 1980 , حيث بات الولوج إلى المدارس الثانوية والتعليم العالي مفتوحا إلى حد كبير ، ولكن عدم المساواة تغلغلت داخل المدرسة . حدث كل شيء كما لو كنا نرغب في تغيير المدارس دون إصلاح الواقع ، دون فهم أن الكم يؤدي إلى تغيير في طبيعة المدرسة . على سبيل المثال ، أنشأنا كلية واحدة في عام 1975 على غرار المدرسة الإعدادية " البرجوازية "، وليس لتلبية احتياجات الطلاب من الطبقات الدنيا, لقد حافظنا على التسلسلات الهرمية للمدرسة, مما أدى إلى فشل التوجه، حيث كان يجب تنويع أشكال التكوين و تمكين الطلاب من تعميم أفضل في النظام. لم نفهم حينها أن مهنة التدريس في النظام الشامل يجب أن تتغير طبيعته وشعرنا أن المستوى الأكاديمي للمعلمين جيد بما فيه الكفاية لضمان مهاراتهم التعليمية . بعبارة أخرى، دمقرطة التعليم لم تصحح التقسيم الطبقي النخبوي ؟ لقد كان نظام التعليم الفرنسي غير متكافئ للغاية, و ظلت تسيطر عليه النخبة من المدرسة الجمهورية : المثل الأعلى النخبوي كان يحدد جميع الممارسات ، بما في ذلك القطاعات والمؤسسات التي لا تنضم إلى النخبة ، بل حتى أقسام الأطفال الصغار كانت تبلي بلاء حسنا . في نهاية المطاف ، تغيرت المدرسة الفرنسية مع الحفاظ على الهياكل و الممارسات التي كنا نظن أنها قدمت أمجادها في الماضي. المعلمون لديهم شعور بأنهم استنفدوا من قبل الإصلاحات التي لا تغير أي شيء أساسي ..و ظائفهم باتت صعبة على نحو متزايد، والآباء والأمهات يعتقدون أن هذا النظام هو أكثر تعقيدا وغير مفهوم.. ما هي أعراض خيبة الأمل هذه ؟ الفرنسيون تعلموا في المدرسة أن الجمهورية تأسست من قبل المدرسة, وأنهم لا يزالون ينتظرون من المدرسة وظيفة أسمى. يجب على المدرسة الجمهورية أن لا تكون فحسب مدرسة جيدة، بل يجب عليها " إنقاذ " المجتمع . وبالتالي فإن خيبات الأمل أضحت عميقة جدا . الأزمة الأولى هي في العدالة المدرسية. الجميع يكتشف أن مرور النخب في المدرسة الجمهورية محفوظ فقط لبعض الاشخاص, حيث التكافؤ في الفرص مجرد وهم . فخصائص الفئات الناجحة هي دائما تقريبا نفسها التي تكون ناجحة و دونها دائما تقريبا يكون مصيرها الفشل . الأسر تحاول اختيار أفضل الشعب و أفضل المؤسسات و تدخل لعبة " سوق المدارس " العامة والخاصة ، و الجميع يعرف أن المدرسة تعطي أكثر لأولئك الذين لديهم بالفعل أكثر . الاختلافات بين أداء المدارس آخذة في الازدياد و العديد من الطلاب يتسربون لأنهم يعتقدون أنه ليس لديهم مستقبل أكثر في المدرسة ... بل ينظرون إليها في بعض الأحيان باعتبارها تفصل بين الناس, ليس وفقا لجدارتهم ، وبما أن سوق الاقتصاد لا يمتص جميع الشباب ، فمن السهل أن تتهم المدرسة بكل سوء ومكروه. تواجه المدرسة أيضا أزمة فعالية التعليم . فإذا كان الأداء الأكاديمي للطلاب على ما يبدو قد ارتفع خلال سنوات التعميم، فليس هذا هو الحال منذ عقد من الزمن ، منذ أن استنفدنا نموذج الكتلة . وحول هذه النقطة فإن المقارنات الدولية صعبة بشكل خاص بالنسبة لفرنسا . فالمدرسة لا تكون فعالة إلا للطلاب الجيدين و أولئك الذين قدر لهم أن يكونوا كذلك . يبدو واضحا أن جداول الزمن المدرسية ، وطريقة تنظيم العمل المدرسي ، ونوعية تكوين المعلمين ، وصعوبة تقييم عمل الطلاب ..كل ذلك يمكن أن يكون السبب, لأن البلدان التي تعاني من المشاكل الاجتماعية نفسها التي لدينا تحصل على نتائج أكاديمية أفضل . . الأزمة الثالثة هي أزمة نجاعة . فرنسا الصناعية قامت سابقا ببناء نموذج معادلاتي يضمن العلاقة المثالية بين التخرج و التوظيف والنمو الاقتصادي وخلال " ثلاثين عاما مجيدة " تم التحقق من صحة هذا النموذج . ولكن الأمر بات محدودا والمعادلة ماعادت تصلح . على الرغم من وجود عدد لا يحصى من "الإصلاحات" ، فإن السياسيين باتوا بلا حيلة للتغلب على هذه الأزمة . كيف تفسرون هذا الشلل السياسي ؟ الجزء الأكبر من هذا البلوكاج يأتي من معضلة لا تتم مناقشتها الا داخل قطاع التعليم مع نفسه في مدرسة التجارة الداخلية . وهذا أمر مفهوم ، لأن أي إصلاح لا يمكن أن ينجح بدون موافقة المعلمين . ولكن هنا تكمن المشكلة, فكل الجسم التعليمي، كل شعبة ، كل تخصص ، كل عنصر من عناصر هذا النظام خائف من فقدان منصبه إذا ما تعلق الأمر بتغيير القواعد. اليوم وبعد 30 عاما, هناك حاجة ماسة لعدد من الأسئلة : تعريف الخدمات ، وطبيعة الامتحانات التنافسية ، وطريقة تقييم المعلمين ، ووضع انتدابهم في المؤسسات ، واختيار الجامعة، و طبيعة البكالوريا ... فالإبداع يكمن في تغيير الأشياء دون المساس بالأقفال الأيديولوجية ، مما يحد بشدة من عمل الأطر. ماهو المخرج؟ أزمة المدرسة الفرنسية هي أزمة سياسية في الأساس . والأمر متروك للقادة السياسيين لإنتاج عروض سياسية ، وتسهيل النقاش العام والبرلماني حول قضايا التعليم ، وإلا فإنه من غير المرجح أن تتم إزالة العقبات, خصوصا و أن الشرعية الديمقراطية يمكن أن تعارض غدا المصالح الخاصة .