السفر مدخل للتخييل، منذ انطلق عوليس في تيهه الملحمي في أوديسة هوميروس، بيد أن حكي ما جرى هو حرفة أكثر منه شهادة، من هنا فإن ما بات يستثير القارئ اليوم هو سفر حرفيين استثنائيين في عوالم الأدب، لأن ما يعد به هؤلاء المغامرون في الكتابة، و»جوابو الآفاق» في الحياة، هو أكبر من مجرد مقاسمة القارئ معلومات مدهشة، وصور غريبة، ووقائع لم تخطر على بال. إن وعدهم أجل من ذلك وأبعد غورا، يتمثل في تلك الغلالة الحريرية العصية على التقليد التي تجعل المألوف والمعروف وما تنقله صور الأفلام والتحقيقات الصحفية، والتسجيلات الوثائقية، وكاتالوغات الصور الطبيعية، شيئا جديرا بالمتابعة وإعادة الاستكشاف. ذلك ما يجعلنا نتلهف لقراءة رحلة «أندري جيد» إلى شمال إفريقيا، ورحلة «همينغواي» إلى باريس، ورحلة «لورانس العرب» إلى شبه الجزيرة العربية؛ دون أن نلتفت كثيرا إلى تلك التمييزات الصنفية التي تجعل نص أندري جيد «رحلة إلى شمال إقريقيا» «رحلة خالصة، ونص همنجواي «باريس سهرة لا تنتهي» سيرة روائية، ونص «أعمدة الحكمة السبعة» أحد كلاسيكيات الرواية الإنجليزية . رحلة الروائي هي سيرة بمعنى ما، بقدر ما هي رواية، عن الذات والمكان الغريب والنائي، رصد لدهشة العين والأذن، والأحاسيس المستثارة إزاء المدن وساكنيها، ومفردات كلامهم، وفرحكم وتعاستهم، وبساطتهم وتعقيدهم، تحكي عبر صور ومقاطع وصفية وسردية مفعمة مجازا، وعبر مفردات شفافة، أحوال الوقوع في سحر العوالم الغريبة، والاكتواء بنار الأحاسيس المرزئة التي تستثيرها، من «وحشة»، وبعد عن الأهل والمحيط الأليف، وما تستدعيه من مقايسة متداعية بين «الفوق» (أو التحت) الذي قد يمثله الفضاء الجديد المكتشف، و»التحت» (أو الفوق) التي يقبع فيه الوطن أوالفضاء الأصلي. في هذا السياق تمثل رحلة الروائي المصري «سعد القرش» الموسومة ب: «سبع سماوات» «إلى بلدان «الجزائر» و»العراق» و»الهند» و»المغرب» و»هولاندا»، وسياحته في أقاليم بلده الأصلي «مصر»، عينة من النصوص التي تتجاوز نطاق الشهادة «التعريفية» بأوطان وشعوب منتقاة، إلى «ترميز» تلك الفضاءات والانخراط في جدل مع مدارجها العاطفية، وما تنطوي عليه من أسرار وطبقات حسية وذهنية، تجعل من الإصغاء إلى وجيبها مهمة لا تتعلق بصدقية الإخبار، ودقة التعريف، وإنما تنصرف إلى التعلق بعمق التخييل، ونضج الرؤية، وبراعة التعبير الروائي. وبمفردات تجنيسية صرف، هو نص يتجاوز النسق الرحلي، إلى المبنى الروائي المفتوح، على احتمالات السخرية، والمقايسة، والدرامية، والكثافة التصويرية، والمشهدية، والحوارية، وغيرها من الخصائص السردية التي تنأى بنص «سبع سماوات» عن المثول بما هو مجرد تدوين «تلقائي» لوقائع سفر صحفي، إلى بلاد بذاتها، لأداء مهام وظيفية. ولعل سردية «سعد القرش» بما تمتلكه من مقومات الثراء اللغوي والشفافية الأسلوبية، وسعة الأفق التخييلي، إنما تمثل نوعية من النصوص السردية في الأدب العربي المعاصر، تأبى على التصنيف في خانة الرحلات الخالصة، وتتحول إلى مزيج من «السيرة» و»الرواية» و»التحليل السياسي» و»النقد الفني»، على غرار ما نجده في نصوص: «الرحلة: أيام طالبة مصرية إلى أمريكا» لرضوى عاشور، و»الرحلة الأخيرة» لهشام شرابي، و»المدينة الملونة» لحليم بركات، و»شاعر يمر» لعبد اللطيف اللعبي، و»سيرة المدن والمقاهي والرحيل» لأمجد ناصر، وغيرها من النصوص التي كتبها روائيون عرب طليعيون، للتأريخ لوقائع استثنائية، والحكي عن الذات وتحولاتها وتعاساتها الوجودية، بقدر ما تلتقط شظايا العواطف المتناثرة عبر المعابر وفضاءات التيه، حيث لا تنتظم سيرة الذات إلا في جدلها مع المدن والمرافيء التي اقتسمت لحظات الاغتراب. يروي سعد القرش في «سبع سماوات» وقائع سفره إلى أربع بلدان عربية، وبلد أوربي وآخر آسيوي، فضلا عن أسفاره في وطنه، يناهز مجموع تلك البلدان الست، أخذت السارد إليها سبع رحلات، رحلة لكل بلد، باستثناء «هولندا» الذي أخذت السارد إلى ربوعها رحلتين اثنتين. وهو الوازع العددي الذي حدا بالكاتب إلى وسم رحلاته تلك بسبع سماوات، في استدعاء صوري لرحلة الإسراء والمعراج، التي بات فيئها الرمزي ملهما لتخييلات السفر. ومنذ المقدمة يأخذنا السارد إلى «العراق» زمن الحصار في استطراد تمهيدي يرسم به حدود اللعبة الروائية في المبنى السردي، التي ستنهض على ثلاثة مرتكزات تصويرية، نختزلها في: «المقايسة الممتدة» بين الوطن (ناسه ومجتمعه) والبلاد الأخرى، و»الهجائية المضمرة» لأحوال الذات، و»السفر السينمائي». 1 - المقايسة الممتدة الظاهر أن موازنة حال «الفوق» الذي تمثله مراتع الأصل بأوهاد «التحت» التي ترزح فيه المرافئ الجديدة هو ولع الروائيين الرحالة، منذ سرديات «كونراد» و»فلوبير» و»جورج أورويل» و»هميغواي»... فالسارد لا يرى الفضاء الجديد إلى بعين مثقلة بظلال الذاكرة، عين تستوطنها مدارج اليفاعة ومحيط الأنس، ليس غريبا، إذن، أن تحفل رحلة «سبع سماوات» بصور المقارنات الدقيقة بين حياة الناس «هنا» و»هناك»، وأن تمتلئ بالوقفات التأملية في أحوال الأفراد والجماعات، وسجاياهم، وأسباب رفاههم أو شقاوتهم، في كل بلد من بلدان السفر، وما آل إليه الوضع في بلده مصر، وهي وقفات تتخلل معظم مقاطع الرحلات، كلما استثارت السارد خاصية ثقافية أو سلوكية جديدة، إلا واستدعت إلى ذهنه صورة من صور الانحدار التي انتهى إليها عيش المصريين، أو صورة من صور الاعتداد بالذات والوطن. يقول السارد في مقطع من المقدمة: «في السفر أبحث عن مصر التي أحلم بها. من حق أي إنسان أن يرى بلده الأجمل. ولست مبالغا إذا قلت إن مصر هي الأبهى، دائما أقول لأصدقائي من غير المصريين إن القاهرة، بصرف النظر عن أي اسم تحمله عبر العصور، خلقها الله على مهل، في هذا المكان، ثم خلق مصر بحدودها،...ثم خلق الدنيا. أقسو على مصر لأنني أغار عليها، وقسوة المحب واجبة دائما... لا أشغل نفسي كثيرا بتأمل غرائب الأماكن، ولا تبهرني البنايات الفخمة، إلا بقدر ما تحمل من الملامح النفسية للذين شيدوها...»( ص 15-16). لا شك أن إحدى مثيرات الرحلة البحث عن الذات، وكشف طاقاتها ووعي إمكاناتها، ففي الخروج من جغرافيا الولادة والانتماء، ينمو الولع بالمراجع والأصول، ويتحول كل لقاء مع الغير إلى مساحة للمقارنة غير الموجبة دائما، تنتهي عادة بانتصار الجذور اللسانية والعرقية والثقافية، ذاك ما نكتشفه في كل الرحلات الكبرى، بدءا بمدونة رحلة «ماركو بولو»، وانتهاء بسرديات سفر الساسة والعسكريين والصحفيين عبر بؤر الصراع في عالم اليوم، وهو ما يتجلى بصيغة أقل حدة، وأكثر سعيا إلى الحوارية في «سبع سماوات»، فالسارد المأخوذ بعاطفته الوطنية التي تلامس الشوفينية أحيانا، لا يرى غير «مصر» فيما يحل به من بلاد، وهي الرؤية التي تنعكس في بنية التخييل عبر المراوحة السردية بين «الهنا» و»الهناك»، وعبر صيغ المقايسات المتباينة المداخل والأبعاد الجمالية. هكذا تتحول المدن وتفاصيلها المعمارية، في «سبع سماوت»، إلى خرائط للروح المستكينة، وإلى جسد بلاغي لماهية سرية هي الطبيعة الإنسانية. لا جرم إذن، أن تنطق الساحات والمقاهي والشوارع ودور العبادة وعوالم القاع، من خلال شخصيات فارقة، وصور بشرية استثنائية، ولربما ذلك ما يمنح الرحلة نفسها الروائي المفعم درامية، فعبر الحوارات المبثوثة بين السارد ومخاطبيه الآخرين، العراقيين، والمغاربة، والجزائريين، والهنود، والهولنديين... والمصريين أيضا، ترتسم المسافات الحسية والفجوات الوجودية بين «الداخل» و»الخارج». ومن خلال مشاهد المونولوجات، والوفقات التأملية، والبورتريهات الساخرة لأصدقاء وأقارب وأشخاص عابرين نتغلغل في دهاليز المكان، ونستكنه أسراره الخفية، ذاك ما تصرح به الفقرة المقتبسة هنا التي تكاد تختصر صميم الرؤية التخييلية في النص. بهذه الطريقة نتعرف على عوالم بغداد عبر شخصية «الشاعر الصعلوك» الذي يترك كل شيء لأجل مرافقة ضيوف مهرجان المربد الشعري، فمن خلال تناقضاته وسقطاته والتباساته السلوكية نكتشف مآسي الأفراد والمجتمع تحت حكم الدولة التسلطية التي مثلنا النظام البعثي. كما نرسم ملامح الهند في مخيلتنا عبر الصور الشديدة الشفافية والنعومة والعمق التي تشكّل ل: «الدالاي لاما»، و»نجوم بوليود»، بل ولعمال الفنادق والمرشدين السياحيين، وسائقي الدراجات الثلاثية... ونغوص في تربة الجزائر من خلال صور كتابها وثوارها وجمهور كرتها وحماس شعبها واندفاعه الفطري إلى التخوم القصوى، مثلما نرتاد عوالم البهاء الحسي والمعنوي لهولندة، ونطالع ملامح مجتمع العقلانية وسلطة القانون والمؤسسات، من خلال شخصية المستعرب الأستاذ في جامعة لايدن ثم عبر صور أجهزة جماعية تمتد من الشرطة إلى عاملات الجنس، إلى رجال السياسة. وهي النماذج البشرية التي تغدو منفذا لمقايسات، لا تنتهي، بين البيوت والأرصفة والمقاهي ومؤسسات الدولة، والضفاف المطلة على نهري «الراين» و»النيل»، وأولا وأخيرا بين الطبائع المتناقضة والسلوكات التي لا تلتقي في شيء.