يبدو أن عملية فض اعتصامي رابعة والنهضة أصاب بعض الدول بحالة من فقدان التوازن الدبلوماسي وهو ما يشير بوضوح إلى أن الحملة الإعلامية الممنهجة والمنفذة بشكل جيد لإيهام قيادات الاعتصام ومن يدعمهم من خارج مصر بأن عملية الفض ستكون تدريجية وعلى مدى أيام، قد نجحت في أن تفرض على قيادات الاعتصام ومؤيديهم في الخارج وضع خطة تعتمد على طول مدة الاعتصام والرهان على الرأي العام العالمي، وقدرة قناة الجزيرة على التضليل لمضاعفة الضغوط على الحكومة المصرية، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب أدناها الخروج الآمن للقيادات. عملية الفض الخاطفة مكنت الرأي العام أن يلمس معنى أن تختلف إيران وتركيا حول سوريا وتتفقان في الشأن المصري وكيف تمتنع أميركا عن التدخل في سوريا وتصر على التدخل في مصر. وكشفت كذلك اختلال الرؤية الدبلوماسية التي كانت مبنية على وجود التنظيم الدولي للإخوان في اللعبة السياسية المصرية، وهو التنظيم الذي وصل في بعض دول المنطقة إلى درجة توجيه السياسة الخارجية لها. ردود فعل هذه الدول لم تكن تستند إلى قيم أو مبادئ معينة تؤمن بها وتطبقها فعلياً. وليس أدل على ذلك من سحق المتظاهرين ضد تزوير الانتخابات الإيرانية أو التعامل اللاإنساني مع معتصمي ساحة تقسيم التركية الموصوفين بواسطة رئيسهم بالجرذان، أو سحب جنسية عدد كبير من مواطني إحدى الدول الصغيرة نتيجة مقال كتبه أحدهم، وسجن شاعر بسبب قصيدة، عدا ترحيل الآلاف في وقت سابق. إلا أن ردة الفعل الأبرز تجاه فضّ اعتصامي رابعة والنهضة كانت تلك الصادرة عن تركيا والتي اتضحت أبعادها في الحملة الشرسة التي وجهها الرئيس التركي تجاه الحكومة المصرية وضمنها خطابه الأخير الذي يؤكد إدراك أردوغان لحجم خسارته لعدم تواجد الإخوان في السلطة وفشل محاولات المواجهة مع الشرطة المصرية لعدة أيام في رابعة كما كانوا يأملون. إدراك لحجم الخسارة انحدر به إلى عدم إدراك خطورة التحريض المباشر وغير المباشر للإخوان لخلق عقبات أمام المسار الانتقالي، أو إرباك الحكومة بافتعال العنف أو شن الحرب النفسية ضد مؤسسات الدولة، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك كدعوة الخارج للتدخل في توافق مع الدعوة التركية لمجلس الأمن لبحث الشأن المصري، وقد يصل الأمر إلى السيطرة على قرى هنا أو هناك وتكوين إمارات صغيرة في تكرار لسيناريوهات حدثت في أكثر من مكان. اللغة العاطفية التي تميز بها الخطاب وانحدرت به إلى مستوى الخطابات الشعبية من نوع »عاشور بتاع الشرقية بيأجر بلطجية » أظهرته كزعيم لتنظيم سياسي لا رئيس دولة. ورغم أن الخطاب اتصف بالشعبية ودغدغة العواطف إلا أنه لم يخل في ثناياه من الدفع العاطفي والتجييش، فما إن رفع أردوغان يده بالرمز الماسوني- مع انتفاء القصدية هنا في حدود معرفتي- والذي يعني الصمود ويصور العين الحارسة بثني الإبهام حتى ارتفعت مئات الصور من الحضور تحمل الرمز، ثم تبع ذلك رؤوس الإخوان في الخليج ومصر وانتشر انتشار النار في الهشيم بين مريديهم في وسائل التواصل الاجتماعي دون معرفتهم بحقيقة الرمز ومعناه. هذا المعنى يذكرنا بالحملة التي قامت بها رموز إخوانية قبل وبعد فض الاعتصام تطالب بالصمود وعدم الرضوخ للواقع. الحقيقة أننا أمام خطاب احتوى الكثير من الشعبوية مروراً بدغدغة العواطف وانتهاء بلغة زعماء التنظيمات السياسية مما يجعله ممثلا لكل معاني وأبعاد التدخل الفج في الشؤون الداخلية لدولة كبيرة بحجم مصر مستهدفة من عدة جهات، وأعتقد شخصيا أن من يقدم خطابا جماهيريا بهذه المضامين يتحمل بشكل أو بآخر مسؤولية بعض الأحداث كمقتل المجندين الأربع والعشرين العزل بدم بارد. في الجانب الآخر يبرز خطاب العاهل السعودي ليحدد نقاطاً واضحة ويحمل رسائل حازمة للدول التي تمارس تدخلاً صريحاً فيما لا يعنيها. ولا شك أن أول ما يلفت الانتباه هو التأكيد على حقيقة أن مصر للمصريين ولن تكون لغيرهم. وأن السعودية ترفض أي محاولة لضرب وحدة مصر أياً كان مصدرها كما ينتقد الموقف الأميركي والدول التي تزعم محاربة الإرهاب من جهة وتقف صامتة أمام أعمال العنف والإرهاب إذا توافقت مع مصالحهم. مصر في خطاب العاهل السعودي تمثل صمام الأمان للعرب جميعاً ويأتي استقرارها كأحد أهم أولويات النظام العربي بصفة عامة والدولة السعودية بشكل خاص. ويتضمن الخطاب تأكيدا على قدرة مصر على التعافي من أزمتها الحالية والعودة إلى ما كانت عليه قريباً جداً. هذه أهم محددات خطاب العاهل السعودي وهو يعكس بوضوح الدبلوماسية الهادئة والواقعية التي تتميز بها المملكة ويعكس مبدأها الثابت بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ورفض هذا التدخل من أي جهة لما في ذلك من إضرام المزيد من النيران ورفع درجة الاحتقان في مصر والمنطقة بشكل عام. كما أن الدعم الذي توجهه السعودية لمصر يهدف إلى دعم الاستقرار وهو موجه للأرض والشعب وليس إلى الأنظمة الحاكمة، وهو أمر يؤكده تاريخ العلاقات السعودية المصرية. في الوقت الذي اكتفى فيه الخطاب الأردوغاني، كنموذج تستظل تحته رؤى مشابهة لإيران وللدولة الحاضنة للجهاز الإعلامي الإخواني، بزيادة الاحتقان لدى العامة والبسطاء بدفع وتشجيع من التنظيم الدولي ورموزه وانسياق العامة خلف الأصوات العالية والخطب الحماسية ورسائل التحريض الإعلامية التي تصدر من قيادات التنظيم أو من جهازه الإعلامي القابع على بعد أمتار من المكتب التجاري الإسرائيلي. في المقابل نجد تداعيات من نوع آخر لخطاب الملك عبدالله تمثل في التحركات الدبلوماسية السعودية لدى مراكز صناعة القرار الدولي لتسمية الأشياء بأسمائها ووضع النقاط على الحروف فمزاعم الشرعية التي تقدمها بعض الدول كحجة للتدخل في شؤون مصر الداخلية قد حسمها الشعب المصري من ناحية وتعنت التنظيم الدولي ورموزه من ناحية أخرى. كما أن العقل والحكمة يقتضيان الاقتناع بأن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء وأن التركيز ينبغي أن يكون في المرحلة الحالية لمنح خارطة طريق المستقبل الفرصة الكافية للتطبيق على أرض الواقع وفتح باب المشاركة لجميع الفئات والشرائح المجتمعية والأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها في مصر دون أي تدخل أجنبي أو أجندات تحاول بعض الدول فرضها على الحكومة الانتقالية. نحن إذن أمام خطابين أنتجتهما عملية فض اعتصامي رابعة والنهضة: خطاب موجه إلى فصيل داخل المجتمع المصري يتجاوز كل القيم والمبادئ والأعراف الدبلوماسية ولا يهتم أو يقيم وزناً للدم المسفوك من جهة ما كما يقيمه لجهة أخرى، باختصار خطابٌ داعٍ للفوضى. وآخر موجه للأرض المصرية وحكومتها وشعبها يتضمن دعوة لحقن الدماء وتتساوى فيه الدماء وقيمتها، وباختصار خطابٌ داعٍ للاستقرار. وشتان ما بينهما.