أخنوش يترأس اجتماعا بشأن "الصحة"    مقاطعة طنجة المدينة تساهم في فعاليات المنتدى الاقتصادي المغربي الافريقي بحضور وفد روسي رفيع    تحذير مقلق.. "ناسا" ترفع احتمالية اصطدام كويكب بالأرض    الحرس الإسباني يحقق في وجود أنفاق لنقل الحشيش من المغرب    نقابة CDT تنظم مسيرة احتجاجية ثانية الأحد على خلفية الارتفاع المهول للأسعار وانتشار الفساد وتضارب المصالح    خبير إسباني: المغرب مرجع دولي في مجال مكافحة الإرهاب    من ساحة السراغنة إلى قلب الدار البيضاء…ذاكرة لا تُمحى    طالبي ينال الجنسية الرياضية المغربية    الدكتور نجيب بوليف يصدر كتابه الجديد: "الانتقال الطاقي بالمغرب… اختيار أم ضرورة؟"    اندلاع حريق في سيارة نفعية بمدينة الحسيمة    اعتقال متورطين في مقتل شاب مغربي بإسطنبول بعد رميه من نافذة شقة    نتنياهو: "يوم مؤلم" ينتظر إسرائيل    المغرب يلتقي بمصنعِين في الصين    مبيعات الإسمنت ترتفع في المغرب    وديتان للمنتخب المغربي في يونيو    المغرب يوجه ضربة جديدة للتنظيمات الإرهابية بإحباط مخطط "داعش"    الأرصاد الجوية تترقب يومين من التساقطات الإضافية في شمال المغرب    إيقاف بيلينغهام وريال مدريد يستأنف    أزمة المستحقات بين الشوبي ومالزي    "بويذونان".. دراما مشوقة على قناة "تمازيغت" تفضح خبايا الفساد ومافيا العقار بالريف    أطلنطاسند للتأمين تفوز بجائزة الابتكار في تأمين السيارات المستعملة ضمن جوائز التأمين بالمغرب وافريقيا 2025    شراكة استراتيجية في مجالي الدفاع والأمن بين الجيش المغربي ولوكهيد مارتن الأمريكية    تحت شعار «الثقافة دعامة أساسية للارتقاء بالمشروع التنموي الديمقراطي» الملتقى الوطني الاتحادي للمثقفات والمثقفين    المغرب التطواني يفك ارتباطه بمحمد بنشريفة ويخلفه الدريدب    بعد الكركرات.. طريق استراتيجي يربط المغرب بالحدود الموريتانية: نحو تعزيز التنمية والتكامل الإقليمي    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    مجلس النواب ينظم المنتدى الثاني لرؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية    عامل الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبًا عامًا جديدًا للعمالة    وزيرة الثقافة الفرنسية: المغرب يمثل مرجعية ثقافية عالمية    إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    مندوبية السجون تعلن عن إحداث دبلوم جامعي في الطب السجني    مسؤول إسباني: المغرب مصدر إلهام للبلدان الإفريقية في جودة البنيات التحتية الطرقية    عمر هلال ل"برلمان.كوم": المغرب لديه الريادة في سياسة السلامة الطرقية    وفاة المطربة آسيا مدني مرسال الفلكلور السوداني    الاستعدادات لمونديال 2030 محور لقاء لقجع ورئيس الاتحاد الإسباني    ناشر مؤلفات بوعلام صنصال: "أخباره ليست ممتازة" بعد ثلاثة أشهر على سجنه    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أبطال أوروبا .. البايرن وبنفيكا وفينورد وكلوب بروج إلى ثمن النهائي والإيطاليون يتعثرون    جهة الشرق.. التساقطات المطرية الأخيرة تعزز الموارد المائية وتنعش النشاط الفلاحي    رشيدة داتي: زيارتي للأقاليم الجنوبية تندرج في إطار الكتاب الجديد للعلاقات بين فرنسا والمغرب    رامز جلال يكشف اسم برنامجه الجديد خلال شهر رمضان    النفط يصعد وسط مخاوف تعطل الإمدادات الأمريكية والروسية    احتجاجات في الرباط تندد بزيارة وزيرة إسرائيلية للمغرب    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    دوري أبطال أوروبا.. بنفيكا يعبر إلى ثمن النهائي على حساب موناكو    ترامب يعلن عن إقالة مدعين عامين    بحضور وزير الثقافة.. توقيع شراكة استراتيجية بين سلمى بناني وسفير فرنسا لتطوير البريكين    منتدى يستنكر تطرف حزب "فوكس"    بعد تأجيلها.. تحديد موعد جديد للقمة العربية الطارئة    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    السعرات الحرارية الصباحية تكافح اكتئاب مرضى القلب    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عزيز الحدادي ما أحلى الاغتراب في مدنكم

«غريب أنت في معناك. يكفي أن تكون هناك، وحدك، كي تصير قبيلة...»
محمود درويش
أنا البستاني الذي يتعهد شجرة المعرفة بالرعاية، بيد أنها لا تنمو في بلد الاغتراب ولعل أقصى مراتب الاغتراب هي تلك التي يشعر بها الإنسان في وطنه، عندما يبحث عن الأحباء فلا يجد سوى ذاته المغتربة، لأن العودة إلى الوطن حسب هوميروس في الإلياذة هي عودة إلى ينبوع المحبة. بيد أن هذه الأمة افتقدت إلى ملكة الحب، ونال منها الحس المشترك، وأضحت تقضي أيامها بثياب النوم، تنتظر انتقالها إلى السماء لا من أجل اكتشاف كواكبها، بل من أجل الخلود هناك.
يتوجه الفيلسوف بانتقاداته الساخرة إلى أولئك الذين يبحثون عن السلطة بأرواح قديمة حولوها إلى أصنام، وينصحهم بالذهاب إلى طريق الحس المشترك والثقة فيه، فهو طريق يلجأ إليه كل من أراد أن يعيش مع عصره قانعا بما فيه من ثقافة وسياسة دون أن يحاول فهمهما أو تفسيرهما، إذ ليس عليهم أكثر من قراءة ما يوجه إلى الأعمال الفكرية من انتقادات: «ويكفيهم فضلا عن ذلك أن يقرؤوا المقدمات التي تكتب، عادة، لهذه الأعمال، فهي تقدم المبادئ العامة التي تنطوي على أهمية بالغة» وهذا هو الطريق الصحيح في رأي الحس المشترك، أو النوابت بلغة الفارابي.
من البديهي أن شجرة المعرفة لا تنمو إلا في تربة العلم والفلسفة، وبخاصة إذا كان الحكيم هو البستاني الذي يعتني بهذه الشجرة ويرعاها، لأنها مأوى ومسكن ماهية الإنسان، منها يتعلم الحكمة والفضيلة، ويسعى إلى تشييد مدينة السعادة، حين يقوم بهدم مدينة الشقاء.
ها هنا تصبح مهمته طموحة ومعقدة، لأنه يحث عن الحقيقة في أرض تنتشر فيها الخرافة وسكانها يحبون الأوهام، والآراء المزيفة، ولذلك فإنه يضطر للدفاع عن محبة الحكمة بألفاظ هجائية قاسية ومتكبرة، لأنها السبيل لتحصين علم الفضيلة من الأشرار، مادام أن اللغة هي مأوى الوجود، والإنسان الحكيم هو حارس هذا المأوى. ومن المفروض أن يتوجه إلى تجار الحقيقة بنفس الأسلحة التي يستعملونها في صيدهم لنفوس الأبرياء؛ التخدير ثم القنص. فكيف يمكن اعتبار الهدم لحظة أساسية في كل بناء جديد؟ وما هي هذه الثقافة التي يدافع عنها الحكيم؟، وهل بإمكانها أن تنقل الإنسان من الشقاء إلى نعمة السعادة؟.
الواقع أن محبة الحكمة هي علم تجربة الوعي، تحمل مغزى تربويا، يتجلى في عرض المراحل التي مر بها الوعي الإنساني، وانطلاقا من هذا التصور تأخذ الثقافة معناها، حيث تتحول إلى عملية زرع وإنتاج، لأنها تعني في اللغات اللاتينية: «تعهد النبات وحرثه ورعايته حتى يثمر ومنها جاءت كلمة الزراعة». وهذا المعنى نفسه نجده في اللغة العربية: «لأن الأصل «ثقف» يحمل معنى التهذيب والصقل والإعداد. وهنا تكون الثقافة عملية رعاية وإعداد مستمر للعقل والروح البشرية»، لكن ما الذي يتم إعداده عندنا؟، هل هناك ثقافة من دون قراءة كتب وتربية على الأسئلة الفكرية؟، وكيف يمكن لأمة تقرأ ألف نسخة من المحيط إلى الخليج أن تنتج ثمارا ناضجة؟.
لقد ظلّ السؤال المهيمن على علاقة الأدب والفلسفة خاضعاً طويلاً لإشكال التجنيس. أين الحدود الفاصلة بين الكتابة الفلسفية والكتابة الأدبية؟ وأين يمكن أن نصنّف أعمالا من قبيل «هكذا تكلّم زارادشت» أو «سيدهارتا»؟ إنّ السؤال الكلاسيكي السابق ينحل من ذاته حين نعترف بأنّ الفلسفة قبل أن تكون ممارسة حجاجية أو تواصلية أو مفهومية هي ممارسة أسلوبية. الفلاسفة الكبار هم بالضرورة أسلوبيون كبار. هكذا تصير دراسة فيلسوف مّا قاصرة ما لم تُحِط بممارسته الأسلوبية، تلك الممارسة التي رأى عبرها دريدا في طيف بيان ماركس الشيوعي تناسخاً مع طيف هاملت شكسبير.
من المؤكد أنّ ثمّة حاجة داخلية في الكتابة الفلسفية لما يمكن أن نسميه الشاهد الاختباري، الذي تصير الأفكار دونه عارية، فليست أمثولة جياجياس (الكتاب الثاني من الجمهورية) لأفلاطون أو نادل سارتر (الوجود والعدم)، مجرد ملحقات عرضية بالكتابة، وكأنّما كان بالإمكان الاستعاضة عنها بشرح مسهب للفكرة التي تمثلها. إنّها ما يمنح الفكرة دلالة فعلية؛ وكأنّما هي شواهد اختبارية على إمكانية وواقعية الفكرة. بيد أنّه حين يتعلّق الأمر بالأدب، فإنّنا نكون أمام معضلة الحقيقة التخييلية للكتابة، فالكتابة الأدبية عمل تخييلي بالأساس، من هنا يصعب إيرادها بوصفها شاهداً اختبارياً على إمكان الفكرة ما لم ننظر إلى الأدب من زاوية مختلفة، ونمنحه وجوداً حقيقيا بوصفه يحمل الخبرة والشهادة البشرية العميقة.
ندين لجيل دولوز وفليكس غواتاري كثيراً فيما يخص هذا النوع من الاستعمال للأدب. لقد أنشأ الفيلسوفان (دولوز بدرجة أكبر) علاقة خاصة مع كلّ ما يمكن أن يشكل خطاباً مغايراً للفلسفة (السينما/ الفن التشكيلي/ الأدب...)، غير أنّ علاقتهما بالأدب ظلت علاقة مميّزة. يمكن أن نفصل بين نموذجين من الاشتغال على الأدب عند دلوز وغواتاري: ثمّة الاشتغال الذي نعثر عليه خاصة في العملين «بروست والإشارات» (الذي كتبه دلوز بمفرده) و»كافكا في سبيل أدب للأقليات». ونعثر على النموذج الثاني (وهو الذي يهمّنا بشكل مباشر) مبثوثاً في عدّة أعمال من قبيل «ضدّ أوديب» و»النجود الألف» و»منطق المعنى».
في النموذج الأول ثمّة اشتغال مباشر على متن أدبي. محاولة لرسم خارطة طريق لفهم المتن فهماً مغيراً. فالاشتغال في هذه الحال لا يخص عملاً أدبياً بعينه وإنّما متناً كلياً، يسعى الفيلسوف إلى إعادة قراءته ورسم مسارب بالإمكان سلوكها لإعادة فهم طريق الذاكرة (كما الحال عند بروست) أو لاقتحام قلعة المتن (كما عند كافكا). لم يخرج دولوز في اشتغاله على بروست وكافكا عن التصور الذي اتخذه لنفسه عن الاشتغال على تاريخ الفلسفة حيث يكون المطلوب دوماً رسم بورتريه للفيلسوف، مع ما يستلزمه البورتريه من إقصاء للمطابق وإقحام للشبيه. مع بروست يصير جوهر عمل الذاكرة موجهاً نحو المستقبل لا الماضي (مهما كان إغراء حلاوة مادلين الطفولة)، ومع كافكا تصير الكتابة نوعاً من الصيرورة التي لا يمكن أن تتم إلى داخل وضع أقلية... على أنّ الأهم في التجربتين السابقتين هو الباب المفتوح ما بين فلسفة دولوز نفسه والفهم الذي يقدّمه لهذين المفكرين، بحيث تصير تلك النماذج الأدبية حقول اختبار لمفاهيم دولوز بقدر ما تصير مورداً لمواد اشتغاله. يمكن أن نمثّل بمفهوم «آلة الأدب» الذي ظهر في كتاب «بروست والإشارات» (1970) وتردّد صداه في كتابات لاحقة «كافكا، في سبيل أدب للأقليات (1975) و»ضد أوديب» (1972). مثلما يمكن أن نمثل عكسياً بالمفهوم الثلاثي «التوطن/ التحرر من الموطن/ إعادة التوطن» الذي وُضع في كتاب ضد أوديب، قبل أن يصير لاحقاً وسيلة لفهم متن كافكا.
في النموذج الثاني لا يكون الغرض فهم المتن الأدبي بقدر ما يتعلّق الأمر بالركض حلف الشواهد الاختبارية للفكرة، تلك النماذج الأدبية التي يمكن أن تمنح الفكرة قدراً مّا من الوضوح والواقعية. لنا مثل في جولة الفصامي عند بكيت التي توضح جانباً مهماً من تصور الفصام عند دلوز وغواتاري، والكابتن أخاب وحوته موبيديك اللذين يمنحان نموذجاً عينياً لعملية «التوطن - التحرر من الوطن- إعادة التوطن»، وحالات الصيوروة عند أليس «لويس كارول» التي تكبر إذ تصغر وتصغر إذ تكبر، وتمنح معنى للصيرورات المزدوجة في كتاب «منطق المعنى».
يتطلّب هذا النوع من الاشتغال كما أسلفنا تصوراً مبدئياً للأدب وللإبداع لا يقيم قطيعة ما بين التخييلي والواقعي، وإنّما يقحم ما بينهما قيماً وسطى (وهو الرهان الأساس لكتاب منطق المعنى) تجعل العبور سلساً ما بين السجلين، وتمنح الأدب نفس درجة الصدق والكذب التي يمكن أن يتصف بها الواقع.
سيدفع نيكولا غريمالدي بهذا الشكل من التفكير إلى حدوده القصوى، فالفيلسوف الفرنسي المعاصر الذي أخذ على عاتقه مهمة سبر الأهواء البشرية (الحب/ الغيرة/ الوحدة/ اللّعب/ الانتظار...) لا يستقي شواهده الاختبارية من الواقع المباشر أو التجربة اليومية، وإنّما من السجلات الأدبية الكبرى بوصفها تختزل التجربة البشرية الأعمق. في كتبه «تناسخات الحب»، و»بروست، فضاعات الحب»، و»بحث في الغيرة، عن جحيم بروست»... لا يتمّ الالتفات للشخصيات الأدبية باعتبارها مجرد نماذج تخيلية وإنّما كذوات تتمتّع بوجود تاريخي فعلي. ذاك هو الشكل الذي يتعامل به مثلاً مع أنطونيو دوريغو والفتاة التي كانت تمتهن الدعارة وتعرّف عليها في أحد زقاقات ميلانو، في رواية دينو بوزاتي الشهيرة «عشق».
لا يقصي هذا الاشتغال عن الأدب أدبيته، بيد أنّه يمنحه مرتبة واقعية شديدة العمق، باعتباره الحقل الاختباري الوحيد الممكن، لأنّه لا يمثل حالة واقعية وإنّما جماع الخبرات البشرية التي تراكمت لتتجسّد في نماذج أدبية وحدها تستطيع أن تمنحنا دلالة واقعية وتترك أثراً من وجودنا العرضي في هذا العالم.
على أن هذه العلاقة الضمنية بين الأدب و الفلسفة قد ترتقي أحيانا لتصير أوضح و أبرز، إذ أننا نجد تراثا كاملا هو في نفس الآن أدب و فلسفة، و يحار المرء في تصنيفه فعلا لأنه يقع في التخوم بينهما، فينسبه إلى «تاريخ الأفكار»، و لعل أشهر ممثلي هذا الضرب في الكتابة في تاريخ الفلسفة هو مونتيني د، لكن أهم من ظهر بهذا المنهج في تصوري هم بعض المفكرين المسلمين من مثل الجاحظ و التوحيدي، فالمفكرون المسلمون أبدعوا في هذا الضرب إبداعا كبيرا، و لعل العلة في هذا تعود إلى الارتباط الخاص و الوثيق جدا الموجود بين اللغة العربية و الأدب و الشعر منه تحديدا، حتى أنه يمكن أن نجازف فنقول إنه لا وجود للغة ارتبط فيها الفكر باللغة مثلما حصل في الثقافة العربية ، فالبيان في العربية برهان، و هذا ما دفع بعض القدماء إلى رفض المنطق الأرسطي بدعوى أن للعربية «منطقها» الخاص الذي ليس إلا نحوها و قواعد لغتها، و هذا ما يستشف من المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس المنطقي و أبو سعيد السيرافي النحوي .
بالطبع هناك تيار فلسفي آخر لا يرتضي هذا التحديد و هذا الربط الجوهري بين الفلسفة و الأدب، فيعتبر بأن الهم الفلسفي مختلف في بالقطع عن الهم الأدبي، لإن بينهما تعارضا مطلقا، و نحن نجد معالم هذا الموقف في نصوص المذهب الوضعي الذي يعبر عن نفسه اليوم في مباحث «تاريخ العلوم» أو «فلسفة العلوم»، و في بعض العلوم الإنسانية التي تتخذ من العلوم الطبيعية نموذجا للموضوعية، بل إن بعضا من هذه العلوم ترفض أن تعتبر نفسها فكرا حتى، و هذا ما نجده عند بعض الباحثين في الأدبيات النفسية و السوسيولوجية الذين يعتبرون أنفسهم «علماء»، و لهذا فهم لا يعيرون للأدب أية قيمة «موضوعية»، غير أن موقفا مثل هذا هو موقف ساذج و مدخول، و يقع ضحية جملة من الأوهام و الاستيهامات، فقد بيّنت التجربة المعرفية أن العلوم الاجتماعية و من نحا منحاها من الفلسفات لن تكتسب شيئا من هذا «التطرف العلموي» لسبب بسيط و هو أن الإنسان الذي تتعلق بدراسته هذه ليس «شيئا» مقيسا، و لا يمكن أن يكون كذلك، و التمزق الإبستيمولوجي الذي تعيشه هذه العلوم بين طموحها في أن تصير علوما «حقة» و واقعها الذي يفرض عليها ألا تكون كذلك لا يرتفع بتطرفها في ادعاء العلمية و في معاداة الأدب، لهذا فالأصل قي هذا الموقف هو كون هذه الأنماط من المعرفة تحيا عقدة «هوية»، و هذه العقدة تجعلها تنظر إلى العلوم الدقيقة بوصفها « أنا أعلى» يأنّبها، فتعوض عن عدم قدرتها أن تكون مضارعة له بأن تبالغ في «معاداة» الأدب الذي يصير من منظورها نقيض المعرفة الدقيقة. و الحال أن هذا التقسيم و هذه الرؤية المانوية خاطئة تماما، و الدليل نجده في تاريخ العلم و الفلسفة نفسهما، فواحد من أهم إبستيمولوجيي القرن العشرين و هو باشلار له تأليفات في الأدب و الشعر و اللغة، لا تقل قيمة عن تأليفاته في تاريخ الفيزياء، و واحد من أهم مناطقة القرن العشرين و هو فيتجنشتاين، كان يقرأ الشعر حتى في الملتقيات العلمية الكبرى، و يقرضه و يبرع فيه.
اعتبار الأدب مسألة كمالية أو مسألة شكلية هو إذن خطأ شنيع، فرأي مثل هذا هو ضحية روح العصر التي هي روح «علموية» و لهذا فهو رأي ساذج و «لا يفكر» ، لأنه يبقى في حدود أفق إيديولوجيا عصره، فالعلم هو إيديولوجيا و نموذج الفكر اليوم، كما كانت الثيولوجيا بالأمس إيديولوجيا و نموذج عصرها، و المفكر الحق هو الذي يحاول أن يتعالى عن هذه الإيديولوجيات الطارئة ليمارس الفكر في صورته الخالصة المحض، بعيدا عن كل نموذج قبلي، إذ أن ما تعلمنا إياه الفلسفة هو أن لا وجود لنموذج نهائي نحتكم إليه.
إن استراتيجية الأدب تتشابك باستراتيجية الفلسفة "لتصبحا كتابة تستهدف مراوغة اللغة وتقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها" (ص.10).
ينتقل بنعبد العالي بعبد الفتاح كيليطو إلى أرض الفلسفة، مستعيناً بزاوية نظرية لغوية ومفاهيمية تجريدية تعود أساساً إلى أشهر فلاسفة الغرب: بارت، نيتشه، بلانشو، فوكو، ديريدا... فيجعلنا نراجع نظرتنا إلى كيليطو المعروف بدراساته للتراث الأدبي العربي، مع أنه لا يهتم كثيراً بالفلسفة وتاريخها، ولا يوظف مفاهيمها، بل إنه لا يشغل نفسه بالمفاهيم المغرقة في التجريد. وعلى رغم ذلك يبرز بنعبد العالي العمق الفلسفي لكتابات كيليطو. فبخصوص كتاب »الغائب، دراسة في مقامة للحريري« (توبقال 1987) يتساءل المؤلف (بنعبد العالي) من هو (ما هو) الغائب في هذه الدراسة؟ وهو واع بأن العالم الذي يقدمه لنا هذا الكتاب يتنافى وهذا النوع من الأسئلة التي تحيلنا إلى عالم »السيمولاكر كما عرفه »فوكو« في مختلف استعمالاته : "السيمولاكر هو الصورة التافهة في مقابل الحقيقة الفعلية، ثم إنه يعني تمثيل شيء ما "من حيث أن هذا الشيء يفوض أمره لآخر، من حيث إنه يتجلى ويتوارى في آن". ثم إنه يعني الكذب الذي يجعلنا نأخذ علامة بدل أخرى. وهو يعني أخيراً، القدوم والظهور المتواقت للذات والآخر".
يخلص بنعبد العالي إلى أن كيليطو يقصد ب»الغائب« في المقامة، التي تبدأ بذكر الليل، هو الشمس. وعلى رغم ذلك فهي حاضرة حضوراً سيمولاكرياً في القمر، نظيرها الذي أعارته ضياءها. كما أن عالم السيمولاكر هو المرايا، فحكاية الحارث مرآة لحكاية زيد. والغائب أيضاً، وأساساً، هو الريادة في المقامة كجنس أدبي، انه الرائد الأول، أبو المقامة، الهمذاني، الذي لا مفر كل »متصد بعده لإنشاء مقامة من أن يغترف من فضالته«. وعلى رغم ذلك فالهمذاني حاضر في صورته، حاضر في الحريري، الذي يحضر هو الآخر في المقامة من طرق بدائله. صحيح أنه هو مؤلفها، إلا انه المؤلف الغائب. ولذلك يؤكد بنعبد العالي، بحروف بارزة، »كثيرون هم الغائبون في كتاب »الغائب«. بيد ان كل الغائبين حاضرون« (ص32). وهنا لابد أن نشير إلى أن بنعبد العالي، في دراسته لكتاب »الغائب«، أهمل معلومة أساسية مفادها ان المقامة الني درسها كيليطو هي المقامة الخامسة، التي تبدأ بذكر الليل وتنتهي بذكر النهار. والأحداث المروية فيها تستغرق فترة زمنية تشمل الليل كله وتمتد إلى ما بعد طلوع الشمس، أي »البداية تحت علامة قمر شاحب، والنهاية تحت علامة شمس ساطعة« (من مقدمة »الغائب). وهي معلومات ضرورية للقارئ الذي لم يقرأ المقامة الخامسة.
وفي كتاب "أبو العلاء المعري أو متاهات القول" (توبقال 2000) نهج كيليطو قراءة حاولت إظهار الشاعر في "تناقضاته وصراعه بين الإفصاح والإضمار، والانكشاف والإخفاء« (ص35). وهذا هو المدخل الأدبي لفهم الكتابة عند المعري التي تهدف إلى القول بقدر ما ترمي إلى صد القول، فهي» صراع عنيف،عنيد مع ما لا يجوز "كتابته، وما لا ينبغي قوله«. وهذا هو السر الذي يرفض المعري إفشاءه:
«ولدي سر ليس يمكن ذكره
يخفى على البصراء وهو نهار».
وهنا يقول كيليطو : "ومعلوم أن مجرد الإيحاء بخطاب غائب هو دعوة لاستضماره، للتنقيب عنه والكشف عن حروفه الظاهرة" (الغائب، ص.40).
ومن المفاهيم التي تضمر أختها النقيض نجد الأنا التي تضمر الآخر، وتعتبره "سراً" ينبغي إفشاؤه. وهنا نقف عند كتاب »لن تتكلم لغتي« الذي يجيب بالأساس عن سؤال » كيف يتصرف العرب مع أدبهم؟ كيف ينظرون إليه؟ ص. 17).)
ويؤول بنعبد العالي هذا السؤال إلى آخر: كيف نظرت الثقافة العربية وكيف تنظر إلى نفسها؟ يجيب كيليطو بالدعوة إلى التمييز بين زمانين ثقافيين، أو بين ذاكرتين أدبيتين: »فإذا كان الأدب الكلاسيكي يحيلني تلقائياً الى الهجرة وفضائها، فإن الأدب الحديث يحيلني عفوياً إلى أوروبا كتقويم وإطار« ( لن تتكلم لغتي، ص12 - 13). وهذه الذاكرة المزدوجة في إدراك الذات تدل على أن هناك "فترة لم يعن للعرب فيها لحظة أن ينظروا من الخارج عبر أدب آخر". وهناك فترة أخرى أصبح فيها العرب "في حاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم، والى مرآة أخرى كي يروا أنفسهم".
وأثناء الخوض في هذه القضية الحساسة تحضر مسألة الترجمة بقوة. فالعرب عرفوا حركة واسعة للترجمة، غير أنهم، بحسب كيليطو، كانوا ينظرون إلى الترجمة كعملية تتم في جانب واحد، أي من لغات أخرى (الفارسية، اليونانية، السريانية) إلى العربية، وليس من العربية الى لغات أخرى. وبذلك لم يكونوا يرون أن شعرهم يجوز عليه الترجمة (أو النقل) وهذا ما يؤكده الجاحظ بقوله "لأن الشعر متى حوّل، تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب فيه". وبذلك فالعرب كانوا يتصورون أن الترجمة الوحيدة هي الشرح والتعليق والحاشية. أي ترجمة داخل اللغة نفسها. والنتيجة أن العرب القدماء ضربوا الحصار على ثقافتهم، فلم يكتفوا بذلك، بل إنهم حرصوا، عن غير عمد، على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل، فطوروا أساليب تستعصي على النقل. ونتيجة
لذلك اقتنع العرب بأن الأدب العربي مكتف بذاته ولا يهم في مجمله إلا العرب" (ص.20). و لم ينفجر هذا الاكتفاء إلا ابتداء من القرن التاسع عشر، فتغير الزمان الثقافي، وأصبح العرب" في حاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم". فظهر "الشدياق" كنقيض للجاحظ. و هذه هي اللحظة المفصلية التي بدأت فيها الثقافة العربية، والزمان العربي عموما، في التفكير في مغادرة الذات، وبدأت تنظر إلى ماضيها ليس كفترة ذهبية، بل كزمان كلاسيكي.
في هذا الملف، يعود "الملحق الثقافي" إلى تشخيص جديد راهني لهذه العلاقة، وذلك من خلال شهادات وآراء جيل جديد من الكتّاب والمشتغلين في حقل الفلسفة الحديثة. ومن خلال هذه الشهادات والآراء نقف على تصورات جديدة جديرة بالتأمل، على أنْ نبقي على هذا الملف مفتوحا في وجه لأصدقاء الكتّاب والمبدعين من أجل تقديم شهاداتهم.
انظر الملحق الثقافي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.