مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل النقد إبداع نقد المبدعين:أي منهج
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 17 - 05 - 2013


1
في ندوة»المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية»(1) التي نظمتها»جمعية البحث في الآداب والعلوم الإنسانية»أواسط الثمانينات من القرن الماضي،استمع الحضور إلى عرض ألقاه الباحث عبد الفتاح كيليطو تحت عنوان»مسألة القراءة»،وقد تعرض فيه بالتحليل لحكاية الصياد والعفريت من كتاب ألف ليلة وليلة،قراءة سينشرها لاحقا في كتاب «الحكاية والتأويل».
لم تكن منهجية كيليطو في التحليل والقراءة معهودة أو مألوفة في الحقل الثقافي آنئذ.كان الحضور يتشكل من أسماء وازنة من أمثال عبد لله العروي،ومحمد عابد الجابري،وعبد القادرالفاسي الفهري،ومحمد جسوس،ومحمد عزيز الحبابي،وعبد السلام بنعبد العالي...إلخ.ماذا كان رد فعل الراحل الحبابي تجاه تحليل كيليطو؟.قال في سياق مناقشة العرض:»أول الأستاذ كيليطو النص فأضاف إليه أبعادا أثرته.إلا أن التأويلات التي قدم لنا تأويلات شخصية،خاصة.إذن، لكل واحد منا الحق في أن يتعامل مع أي نص تعاملا مستوحى من ذاتيته،وكأنه يفترض،مسبقا، أن الموضوعية غير موجودة،أو على الأقل غير مكتملة.ذاك استنتاج أول.
بعد سنوات،سيعطينا الأستاذ كيليطو قراءة جديدة بتحليلات أخرى من نوع آخر،ربما تختلف عن تحليلات اليوم،لأن كيليطو الغد سيكون غير كيليطونا الحالي،بفضل ما سيتوفر له من إنماء في معلوماته ومن إتقان لمناهج جديدة.فأين هي»حقيقة»النص؟أنعتمد تأويلات اليوم،أم ننتظر؟ومتى يمكننا أن ندعي أننا وصلنا إلى إبراز إمكانات النص الحقيقية؟»(ص:37).
في رد فعل الحبابي نلاحظ استعماله للتعبيرات التالية:
التأويلات الشخصية
ذاتية المؤلف
الموضوعية
حقيقة النص
ويمكن القول اليوم، إن رد فعله ذاك كان طبيعيا في وقته، ينسجم مع المناخ الثقافي والأدبي السائد في تلك المرحلة،والذي كان يرفع شعار المنهج في وجه كل من تتسنى له قراءة نص أدبي ما،قديما كان أو حديثا.المنهج باعتباره أداة حتمية لكشف حقيقة أي نص.غير أن السؤال الذي لم يكن يطرحه أحد،هو: عن أي حقيقة يتحدث أمثال محمد عزيز الحبابي؟أصحيح ان لكل نص أدبي حقيقة تكمن فيه،وأن دور المنهج هو الكشف عن تلك الحقيقة؟
2
سيقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر،هو: ما الهدف من الأخذ بأي منهج في أي قراءة أو تحليل لنص أدبي ما: خدمة الأدب؟..خدمة النقد الأدبي؟..إبراز قوة أو جاذبية الجنس الأدبي الذي يتحقق فيه ذلك النص؛أم ببساطة،إبراز تميز وتفوق ذلك المنهج على غيره من المناهج النقدية؟
بالنسبة لأدبيات الجامعة المغربية التي واكبت ظهور المناهج وتبلورها في الخطابات الأكاديمية،الهدف الأول من تطبيق منهج معين هو إنتاج خطاب علمي،وبلوغ مرتبة الموضوعية في مقاربة النص الأدبي.فداخل منطق المؤسسة،لا يمكن تصور قيمة أسمى من قيمة الموضوعية،والعلاقة بالمنهج هي محك كل اختبار. لطالما قرأنا أو سمعنا أن الهدف من لجوء ناقد ما إلى العلم هو تطوير النقد الأدبي انطلاقا من ذلك العلم،أو تلك العلوم. وهذا يقودنا إلى التساؤل: ماذا عن سؤال تطوير الأدب؟ هل يتحول الأدب في هذا السياق إلى مجرد ذريعة لانتصار المنهج؟أي علم هذا الذي سنبخس قيمة الأدب من أجله حتى يغدو مجرد وسيلة للبرهنة على نجاعة منهج ما؟!!..
مفردة علم،هنا،مثل مفردة منهج.ومثلهما مثل مفردة الحقيقة؛ماهيات «ميتافيزيقية» و مفاهيم مجردة يسحرنا بريقها،تصلح أن نشيد بوساطتها أنساقا ذهنية مجردة؛لكن: هل تقول لنا شيئا جوهريا عن سر الأدب؟ عن مصدر سحره وجاذبيته؟عن لغز استعصائه على الانكشاف!!
3
نعود مرة أخرى إلى المرحوم محمد عزيز الحبابي.قد يكون المحرك الأهم ل»نقد نقده الفطري» لخطاب عبد الفتاح كيليطو هو عنصر الغياب المسجل على مبدأ الموضوعية بما هي مكسب علموي وضعي(من رواسب النزعة الإنسية للقرنين 18و19) لا يجوز التفريط فيه تحت أي ذريعة في خطاب نقدي يفترض فيه التعاقد مع منهج «علمي»معلوم.أما تعارض قراءتين للناقد الواحد في فترتين زمنيتين متباعدتين أو متقاربتين لنفس النص فهو أمر غير مفهوم.ألا يعتبر أمر من هذا القبيل تحت مجهر التقليد الوضعي غير مقبول؟
سبق لعبد الله العروي أن أجمل شخصانية لحبابي في قوله: « إن أولى مسلماته ( الإنسان،أي إنسان،شخصية) تفرض أن لا يحد الإنسان إلا بالحرية،لابصفتها حكما شرعيا،أو منة أو كشفا،بل بصفتها قوة كامنة في الفرد ملازمة له.الحرية،في العمق،انعتاق مستمر،له بداية وليس له نهاية».(2)وقد يحق لنا،هنا أن نسأل: أي تجل لمفهوم الحرية في رد فعل الحبابي تجاه كيليطو؟ هل لاعتراضه علاقة بما نادى به على طريقته الشخصانية الإسلامية؟..ومع أنه لا يليق بنا أن نظلم الحبابي خارج سياقه التاريخي وداخل منطق تفكيره الذي تعكسه منظومته الفكرية، فإن حرص هذا الفيلسوف في مشروعه الفكري على بناء نسق فلسفي محكم لا يبعث في زمننا المختلف غير الحيطة والحذر. ألم يعد التفكير اليوم (في زمن ما بعد الحداثة) في كل من يصدرعن نسق شمولي يتجه نحو السخرية ؟ ألا تتم السخرية اليوم من كل من يدعي امتلاك الحقيقة أو نسق شمولي يجيب على كل سؤال؟؟
ينفي الحبابي عن الناقد حقه في المراجعة الذاتية، أو النقد الذاتي،وهذا المنطق الما قبل نيتشوي يقولب مفهوم المنهج ويسقطه على مفهوم النسق أو العكس!من هنا توهمه امتلاك الأجوبة عن كل سؤال. إن المنهج في هذه الحالة مجرد وسيلة بيد الناقد ينفذ من خلالها إلى حقيقة النص!..عدا هذا؛أي خطاب يدعي النقد سيكون الحكم عليه بأنه مجرد شطحات ذاتية لا قيمة معرفية لها ما دام كل خروج عن سكة الموضوعية في النقد الأدبي يكون مآله السقوط في قعر اللامنهج..( بئس المصير!!)
ما الهدف،إذن، عند أمثال الحبابي من كل قراءة ؟ الكشف عن حقيقة النص،بمعنى ماهيته أو جوهره،وهو في كل الأحوال جوهر واحد لا مجال فيه لتعدد حقائق النصواحتمالاته الدلالية والجمالية.أما الغائب الأكبر من فكر هذا التموقع القرائي،فهوأفق تعدد القراءات،بما هي استراتيجية منزاحة عن كل تموقع أحادي يصنم النص في نسق حقيقة واحدة ذات جوهر ثابت وماهية محجوبة يكفي إعمال «المنهج» للكشف عنها.
لن نتعسف ( أكثر) ونطالب الحبابي اليوم أن يردد معنا شعار تعدد القراءات،أوتعددية حقائق النص،ونسبية كل قراءة،أوانعدام منهج يلقي القبض على حقيقة النص الأدبي. غير أن المحير في الأمر أن يكون عدد الذين ما يزال يتردد في كلامهم،اليوم، صدى رد فعل الحبابي = (تعارض
الذاتية في التأويل مع الحقيقة الموضوعية للنص الأدبي) كثير.فلهؤلاء يتعين القول:ثمة شيء غاب بقوة الأشياء عن جيل الحبابي، ويوجد اليوم من يمانع في وجوده؛ألا وهو مبدأ الحق في الذاتية. وهذا التوجه النقدي الجديد بدأ وولد ويتبلور،بالفعل، مع الكاتب عبد الفتاح كيليطو الذي جاءت كتاباته النقدية لتنجز وعيا بشكل معين من القطيعة المعرفية والمنهجية مع الفهم السابق للممارسة النقدية في المغرب والعالم العربي.الفهم أو الوعي الذي جعل من»فزاعة/شعار»المنهج محور العملية النقدية،بحيث اعتبر الدوران في فلك المنهج، وإسقاط مبدأ النسقية على المنهج، من صميم الوفاء لتراث علموية ووضعية القرنين الثامن و التاسع عشر الأوربيين.
إننا نستعمل مفهوم «الوعي بالقطيعة» في سياق لفت النظر إلى الإبدال الجديد الذي ما فتئ يتحقق مع التراكم النقدي لعبد الفتاح كيليطو،حيث ستشهد الظاهرة النقدية معه انتقالا وإعادة ترتيب في العلاقة بين اللغة الواصفة واللغة الموصوفة: من موقع التباعد والاختلاف الأجناسي(ضفتان تفصل بينهما هوة أجناسية واسعة:الأدب أدب،والنقد نقد!!..) إلى موقع جديد نطلق عليه:أرض الكتابة.
سيعمد كيليطو إلى ردم الهوة بين «ضفة الأدب الخالص» و»ضفة النقد الخالص»!في رحلة معرفية تصل إلى أرض الكتابة،أوالكتابة على الكتابة. هنا،ستضع الكتابة النقدية لعبد الفتاح كيليطو الممارسات النقدية السائدة المتلفعة بالصرامة العلمية،وشعار الموضوعية في مأزق.أولا،لأنها ليست كتابة انطباعية فارغة من المعرفة،وثانيا،لأنها ستنقل الكتابة النقدية من الدرجة الثانية ( النقد إبداع من الدرجة الثانية) إلى المرتبة الأولى:النقد باعتباره كتابة،النقد بما هو إبداع لا يقل في إبداعيته عن إبداع اللغة الموصوفة.
مع كتابات عبد الفتاح كيليطو، ستعود إلى الواجهة قضايا ظلت مهملة،أو مسكوتا عنها،نذكر من بينها:
عودة المقروئية.
لذة القراءة / القراءة العاشقة.
الحق في الذاتية
النقد كإبداع / سلطة الكتابة...
ستتوارى إلى الخلف دون أن تغيب تماما السلط المرجعية المشتغلة بفعالية ومرونة وصمت ليتقدم الخطاب النقدي بوصفه جسدا يغري بأدبيته هو،وجمالياته هو،وهذا ما اصطلحنا على تسميته في دراسة سابقة،ب»محكي القراءة».(3)
4
منذ البداية استعملنا في توصيف خطاب كيليطو عبارة كتابة وليس النقد.وهنا،ننتقل إلى الشق الثاني في هذه الأرضية المسائلة،المتعلق بنقد المبدعين في المغرب؛حيث نجد مجموعة من الأسماء التي تزاوج بين الكتابة الإبداعية والنقد أو الدراسة الأكاديمية،نذكر منها على سبيل المثال محمد برادة،عبد القادر الشاوي،أحمد المديني،محمد عز الدين التازي... ،عبد الفتاح كيليطو،واللائحة طويلة.فهؤلاء المبدعين النقاد لا ينطلقون في نقودهم من فراغ منهجي أو معرفي ما دامت كتاباتهم النقدية غير خالية تماما من خلفية نظرية ترشح بالعديد من المقولات والمفاهيم،إن لم يكن الاستئناس بدرجات متفاوتة بهذا المنهج أو ذاك.على أن إنتاجهم النقدي،يظل من حيث التصنيف عصيا على القبض.وهذا الباحث والناقد رشيد بنحدو برع في توصيف الخطاب الظاهرة عندما قال:» لون من النقد يتم خارج الأنساق المعرفية والتدابير الإجرائية،متأبيا التصنف في خانة محددة،وهو ذاك الذي تزاوله فصيلة من الأدباء الموهوبين الممسوسين الذين ينتجون،بموازاة نصوصهم السردية أو الشعرية أو المسرحية،خطابات نقدية تتناول نصوص أندادهم بالتحشية أوالتحليل.إنه النقد في الدرجة الصفر،متحررا من سلطان المناهج وعبء المقولات وغل المفاهيم.وهو عموما قراءات متوحشة عاشقة لهذه النصوص ومتواطئة مع مؤلفيها.وخاصيته هي تلقائية الأحكام وتقييم الكتابة على أساس من الخبرة الجمالية الذاتية.واستراتيجيته هي ازدواج نقد الآخر(أي نصوص الغير)بنقد الذات(أي النصوص الشخصية)»(4).
لنسجل الأوصاف والنعوت التي يضفيها الأستاذ رشيد بنحدو على هذا نقد المبدعين:
نقد في الدرجة الصفر
قراءة متوحشة عاشقة
قراءة متواطئة
ورغم أنه يعيب عليهم التحرر من سلطة المنهج، و الخروج على الأنساق المعرفية والتدابير الإجرائية،بل يصمهم بالتلقائية في الأحكام،فإنه لم يسفه نقدهم أو يحاصره ضمن خانة»الذاتية» بالمعنى السلبي لكلمة ذاتية. أكثر من ذلك؛فهو عندما قال عن هذا النوع من القراءات إنها عاشقة متوحشة لم يورد صفة العشق على سبيل المدح أو الذم. فالعشق،هنا، مدرج في ارتباطه بالتجربة الباطنية للكتابة،في استضافة تجربة الكتابة المنقودة لتجربة مبدع ناقد ما.العشق هنا ضيافة.استضافة الخبرة الجمالية الذاتية لنظيرتها الخبرة الجمالية الغيرية.تواضع مبدع أمام مبدع آخر واعتراف بتجربته.إنصات متبادل من موقع الانتماء المشترك.
لنترك جانبا المعنى الصحفي المبتذل لمفهوم القراءة العاشقة ونتحدث عن العشق المعرفي،أو العشق باعتباره معرفة في مستوى أعمق من مجرد الشعور العاطفي العادي.ها هنا، نستعيد مجددا تجربة كيليطو التي أسست خطابها المعرفي على قاعدة عشق النصوص التراثية،دون التنازل عن الحق في ذاتية القارئ الذي لا يعني الانزلاق نحو الانطباعية..وكل هذا بعيدا عن وهم المنهج الراكض وراء سراب ميتافيزيقا حقيقة النص!..فهل يمكن القول بهذا المعنى إن كتابة كيليطو خالية من المنهج؟وإذا كان الأمر كذلك؛فماذا عساه يكون المنهج؟
ثمة فهم ستاليني للمنهج قد يرفع شعار العلموية والموضوعية وآفته السقوط في التمرينات المدرسية ( تأملوا معي التطبيقات البئيسة لمربع غريماس في بعض أشكال «النقد السيميائي»!؟!).غير أنه في المقابل،ثمة ممارسة نقدية منهجية لا تتنازل عن الفعل الكتابي؛ممارسة كتابية لا تضع ضمن أولوياتها إرهاب القارئ بالمرجعية الغربية ويكون هدفها الأول والأخير الانتصار لروح الأدب عبر تمرير عشقه ما دام هذا الأدب هو الأصل،وكل ذلك يتم دون نزعة استعراضية،استعلائية تتبرج بالسلطة المرجعية لممارسة القمع على القارئ!
5
سؤال أخير يفرض نفسه في هذا السياق:
ما الذي نريده،على وجه التحديد،من النقد:تشييد صرح نظري أو التحريض على عشق الأدب؟
سؤال آخر:
ما الذي من شأنه أن يطور الممارسة النقدية: علاقة النقد بالعلم أوعلاقة النقد بالأدب؟
قبل عشر سنوات،هنا في هذه الكلية،وفي سياق ندوة»النقد الأدبي بالمغرب:مسارات وتحولات» التي نظمتها رابطة أدباء المغرب بتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس يومي 25/26 يناير 2001، أذكر أن القاعة لم تستسغ ماقلت في هذه النقطة،بالذات.أوردت في معرض حديثي عن»النقد المغربي في أفق مستقبله» ما يلي:»الإبداع هو الأصل،ولذلك فهو المسؤول عن تأهيل النقد لخلق أشكال متنوعة من التذوق والتلقي الجمالي.وقبل أن نتطلع إلى أن يغير النقد نظرة القراء وعلاقتهم بالأدب،على الأدب أن يغير علاقة النقد بالنصوص» (5).لم أشر من قريب أو بعيد إلى المنهج أو العلم أو ما شاكل ذلك،لأنني أردت أن أقول إن ما يطور النقد هو درجة عشق الناقد للأدب،عشقه له وكثرة قراءاته له وليس الالتصاق بالنظريات والمناهج. وهذه ليست دعوة للكسل،أو تمجيد الانطباعية بقدر ما هي دعوة لتصحيح بعض أوهام دعاة العلموية في النقد والأدب.وهنا، يأتي دور النقاد المبدعين،أو المبدعين النقاد.فهؤلاء هم المؤهلون أكثر من غيرهم للقطع مع الفهم الدوغمائي للمنهج.هل هذا يعني أن الناقد المبدع متلق من نوع خاص؟ بكل تأكيد،لأن انخراطه في الكتابة الإبداعية برهان عشقه للأدب،والعشق هو أول خطوة في طريق المعرفة،أي معرفة.ونقول: من لا يعشق الأدب لا يعول على نقده حتى ولو أنزل لنا أجرومية نظرية جديدة للنقد من السماء.العشق أولا،والعشق ثانيا،والعشق ثالثا.أما القائلين بأن النقد إبداع من الدرجة الثانية فقولهم يحيل على تصور تقليدي للنقد!!
6
مع المبدع الناقد،تحضر الخبرة الجمالية والحدوس الذاتية بدل المنهج بالمعنى المدرسي للكلمة. وهذا يعني أن سر قراءة المبدع لمبدع آخر تكمن في مبدأ «الحوار».وبدل استراتيجية المنهج المستعار،تحضر استراتيجية الحوار على قاعدة الخبرة الجمالية.خبرة ذاتية تسائل خبرة غيرية،وهو إبدال جديد دشنه كيليطو لا مجال لوقفه؛بل تيار نقدي جديد قابل للتشكل والنمو والانتشار في المغرب على أقل تقدير يقوم على مبدأ الحوار في العملية النقدية بين أفقين فكريين وجماليين بمرجعية التمرس الجمالي. إبدال يفتح به النقد المغربي موقعا ثالثا بين أقنومي الذاتية والموضوعية يؤدي إلى تكريس قراءة تركيبية تحتل منزلة برزخية بين النقد الانطباعي والنقد العلموي المتعالم (مدعي الموضوعية!!).وبدل الحديث،هنا، عن تلقائية الأحكام،أوالتأبي على التصنيف في خانة محددة،يجدر الحديث عن إبداعية هذا النقد وسعيه إلى تقدير القيمة الجمالية للنص من موقع الخبرة الجمالية الموازية،حيث امتلاك الصنعة.
لا ينبغي،طبعا، أن يفهم من هذا الكلام،تفضيل نقد الكتاب المبدعين على «النقد المنهجي»، فليس هاهنا مقام تبخيس النظرية والوعي النظري بالظاهرة الأدبية أومناهج مقاربتها،ولا المفاضلة بين النقد والكتابة،أوبين التطبيق ( القولبة) والإبداع(اللذة).لكن من المشروع انتزاع مكانة اعتبارية لهذا اللون من الكتابة المضاعفة ضمن أسرة النقد والنقاد،ليس بناء على التجاوز،وإنما انطلاقا من أصالة الفعل الكتابي الذي يردم الهوة المفتعلة بين اللغة الواصفة واللغة الموصوفة، يوسع الشقوق ويملأ البياضات، يضاعف التصدعات و يلاحق المنفلت، ينتصر للآبق و...في كلمة واحدة:يتنفس هواء الكتابة برئة تعدد حقائق النص وليس بحقيقة النص الواحدة..
ليس هذا بديلا نقترحه،ولكنه إثبات واقع قائم. ثمة اليوم بالمغرب نقد ينمو على هامش الطريق السيار للنقد المنهجي قوامه التفاعل بين تجربتين أدبيتين و أفقين جماليين،وهو في كل الأحوال نقد يكرس حوارا نقديا بين قيم فنية وفكرية متنوعة ومختلفة؛إن لم تكن،أحيانا،متعارضة...على أنه وبرسم الاختتام يبقى الأدب هو الأصل.لا يمكن ولا ينبغي أن يكون مجرد ذريعة لخدمة العلم،فهو المنطلق،وهو الأصل، وفي عشقه يكمن صمام الأمان للناقد من أي دوغمائية تهدد من يتمادى في تقديس المنهج.
1 «المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية»،دار توبقال للنشر،سلسلة معالم،ط:أولى،1986.
2 خواطر الصباح (حجرة في العنق:يوميات 1982/1999)،عبد الله العروي،المركز الثقافي العربي،ط:أولى،2005،ص:190
3 بمناسبة صدور كتابه»لسان آدم» عام 1995،حيث جعلت من عنوانها عن قصد عنوانا لكتاب كامل،وفيها أقول «كيليطو لا يكتب نقدا بالمعنى المتعارف عليه؛أي لا ينتج لغة واصفة مفاهيمية/ اصطلاحية ( إجرائية) بهدف انتقاد أو سلب قيمة ما يعالجه من نصوص ومواضيع ومؤلفين وحكايات وإشكاليات قديمة أو جديدة،بل لا يكتب بحوثا أكاديمية ترفع شعار «العلموية الوضعية» بالمعنى المتعارف عليه.وفي المقابل نجده يعمد إلى النسج والتوليف بين عناصر سردية يتداخل فيها الاستشهاد بالتعليق،الشذرة الحكائية بالفكرة اللماحة،الاستدلال المنطقي بالتداعي أو الاستطراد،التشويق بالإلغاز، الاسترجاع بالوصف،التشخيص بالتنظير(...) مما يجعل كتابته تغدو مزيحا من العناصر القابلة للأسلبة والتركيب،عبرها ومن خلالها يتأسس خطاب جديد».
* محكي القراءة،منشورات مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس،ط:أولى 2007،ص:115/116.
4 جمالية التلقي ( من أجل تأويل جديد للنص الأدبي)،تقديم وترجمة:د رشيد بنحدو،مطبعة النجاح الجديدة،ط:أولى،2003،ص:6.
5 محكي القراءة،منشورات مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس،ط:أولى 2007.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.