الفلسفة «تخصص العموميات» كما كان يحبّ ألتوسير أن يقول، والقصد عنده من هذا القول هو أن يبيّن بأنّ الفلسفة هي ذلك النّمط من التفكير الذي يحاول أن يجمع شتات كلّ العلوم و المعارف إلى بعضها ليصوغ «المعنى» العام، فالعلوم دائما جزئية بطبيعتها، بهذا فهي تظل في حاجة إلى نمط من التفكير يخرجها من هذا «العماء» الجزئيّ إلى رحابة النظرة الشمولية، و هذا ما لا تستطيعه إلا الفلسفة. غير أن هذا الأمر يعني أيضا من جهة الفلسفة أنه لا وجود لموضوع قارّ لها، أو أن مركزها يصير منزاحا دائما و متعدد الأقطاب، وقد حاول أحد الفلاسفة المعاصرين أن يحدد هذه الأقطاب في أربعة على الأقل، أولها العلم، والرياضيات تحديدا، ثانيها الأدب، و الشعر منه تخصيصا، و ثالثها السياسة، و السياسة الثورية بشكل أخص، ثم الشرط الإنساني، و الصداقة منه تخصيصا. على هذا الاعتبار وعطفا على موضوع السؤال تصير العلاقة بين الفلسفة و الأدب، كما هي بين الفلسفة والعلم و بين الفلسفة و السياسة؛ علاقة موضوعية، فلا اعتبار، في اعتقادي، لفلسفة لا تستحضر سؤال الفن والأدب ولا تأخذ السؤال الجمالي واللغوي مأخذ الجدّ. ولعلنا لسنا في حاجة أن نعود للمتون الفلسفية لتأكيد هذا الأمر، فالأدب كان حاضرا، بلْ ومباطنا للفلسفة منذ ظهورها مكتوبة مع أفلاطون الذي ارتقى عنده الحكي و السرد ليصير «منهجا» ، فكل نظريات أفلاطون عرضت على شكل «مسرحيات» ومرويات اصطلح عليها بالمحاورات، كذلك الشأن مع أرسطو الذي آل على نفسه مهمة تحديد ماهية الشعر و البلاغة، و استمر الأمر كذلك إلى حدود الزمن حيث نجد أحد أكبر أعلامه ( هايدغر ) يحدد طموح الفلسفة و الفكر في التماهي مع الشعر، و عنده مع شعر هولدرلين و تراكل تحديدا.على امتداد تاريخ الفلسفة إذن كان هناك اهتمام حقيقي بالأدب، بل إن هذا الاهتمام لا نعدمه حتى عند الفلاسفة الذين اشتهروا بمنهجهم العقلاني الخالص مثل ديكارت، فقد يظن المرء بأن ديكارت مثلا، بسبب من كونه عالم رياضيات و بصريات، لم يكن له اهتمام بالأدب، لكن يكفي أن ننظر في «فرنسية» ديكارت و أسلوبه لنتبين خطأ هذا الرأي، فديكارت أكثر الفلاسفة قربا من الأدب، فكتب م--ثل مقال في المنهج أو التأملات تعد «نصوصا» بالمعنى الأدبي، بل هناك من الباحثين من يقرؤها باعتبارها نماذج للأدب الفرنسي. على أن هذه العلاقة الضمنية بين الأدب و الفلسفة قد ترتقي أحيانا لتصير أوضح و أبرز، إذ أننا نجد تراثا كاملا هو في نفس الآن أدب و فلسفة، و يحار المرء في تصنيفه فعلا لأنه يقع في التخوم بينهما، فينسبه إلى «تاريخ الأفكار»، و لعل أشهر ممثلي هذا الضرب في الكتابة في تاريخ الفلسفة هو مونتيني د، لكن أهم من ظهر بهذا المنهج في تصوري هم بعض المفكرين المسلمين من مثل الجاحظ و التوحيدي، فالمفكرون المسلمون أبدعوا في هذا الضرب إبداعا كبيرا، و لعل العلة في هذا تعود إلى الارتباط الخاص و الوثيق جدا الموجود بين اللغة العربية و الأدب و الشعر منه تحديدا، حتى أنه يمكن أن نجازف فنقول إنه لا وجود للغة ارتبط فيها الفكر باللغة مثلما حصل في الثقافة العربية ، فالبيان في العربية برهان، و هذا ما دفع بعض القدماء إلى رفض المنطق الأرسطي بدعوى أن للعربية «منطقها» الخاص الذي ليس إلا نحوها و قواعد لغتها، و هذا ما يستشف من المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس المنطقي و أبو سعيد السيرافي النحوي . بالطبع هناك تيار فلسفي آخر لا يرتضي هذا التحديد و هذا الربط الجوهري بين الفلسفة و الأدب، فيعتبر بأن الهم الفلسفي مختلف في بالقطع عن الهم الأدبي، لإن بينهما تعارضا مطلقا، و نحن نجد معالم هذا الموقف في نصوص المذهب الوضعي الذي يعبر عن نفسه اليوم في مباحث «تاريخ العلوم» أو «فلسفة العلوم»، و في بعض العلوم الإنسانية التي تتخذ من العلوم الطبيعية نموذجا للموضوعية، بل إن بعضا من هذه العلوم ترفض أن تعتبر نفسها فكرا حتى، و هذا ما نجده عند بعض الباحثين في الأدبيات النفسية و السوسيولوجية الذين يعتبرون أنفسهم «علماء»، و لهذا فهم لا يعيرون للأدب أية قيمة «موضوعية»، غير أن موقفا مثل هذا هو موقف ساذج و مدخول، و يقع ضحية جملة من الأوهام و الاستيهامات، فقد بيّنت التجربة المعرفية أن العلوم الاجتماعية و من نحا منحاها من الفلسفات لن تكتسب شيئا من هذا «التطرف العلموي» لسبب بسيط و هو أن الإنسان الذي تتعلق بدراسته هذه ليس «شيئا» مقيسا، و لا يمكن أن يكون كذلك، و التمزق الإبستيمولوجي الذي تعيشه هذه العلوم بين طموحها في أن تصير علوما «حقة» و واقعها الذي يفرض عليها ألا تكون كذلك لا يرتفع بتطرفها في ادعاء العلمية و في معاداة الأدب، لهذا فالأصل قي هذا الموقف هو كون هذه الأنماط من المعرفة تحيا عقدة «هوية»، و هذه العقدة تجعلها تنظر إلى العلوم الدقيقة بوصفها « أنا أعلى» يأنّبها، فتعوض عن عدم قدرتها أن تكون مضارعة له بأن تبالغ في «معاداة» الأدب الذي يصير من منظورها نقيض المعرفة الدقيقة. و الحال أن هذا التقسيم و هذه الرؤية المانوية خاطئة تماما، و الدليل نجده في تاريخ العلم و الفلسفة نفسهما، فواحد من أهم إبستيمولوجيي القرن العشرين و هو باشلار له تأليفات في الأدب و الشعر و اللغة، لا تقل قيمة عن تأليفاته في تاريخ الفيزياء، و واحد من أهم مناطقة القرن العشرين و هو فيتجنشتاين، كان يقرأ الشعر حتى في الملتقيات العلمية الكبرى، و يقرضه و يبرع فيه. اعتبار الأدب مسألة كمالية أو مسألة شكلية هو إذن خطأ شنيع، فرأي مثل هذا هو ضحية روح العصر التي هي روح «علموية» و لهذا فهو رأي ساذج و «لا يفكر» ، لأنه يبقى في حدود أفق إيديولوجيا عصره، فالعلم هو إيديولوجيا و نموذج الفكر اليوم، كما كانت الثيولوجيا بالأمس إيديولوجيا و نموذج عصرها، و المفكر الحق هو الذي يحاول أن يتعالى عن هذه الإيديولوجيات الطارئة ليمارس الفكر في صورته الخالصة المحض، بعيدا عن كل نموذج قبلي، إذ أن ما تعلمنا إياه الفلسفة هو أن لا وجود لنموذج نهائي نحتكم إليه. إن استراتيجية الأدب تتشابك باستراتيجية الفلسفة "لتصبحا كتابة تستهدف مراوغة اللغة وتقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها" (ص.10). ينتقل بنعبد العالي بعبد الفتاح كيليطو إلى أرض الفلسفة، مستعيناً بزاوية نظرية لغوية ومفاهيمية تجريدية تعود أساساً إلى أشهر فلاسفة الغرب: بارت، نيتشه، بلانشو، فوكو، ديريدا... فيجعلنا نراجع نظرتنا إلى كيليطو المعروف بدراساته للتراث الأدبي العربي، مع أنه لا يهتم كثيراً بالفلسفة وتاريخها، ولا يوظف مفاهيمها، بل إنه لا يشغل نفسه بالمفاهيم المغرقة في التجريد. وعلى رغم ذلك يبرز بنعبد العالي العمق الفلسفي لكتابات كيليطو. فبخصوص كتاب »الغائب، دراسة في مقامة للحريري« (توبقال 1987) يتساءل المؤلف (بنعبد العالي) من هو (ما هو) الغائب في هذه الدراسة؟ وهو واع بأن العالم الذي يقدمه لنا هذا الكتاب يتنافى وهذا النوع من الأسئلة التي تحيلنا إلى عالم »السيمولاكر كما عرفه »فوكو« في مختلف استعمالاته : "السيمولاكر هو الصورة التافهة في مقابل الحقيقة الفعلية، ثم إنه يعني تمثيل شيء ما "من حيث أن هذا الشيء يفوض أمره لآخر، من حيث إنه يتجلى ويتوارى في آن". ثم إنه يعني الكذب الذي يجعلنا نأخذ علامة بدل أخرى. وهو يعني أخيراً، القدوم والظهور المتواقت للذات والآخر". يخلص بنعبد العالي إلى أن كيليطو يقصد ب»الغائب« في المقامة، التي تبدأ بذكر الليل، هو الشمس. وعلى رغم ذلك فهي حاضرة حضوراً سيمولاكرياً في القمر، نظيرها الذي أعارته ضياءها. كما أن عالم السيمولاكر هو المرايا، فحكاية الحارث مرآة لحكاية زيد. والغائب أيضاً، وأساساً، هو الريادة في المقامة كجنس أدبي، انه الرائد الأول، أبو المقامة، الهمذاني، الذي لا مفر كل »متصد بعده لإنشاء مقامة من أن يغترف من فضالته«. وعلى رغم ذلك فالهمذاني حاضر في صورته، حاضر في الحريري، الذي يحضر هو الآخر في المقامة من طرق بدائله. صحيح أنه هو مؤلفها، إلا انه المؤلف الغائب. ولذلك يؤكد بنعبد العالي، بحروف بارزة، »كثيرون هم الغائبون في كتاب »الغائب«. بيد ان كل الغائبين حاضرون« (ص32). وهنا لابد أن نشير إلى أن بنعبد العالي، في دراسته لكتاب »الغائب«، أهمل معلومة أساسية مفادها ان المقامة الني درسها كيليطو هي المقامة الخامسة، التي تبدأ بذكر الليل وتنتهي بذكر النهار. والأحداث المروية فيها تستغرق فترة زمنية تشمل الليل كله وتمتد إلى ما بعد طلوع الشمس، أي »البداية تحت علامة قمر شاحب، والنهاية تحت علامة شمس ساطعة« (من مقدمة »الغائب). وهي معلومات ضرورية للقارئ الذي لم يقرأ المقامة الخامسة. وفي كتاب "أبو العلاء المعري أو متاهات القول" (توبقال 2000) نهج كيليطو قراءة حاولت إظهار الشاعر في "تناقضاته وصراعه بين الإفصاح والإضمار، والانكشاف والإخفاء« (ص35). وهذا هو المدخل الأدبي لفهم الكتابة عند المعري التي تهدف إلى القول بقدر ما ترمي إلى صد القول، فهي» صراع عنيف،عنيد مع ما لا يجوز "كتابته، وما لا ينبغي قوله«. وهذا هو السر الذي يرفض المعري إفشاءه: «ولدي سر ليس يمكن ذكره يخفى على البصراء وهو نهار». وهنا يقول كيليطو : "ومعلوم أن مجرد الإيحاء بخطاب غائب هو دعوة لاستضماره، للتنقيب عنه والكشف عن حروفه الظاهرة" (الغائب، ص.40). ومن المفاهيم التي تضمر أختها النقيض نجد الأنا التي تضمر الآخر، وتعتبره "سراً" ينبغي إفشاؤه. وهنا نقف عند كتاب »لن تتكلم لغتي« الذي يجيب بالأساس عن سؤال » كيف يتصرف العرب مع أدبهم؟ كيف ينظرون إليه؟ ص. 17).) ويؤول بنعبد العالي هذا السؤال إلى آخر: كيف نظرت الثقافة العربية وكيف تنظر إلى نفسها؟ يجيب كيليطو بالدعوة إلى التمييز بين زمانين ثقافيين، أو بين ذاكرتين أدبيتين: »فإذا كان الأدب الكلاسيكي يحيلني تلقائياً الى الهجرة وفضائها، فإن الأدب الحديث يحيلني عفوياً إلى أوروبا كتقويم وإطار« ( لن تتكلم لغتي، ص12 - 13). وهذه الذاكرة المزدوجة في إدراك الذات تدل على أن هناك "فترة لم يعن للعرب فيها لحظة أن ينظروا من الخارج عبر أدب آخر". وهناك فترة أخرى أصبح فيها العرب "في حاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم، والى مرآة أخرى كي يروا أنفسهم". وأثناء الخوض في هذه القضية الحساسة تحضر مسألة الترجمة بقوة. فالعرب عرفوا حركة واسعة للترجمة، غير أنهم، بحسب كيليطو، كانوا ينظرون إلى الترجمة كعملية تتم في جانب واحد، أي من لغات أخرى (الفارسية، اليونانية، السريانية) إلى العربية، وليس من العربية الى لغات أخرى. وبذلك لم يكونوا يرون أن شعرهم يجوز عليه الترجمة (أو النقل) وهذا ما يؤكده الجاحظ بقوله "لأن الشعر متى حوّل، تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب فيه". وبذلك فالعرب كانوا يتصورون أن الترجمة الوحيدة هي الشرح والتعليق والحاشية. أي ترجمة داخل اللغة نفسها. والنتيجة أن العرب القدماء ضربوا الحصار على ثقافتهم، فلم يكتفوا بذلك، بل إنهم حرصوا، عن غير عمد، على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل، فطوروا أساليب تستعصي على النقل. ونتيجة لذلك اقتنع العرب بأن الأدب العربي مكتف بذاته ولا يهم في مجمله إلا العرب" (ص.20). و لم ينفجر هذا الاكتفاء إلا ابتداء من القرن التاسع عشر، فتغير الزمان الثقافي، وأصبح العرب" في حاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم". فظهر "الشدياق" كنقيض للجاحظ. و هذه هي اللحظة المفصلية التي بدأت فيها الثقافة العربية، والزمان العربي عموما، في التفكير في مغادرة الذات، وبدأت تنظر إلى ماضيها ليس كفترة ذهبية، بل كزمان كلاسيكي. في هذا الملف، يعود "الملحق الثقافي" إلى تشخيص جديد راهني لهذه العلاقة، وذلك من خلال شهادات وآراء جيل جديد من الكتّاب والمشتغلين في حقل الفلسفة الحديثة. ومن خلال هذه الشهادات والآراء نقف على تصورات جديدة جديرة بالتأمل، على أنْ نبقي على هذا الملف مفتوحا في وجه لأصدقاء الكتّاب والمبدعين من أجل تقديم شهاداتهم. انظر الملحق الثقافي