سينتبهون حينذاك إلى أن كاربنتيي قد أصيب في جبينه أثناء القفز. ولكن لابأس..يمكنهم الآن الوصول إلى خارج المدينة سيرا عبر قنوات الصرف الصحي. ولكن بعد مسافة مائة متر سوف يبلغ مستوى الماء السقف، وتعترض طريقهم حواجز عمودية. وعن طريق الغطس تمكنوا من اختراق ذلك الحاجز، لكن سرعان ما استوقفهم حاجز خشبي آخر تنغرس أعمدته في الماء. وقد نجح جيرما، بواسطة حركات متوالية أن يقتلع أحد تلك الأعمدة، غير أن جهوده الواهنة عجزت عن انتزاع العمود الثاني. وحينذاك خاطبهم قائلا: - «بوسعنا إذا ما نحن استعملنا بعض القوة في زحزحة الأعمدة أن نتمكن من العبور..» ثم انتقل إلى الجانب الآخر من الحاجز. ولكن عندما همّ كاربانتيي أن يلحق برفاقه، وكان التعب قد أوهنه بسبب الدم الذي نزف منه، كاد أن يشرف على الغرق..وقد غطس أودّو في الحال ونجح في الإمساك به من ساقه. ثم ساعد جيرما على العودة إلى الوراء. لم يعد أمامهم سوى الانتظار، وسط المياه ذات الرائحة النتنة، والمحملة بالقاذورات والمواد العضوية من كل نوع التي كانت تتصاعد في وجوههم. حوالي العاشرة ليلا، سيعودون بغير رغبة منهم إلى مدخل المجاري للوقوف على ما يحدث. وعندما بلغوا إلى النقطة التي دخلوا منها، سيقع بصرهم على شخصين، أحدهما يمسك بفانوس مربوط إلى طرف حبل يقوم باستكشاف المجرى بحثا عن فارين محتملين. سيقومون بالانسحاب السريع ملتصقين بالجدار قبل أن يتوغلوا داخل المياه المتعفنة... وبعد لحظات، وهم يتقدمون قليلا باتجاه الأعلى سيتوقفون قريبا من طاحونة تصدر عجيجا حيث سمعوا أصوات أشخاص يتحركون جيئة وذهابا بحثا عنهم. هكذا سيقضون الليل في رعب متواصل، محاطين بجرذان هائلة لم تكف عن التحويم حولهم، بوجوه تغطيها أعشاش العنكبوت، متكوّمين إلى جانب بعضهم البعض، وقد جمّدهم البرد، وتحت تهديد أن تجرفهم المياه العطنة المحملة بالأحجار و شقوف القناني. ولمّا كانت الأحداث قد باغثتهم بينما كانوا على مائدة الغذاء، فإنهم لم يكونوا لحظتئذ ينتعلون سوى بلاغي عربية لم يطل بها الوقت حتى جرفها التيار معه، وتركهم يسيرون حفاة على شظايا الزجاج والخزف المكسور التي كانت تدمي أقدامهم. وقد زاد الطين بلة أن عاصفة مرعبة هبّت مصحوبة بأمطار طوفانية لم تتوقف عن الهطول خلال الليل. وبسبب ذلك كان المجرى الذي يوجدون فيه، والذي كانت تغذيه مياه واد فاس، يزداد منسوبه غزارة مع مرور الوقت.. وقد بلغ بهم الأمر أنهم تساءلوا فيما لو كانت المياه ستغمرهم، كما كان يحصل في الروايات الكلاسيكية الجيدة. ولذلك فقد اضطروا إلى البحث عن مكان يكون فيه السقف أعلى قليلا لأجل الإبقاء على رؤوسهم خارج الماء...وقد جاء في تقرير أحد هؤلاء الضباط قوله: «كان يحدث، بين الحين والآخر، أن تأخذنا سنة من النوم ثم ما إن نستيقظ حتى نستغرق في البحث عن أيدي بعضنا البعض ونضغط عليها بانفعال لكي نتأكد من أننا ما نزال هنا. ما أكثر المشاريع التي راودتنا خلال تلك الليلة». وعلى هذا المنوال سيقضون كل نهار الغد، وهم يتخيلون كل الفرضيات الممكن القيام بها، ولكن من دون الشروع في أية محاولة. بلغت إلى أسماعهم عيارات نارية متكررة اعتقدوا أن الجنود المتمردين هم الذين يطلقونها في الهواء، على الطريقة العربية المعتادة، لأجل الاحتفال بانتصار أو التعبير عن فرحة. وقد عقدوا اجتماعا للتداول في الأمر ? لنتصور اجتماعهم- وقرروا مواصلة الانتظار. وسيكون علينا أن نقرأ التقرير الرسمي الذي حرّره الليوتنان بوجار، وهو أكثر رفاقه أقدمية، حيث يكتب بكل بساطة هذه الجملة: «لقد مر النهار بدون حوادث، وكذلك الليل». لقد ظلوا في هذا المكان منذ ست وثلاثين ساعة بدون طعام، محاطين بالماء المثلج الذي كان يبلغ منهم في بعض الأحيان حد الرقبة، مغمورين بمياه الواد الحار النتنة، وسط الجرذان، بأقدام أدمتها شظايا الزجاج، منتظرين بين لحظة وأخرى أن يتعرضوا للقتل، ومع ذلك يَكتب أحدهم بكامل الهدوء: « لقد مر النهار بدون حوادث، وكذلك الليل...» ستأتي الليلة الثانية «من دون حوادث» كذلك. كان كاربانتيي، الذي تخدرت أعضاؤه من شدة البرد، إذ لم يكن عليه سوى سروال وقميص، وأنهكه نزيف جرحه. و»أكثر من مرة، يقول رفاقه، كنا مضطرين لأخذه بين أحضاننا لكي ندفّئه.» لنتأمل هذه اللوحة التي تجمع بين هؤلاء البؤساء، وهم فريسة كل أنواع آلام الجوع والعطش والسهر، بأعضاء متصلبة ومخدرة، غائصين في العتمات الموبوءة، وهم يتناوبون مثل أمّ تعانق طفلها، على احتضان أحد رفاقهم، الأكثر ألما، «لكي يدفئونه»... أي روابط وثيقة من المحبة تجمع مثل هؤلاء الرجال وسط كل هذه المعاناة. ستمر ليلة ما بين 18 و19 أبريل كلها على هذا المنوال. صبيحة يوم 19، كانوا خائري القوى وفي غاية الإنهاك، وقد أدركوا أنهم لم يعد بوسعهم قضاء يوم إضافي في مثل هذا الوضعية. حاولوا العودة بخطواتهم إلى الوراء لكي يصلوا إلى النقطة التي دخلوا منها قبل ست وثلاثين ساعة والتسلل إلى الخارج بكل حذر. كان الزقاق مقفرا فتسلقوا جدران قناة مياه المجاري الواحد تلو الآخر. غير أن أعضاءهم المخدرة والجريحة كانت ترفض حمل أجسادهم. وقد اضطروا للحظات طويلة أن يمارسوا التمسيد والتدليك والتمارين البدنية لأجل الحفاظ على القدرة على المشي. أي مشهد آخر يمكن أن يقدمه هؤلاء الرجال الأربعة، أنصاف عراة، نازفيي الأعضاء، المغمورين بالمياه القذرة، وهم يقومون، عند الفجر في زقاق مقفر من أزقة فاس، بتمارين رياضية. تقدم كاربانتيي بحذر إلى أن وصل إلى الباب الذي يسدّ الزقاق. شاهد مغربيا مسلحا يتقدم لأجل أن يفتح هذا الباب تحديدا. التصق بالجدار ثم ما إن انفتح قفل الباب حتى وجد ما يكفي من الفرصة ليمسك بخناق المغربي ويسقطه أرضا وينزع عنه بندقيته. وقد اتضح أن هذا المغربي بالذات كان صديقا بعث به القايد الدمناتي للعثور عليهم وإنقاذهم. إنه صديق لفرنسا الذي دعاهم إلى مرافقته. يصمم بوجار وجيرما، بعد أن ارتديا البرانس التي جاءهم بها ذلك المغربي، على خوض مغامرة مرافقته مهما كلفهم ذلك، فلم يعد بوسعهم التحمل... بينما تردد أودّو وكاربانتيي مخافة أن يكون في الأمر خدعة، ورفضا اللحاق بزميليهما عائدين للغوص في المجاري، مشترطين لخروجهما الاطلاع على وثيقة موقعة من طرف الجنرال برولار. بعد نصف ساعة من ذلك، سيصل مغربي آخر حاملا الوثيقة المطلوبة، وسيقبل أودّو وكاربانتيي مرافقة المبعوث الذي سيأخذهم إلى حيث رفاقهم الذين كانوا قد تمددوا على أفرشة مريحة والتفوا بأغطية دافئة أمام أقداح الشاي الساخنة. حوالي الساعة العاشرة صباحا، وبعد أن تناولوا بعض الطعام، سيستغرقهم التعب والنوم الذي سيخلدون إليه إلى الساعة الخامسة مساء. في هذه اللحظة سيوقظهم دويّ مدفع ستمرّ قذيفته قاصفة فوق رؤوسهم لتنفجر على مقربة منهم. ألا يكونون قد نجوا من الخطر المغربي لكي يقعوا ضحية القذائف الفرنسية؟ هكذا كانوا يتساءلون عندما حلّ لحسن الحظ مَن يقوم بنقلهم إلى المستشفى العسكري، حيث ستنتهي أخيرا أطوار محنتهم المرعبة.