قبل أيام من صدور الحكم النهائي في قضية »أرغنكون« في تركيا، فجّرت وسائل الإعلام التركية فضيحة أخرى توازيها أهمية. ففي الأول من غشت ,كشفت الصحيفة الأسبوعية الأرمنية-التركية »آغوس« عن وجود »رموز عرقية« تعتمدها الدولة التركية من أجل تصنيف مواطنيها بحسب انتمائهم الديني في الإحصاءات الرسمية. واكتشفت الصحيفة هذا الواقع بعد أن طُلب من عائلة أرادت تسجيل أولادها في مدرسة أرمنية في إسطنبول أن تقدّم وثائق تثبت بأنه تمّ تصنيفها تحت »رقم 2«. وأشار المقال الذي نشرته صحيفة »آغوس« إلى أنّ الحكومة التركية صنّفت المواطنين اليونانيين تحت رقم »1« والمواطنين الأرمن تحت رقم »2« واليهود تحت رقم »3«. ولفتت في ما بعد صحف تركية أخرى إلى أنّه تمّ تنصيف الآشوريين تحت رقم »4« والمواطنين »الآخرين« تحت رقم »5«. وبعد مرور أسبوع على الأنباء التي أوردتها صحيفة »آغوس«، أكّد وزير الداخلية التركي حصول ذلك، وأعلن في بيان صحافي أنّه »يتمّ تسليم وضعية عرق الأقليات إلى وزارة التربية بناء على جنسيتهم أو على معلومات عرقية يتمّ الحصول عليها من سجلات الدولة التي كانت موجودة خلال فترة الحكم العثماني«. ولفتت مصادر رسمية تركية إلى أنّ هذه الممارسة لا تزال مستمرة منذ عام 1923 حين تأسست الجمهورية التركية الحديثة. وعلى رغم أنّ هذه المزاعم برزت في السابق إلا أنّها المرة الأولى التي يقرّ فيها علناً المسؤولون في الدولة التركية بوجودها. للوهلة الأولى، قد يفاجأ المرء حين يكتشف أنّ الدولة التي تدّعي العلمانية وتفصل بين المؤسسات السياسية وتطبيق العدالة والمعتقدات الفردية والجماعية، تستخدم »رموزاً عرقية« منذ نحو تسعة عقود.
أنظمة ما بعد الحقبة العثمانية تعتبر هذه الفضيحة كبيرة جداً إلى حدّ أنه يصعب إزالتها من النشرات الإخبارية. فهي تدل على جوهر التناقضات الداخلية التي شهدتها الإمبراطورية العثمانية وإخفاقها أو عدم رغبتها في الإصلاح، الأمر الذي خلّف تأثيراً في كل الأنظمة السياسية التي برزت بعد الحقبة العثمانية. كما أنها تقع في قلب المساحة السياسية التي قامت بعد الحقبة العثمانية من أجل تخطي هذا الإرث وإنشاء شعور بالمواطنية. وتعتبر قصة تهاوي الإمبراطورية العثمانية وانهيارها طويلة لكن يجب التذكير بعجز الإمبراطورية عن إنشاء ظروف مساواة بين مواطنيها أو بين مرؤوسيها كما كان يتمّ تسميتهم حينها. تمّ تأسيس الدولة العثمانية على أنّها دولة ثيوقراطية. وإلى جانب الأكثرية الدينية الحاكمة (المسلمون السنة)، اعترف العثمانيون بالمجموعات المذهبية وضمنوا حرية المعتقد والحكم الذاتي مقابل الوفاء للدولة. واعترف هذا النظام الذي عُرف ب »نظام ملّيت« بالمسلمين وبالروم (أو الأرثوذكس) وبالأرمن واليهود. وفي زمن اندلاع الثورة الفرنسية (عام 1789)، كانت الإمبراطورية العثمانية كياناً واسعاً لكنه متهاو مع العلم أنّ نحو نصف سكانها هم من غير المسلمين. وعلى مرّ القرن التاسع عشر، وفيما ضعفت الإمبراطورية وتصدّعت، أصبحت الطبيعة الثيوقراطية لنظامها السياسي أكثر وضوحاً. وعلى رغم أنه في القرن التاسع عشر، كان 40 في المئة من سكان الإمبراطورية غير مسلمين وكانوا ينتمون بشكل أساسي إلى مختلف المذاهب المسيحية إلا أنّ النظام القانوني العثماني لم يقبل المساواة بينهم. ومن بين الاختلافات العديدة بينهم، كان يحقّ للمسلمين حمل السلاح فيما مُنع المسيحيون من ذلك. وعكس هذا الأمر انقساماً في سوق العمل بحيث خدم المواطنون المسلمون في الإمبراطورية في الجيش وفي بيروقراطية الدولة فيما كان المسيحيون حرفيين وتجاراً وعاملين في الزراعة. ومع دخول الإمبراطورية في فترة أزمة بما فيها الإفلاس المالي، تمّ رفع الضرائب المفروضة على السكان المسيحيين، الأمر الذي أدى إلى اندلاع انتفاضات متتالية تمّت مواجهتها بارتكاب المجازر. ودفع ذلك القوى الأوروبية إلى التدخّل في الشؤون الداخلية للإمبراطورية المتهاوية. كانت المساعي المتعدّدة لإصلاح القضاء بما في ذلك فترة »التنظيمات« التي بدأت عام 1839 تهدف إلى ضمان الحقوق المدنية للمرؤوسين العثمانيين وتأمين حياتهم. وكرّس إعلان خط همايون عام 1856 المساواة في التعامل بين المواطنين بصرف النظر عن دينهم أو معتقدهم. إلا أنّ كل هذه الإصلاحات لم تؤمّن المساواة ولم تضمن الأمن. وقضى السلطان والمصالح القوية للشبكة الدينية على عملية تطبيق هذه الإصلاحات. وتلا إعلانات الإصلاح تصعيد العنف ضد الأقليات، ما أدى إلى حصول سلسلة من المجازر المريعة. هذه هي الممارسة الثانية المهمة النابعة من الثقافة السياسية العثمانية، إذ لم يكن للإصلاح القانوني أي تأثير عملياً لا بل كان تأثيره عكسياً. أدى إخفاق الدولة العثمانية في الإصلاح إلى انهيارها. ثارت شعوب البلقان الواحد تلو الآخر فيما لم تنقذ التهديدات والمجازر العثمانية الإمبراطورية. والأكثر غرابة هو أنّ الأنظمة السياسية التي قامت بعد الحقبة العثمانية استمرت في اعتماد الممارسات القديمة القائمة على اعتبار »مرؤوسيها« جزءاً من نظام »ملّيت« بدلاً من مواطنين يتمتعون بمجموعة من الحقوق القانونية مع أنها تدعي »الحداثة« و »العلمانية«. عام 1908، مع اندلاع ثورة الاتحاديين (على يد الشباب الأتراك) في تركيا، وصل أول حزب »حديث« إلى السلطة في إسطنبول وبدأ التحضير للنظام السياسي الذي سيقوم عقب الحقبة العثمانية. وفيما اعتُبر معظم قادة الاتحاديين ملحدين، تصرّفوا على أساس عدم إمكان إحقاق مساواة بين المسلمين والمسيحيين أمام القانون فأطلقوا حملة إبادة ضد الأقليات الدينية أي الأرمن والآشوريين واليونانيين. ولم تفلت تركيا الكمالية التي تُعتبر مثالاً للحداثة الاستبدادية من الممارسة عينها وأعلنت نفسها علمانية فيما صنّفت الأقليات الدينية وميّزت بينها على رغم أنّ هذه الأقليات لا تشكّل اليوم سوى 0.1 في المئة من مجمل الشعب التركي. وأشارت التقديرات إلى أنّ عدد الأرمن في تركيا يصل إلى 60 ألف واليهود إلى 5 آلاف والآشوريين إلى 3 آلاف واليونانيين إلى ألفين. كما يقدّر عدد سكان تركيا ب75 مليون نسمة. عام 1927، أشار الإحصاء الذي أجري في فترة النظام الكمالي إلى أنّ الأقليات غير المسلمة تشكّل 2.5 في المئة من مجمل الشعب التركي، مع العلم أنها انخفضت بنسبة 20 في المئة مقارنة بعام 1906. لم يخلُ تصنيف الأقليات من التبعات. فثمة دلائل كافية تشير إلى عدم قيام المسؤولين في الدولة بتسجيل أحفاد الأشخاص الذين غيّروا دينهم من المسيحية إلى الإسلام (مكرهين أحياناً). حتى أنّ الدولة تنظر إليهم بعين الشك إذ تمّ منعهم من الحصول على وظائف معينة في الجيش مثلاً وفي السلك الديبلوماسي أو حتى من أن يصبحوا طيارين لخطوط جوية مدنية. كما تمّت ممارسة سياسة التمييز ضد الأقليات كمجموعة. فثمة جدلية قائمة حول كنيسة آيا تريادا اليونانية في جزيرة هيبيليادا ومعهد اللاهوت الموجود فيها واللذين صادرتهما السلطات التركية مع 1410 ملكيات تعود لمؤسسات تملكها أقليات عام 1971. كما أنّ مصادرة نصف أراضي الكنيسة الآشورية مار جبرائيل عام 2008 تعد مثالاً جديداً على ذلك. تهدّد هذه المصادرة استمرارية هذا المعبد الذي بُني منذ عام 1700. لم تنته هذه الممارسات على رغم الإعلانات الرسمية المستمرة بذلك. في 5 تموز (يوليو)، دخل مفتي طرابزون مع مجموعة من أتباعه إلى كنيسة آيا صوفيا في طرابزون للصلاة ولتحويل هذه الكنيسة البيزنطية السابقة التي تحوّلت إلى مسجد بعد الغزو العثماني وإلى متحف منذ عام 1964، إلى مسجد من جديد. وثمة ضغوط متزايدة لتحويل آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد مع العلم أنّه متحف في الوقت الحالي مفتوح أمام الزوّار.
ما المثال من أجل الثورات العربية؟ تعدّ هذه الفضيحة التركية الأخيرة مرتبطة بالنقاش الدائر حالياً بموازاة الانتفاضات العربية. أولاً، هل تستطيع تركيا تقديم مثال يحتذي به النظام السياسي العربي المستقبلي؟ قبل اندلاع الربيع العربي وبعده، اقترح عدد كبير من الأشخاص أن تعتمد التيارات السياسية العربية تركيا مثالاً يحتذى كونها تقدّم خليطاً متجانساً بين الإسلام والديموقراطية. إلا أنّ فضيحة الرموز العرقية وكشف »أرغنكون« عن وجود »دولة عميقة« في تركيا والمعاملة العنيفة التي تلقاها المتظاهرون في متنزه غيزي وفضيحة وجود أعلى نسبة من الصحافيين المسجونين في هذا البلد تكشف أنّ تركيا لا تزال تكافح وبعيدة عن قاعدة القانون وعاجزة عن اقتراح حلول للآخرين. فضلاً عن ذلك، عاد النقاش حول العلمانية إلى الواجهة من جديد. ويربط عدد كبير من الأشخاص في الشرق الأوسط العلمانية بالأنظمة السياسية مثل البعثية في العراق وسورية والناصرية في مصر. فيما قام نظام آخر في لبنان عقب الحقبة العثمانية حيث صمد نظام »ملّيت« وازدهر، مارست الدول الثلاثة الآنفة ذكرها نظام »ملّيت« وادعت أنها علمانية وحديثة شأنها شأن تركيا الكمالية. على غرار الأنظمة الوطنية التي قامت في السابق، لا تزال التيارات السياسية العربية الحالية التي برزت منذ عام 2011 متردّدة في ما يتعلّق بقاعدة القانون. ففيما تطالب ب »الحرية«، إلا أنّ من غير الواضح الكيان الدستوري الذي يسعى عدد كبير من هذه التيارات إلى إرسائه. في حال أردنا قاعدة القانون، فيجب أن تتمّ معاملة كلّ مواطن في هذا النظام بمساواة أمام العدالة. فمن غير الممكن تطبيق قاعدة القانون على شريحة واحدة من المجتمع فيما تتمّ معاملة الشرائح الأخرى كمواطني درجة ثانية بناء على معتقداتهم الدينية. في هذا الإطار، تذكّرنا الرموز العرقية بأنّ تركيا لا تزال تحت ظل الإمبراطورية العثمانية فيما الطريق طويلة أمام التيارات السياسية العربية للانتقال من تابعين لنظام »ملّيت« إلى مواطنين فعليين.