من الصعب تحديد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في درج واحد من مكتبة ضخمة، ومن الصعب، كذلك، أن نقول إن مفكرنا يهتم بهذا المجال دون غيره، فهو بالجملة مفكر متعدد المجالات، لا نستطيع تحديد واحد منها دون الإشارة إلى الأخرى. لقد كتب في التراث، والفكر، والإبستيمولوجيا، والتربية، والسياسة، وغيرها. إن هذا التعدُّد في الاهتمام ينبني على تصوّر إشكالي حدّده منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ بمعنى أننا أمام رجل إشكالي يمحور فكره على إشكالية واحدة، هي إشكالية النهضة العربية وتجاوز تأخرها التاريخي. إن هذا الناظم الإشكالي الذي حدده في أكثر من مقالة وكتاب يؤسّس أفقا إشكاليا هو مناط القراءة التي سنقوم بها في هذا البحث. إن اهتمام الجابري متعدد، لكن الإشكالية التي يشتغل بها وعليها واحدة. وبين تعدد الاهتمام ووحدة الإشكالية تظهر لنا جدةّ مفكرنا وفرادته ، ليس فقط في القضايا التي يطرقها بمعول نقدي ثاقب، ولا بالسجال الذي تتضمنه كتبه، والمضاعفات التي يخلفها، وليس في معالم العقلانية التي يبتغيها ويسير عليها، وليس في الروح النقدية والصّدامية التي تصيب قرّاءه والمشتغلين في مجال الفكر العربي، بل في المشروع الذي يضعه في المقدمات. ذلك المشروع الذي ينبني على أهداف محددة، تتوخى النهضة، والتقدم، وما إلى ذلك من المفاهيم المجاورة لهما، بمعنى أن مشروع الجابري هو مشروع إيديولوجي يفترض تجاوز الخيبات، والانكسارات، والتعثرات، التي وقعت الأمة العربية فيها، ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة القراءة النقدية للتراث العربي الإسلامي، وبالضبط الاشتغال على مفهوم العقل الذي ينتج هذا الفكر. إن المثقف السلفي يرى في الغرب تهديدا لهويته مثلما يرى في ماديته جاهلية جديدة، حسب سيد قطب. وإذا كان الأمر كذلك، فإن جسر النهضة لا يتأتى إلا بالرجوع إلى السلف الصالح، أي إلى المرحلة الأولى في الإسلام بحكم نقائها وصفائها. إن المثقف والعربي، مثلما وجد لنفسه آلية دفاعية تحرره من سيطرة الغرب عليه. يتم بمقتضاها الرد على مادية الغرب، عبر التمترس خلف الدين. فالسلفي، بهذا المعنى، قام بالرد على الدهريين مثل جمال الدين الأفغاني، الذي اعتبر أن ما توصل إليه الغرب من علم موجود في القرآن الكريم. وتروم هذه الآلية الدفاعية إسكات التوتر الداخلي الذي يعيشه السلفي في وعيه ولاوعيه، ليس لأنه يعيش انفصامًا ثقافيًا ونفسيًا فحسب، بل لأنه يتكلم من داخل هذا الانفصام. فهو من جهة، يعيش هذه المفارقة الصعبة1، ومن جهة أخرى، يتحدث عن النهضة العربية الإسلامية ويسكت عن محدداتها (الإمبراطورية الرومانية والفارسية)، مثلما يقمع الحضور الغربي في نهضته المنشودة. إن العلاقة بين المفكر فيه والمسكوت عنه تتحدد وفق رؤية خاصة للتاريخ ووفق آلية دفاعية نفسية. فهو، من جهة، رسخ في ذاكرته أنه من «خير أمة أخرجت للناس». ولأنه كذلك، فإن شرعيته التاريخية تتحدد في قيادته للإنسانية. هكذا يعيش المثقف السلفي توتره الوجودي بين تحاور مع الغرب وفق امتلاك، أو بالأحرى استلهام، إنتاجاته العلمية والتكنولوجية، ومن جهة أخرى محاربته بشكل يفيد تدميره. إن الثابت البنيوي في الفكر السلفي منذ جمال الدين الأفغاني إلى اليوم رغم اختلاف الوضعية التاريخية والإيديولوجية بين نزاعاتهم ? هو قياس الشاهد على الغائب. هذا القياس الذي استعاره الأستاذ محمد عابد الجابري بقوله: «إن منطق السلفي بل المنطق العربي عموما يقوم على آلية ذهنية مورية هي قياس الغائب على الشاهد الذي يتخذ هنا صورة قياس الحاضر على الماضي والدعوة السلفية القائلة: «لا ينهض العرب اليوم إلا بما نهضوا به الأمس»2. لا تستقيم إلا إذا تم السكوت عن حلم النهضة المنشودة اليوم عن نظير ما سكت عنه في قراءة نهضة الأمس وتشكل القولة الفقهية للإمام مالك تابثا بنيويًا يحدّد أفق تفكير المثقف السلفي، كأن هذا المثقف وجد في هذه القولة شرطا أساسيا للدفاع عن توتره العام. لا يتعلق الأمر بالسكوت على مرحلة تاريخية، ولا حتى بالقفز عليها، بل يتعلق بعودة إلى المنابع الأولى للإسلام كجوهر يحتمي (المثقف السلفي) داخله. إنه يحمي ذاته من وضعيته الجديدة. لقد نحت المفكرون السلفيون الأوائل تجربة فريدة في التفكير من خلال الاستدلال على قضايا فكرية جديدة بطريقة تفيد الإصلاح و نهضة العرب. وساعدت رؤيتهم لوضعهم الجديد على الانخراط في النقاش الدائر حول النهضة العربية عبر استلهام ما هو رائج في الثقافة آنذاك كالعقل، والدولة، والمدنية، والتربية، والتنظيم السياسي ...الخ. إن أطروحاتهم الأولى حول القضايا التي أنتجها واقعهم الجديد تروم تحديد علاقتهم بالتراث العربي الإسلامي. بمعنى أنه هو الأرضية التي تحدد رؤيتهم للعالم في صراعهم مع الغرب وثقافته، وفي واقعهم المتأخر تاريخيا، وقد تم بمقتضاها استلهام التراث العربي الإسلامي مقرونا بما يفيد صلاح الأمة. إن السؤال الذي رفعه المفكر العربي في القرن التاسع عشر: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ أو بمعنى آخر: كيف كنا وكيف أصبحنا؟ سؤال يرصد الوضعية بين الحلم والواقع، بين النهضة والسقوط. إنها الوضعية التي وجد فيها الباحثون العرب المعاصرون موضوعا للتفكير؛ لتفكيك الثوابت البنيوية التي تؤسسها والقضايا التي تسكت عنها. إن هذا السؤال هو المؤسِّس للخطاب العربي النهضوي، ولنأخذ نموذجا من الخطاب السلفي لقياس ما نريد استخلاصه من هذا الموقف، يقول جمال الدين الأفغاني: «بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرّتبة العلمية عن رتبة الخلافة. وقتها قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما عند الراشدين رضي الله عنهم. كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حدٍّ لم يسبق له في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد وفاطمية في مصر والمغرب وأموية في أطراف الأندلس تفرقت بهذا كله كلمة الأمة، وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك، وفقدت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة، ولا يرعون جانب الخلافة، وزاد الاختلاف بشدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده وتيمورلنك وأحفاده وإيقاعهم بالمسلمين قتلا وإذلالا حتى أدهاهم عن أنفسهم فتفرّق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعظماء والعلماء جميعا، وانفرد كل بشأنه وانصرف إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة وصار ما في العقول منها صورا ذهنية تحويها مخازن الخيال وتلحظها الذاكرة عند عرض صافي خزائن النفس من المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسفا وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ إلى المسامع على طول من الزمان. وما هو إلا نوع من الحزن الغائب كما يكون على الأموات من الأقارب لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة»3. يشكل هذا النص بالنسبة إلينا نموذجا رئيسا في رؤية السلفي لتراثه، يحيل البحث عن الوحدة (وحدة الأمة)، بدل التفرقة، كما تشكلت عند الخلفاء الراشدين، حيث كانت الأمة قوية تقود العالم، لأن قوتها تكمن في عقيدتها. أما انحلالها، فهو راجع إلى تفكك الأمة بتفكك روحها. هاهنا يبدو التوتر مرجعا لقراءة الحاضر عبر الماضي، فالحاضر لا تستقيم قراءته إلا بالماضي، التراث الأولي كمنبع نقي وصاف. إن قراءة التراث بهذا المعنى هو تأويله وظيفيا. الهدف منه إسكات التوتر عبر البحث عن معنى للأنا في مقابل الآخر. يضع فرضياته إجابة عن حاضر منهوك ومنهار ومشتت. نستطيع أن نستخلص، مما أسلفنا، ما عبر عنه الأستاذ بلقزيز بما يلي: «وهكذا نزعم أن معركة تأويل التراث ومحاولة امتلاكه والسيطرة عليه واحتكاره صوغه: إنها معركة اجتماعية سياسية من أجل تحقيق السيطرة المادية»4. لقد سبق أن قلنا إن الحديث عن التراث هو حديث عن معركة تفيد السيطرة والهيمنة، لكن، في المقابل، نجد هذا الرأسمال الرمزي المنغرس في الذات العربية الإسلامية هو ما شكل أفق هذه المعركة كأفق استراتيجي حربي لا يدعو إلى السلام إلا حين الهيمنة عليه وامتلاكه. إن القراءة الوظيفية للتراث أعطت هذا التراكم الإيديولوجي في الساحات العامة للمجتمع العربي. ولأن الأمر كذلك، فتأويلية جمال الدين الأفغاني الظاهرة في رسالة الرد على الدهريين بيِّنة بيانًا استراتيجيا يفيد الحجاج، والسجال والهدم والبناء، كما يفيد الواقع والحلم. كلها ثنائيات تندفع بقوة داخل هذا الخطاب لا لتعرية واقعه وتفكيكه، وفق أدوات تاريخية، بل السكوت عليه والبحث عما يشفي التوتر الذي يعيشه، فثمة فرقا بين هذا السلفي وذاك، والآخرين القادمين من جزر أخرى، كما التيارات السلفية التي يقدّمها لنا الواقع الإسلامي منذ العقود الثلاثة الأخيرة. لأن الاختلاف بينهم راجع لقواعدهم الاجتماعية والتاريخية، ولزوايا نظرهم والأفق التأويلي الذي يفتحونه رغبة في غرس الحقيقة في المجتمع العربي: حقيقة لا تاريخية كما في الرؤية والقراءة. فإن العبارة المالكية (نسبة إلى الإمام مالك) تفيد هذه الرؤية ولأن الأمر كذلك فجدلية الشرق والغرب والأنا الآخر هي أس قراءة السلفيِّ لحاضره عبر استلهام ماضيه كمحرّك لحاضره. إن هذه الجدلية هي التي قدَّمت لنا التراث كمعركة تأويلية، مثلما قدَّمت لنا تعددا في تلك القراءة. 1 عبد الإله بلقزيز، م. س، ص.ص. 34-35. 2 محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، م. س. ص. 30. 3 جمال الدين الأفغاني، الأعمال الكاملة، ص. 362. أورده عابد الجابري، المصدر السابق، ص. 24. 4 عبد الإله بلقزيز، المصدر السابق، ص. 98.