لم يكن العقل المغربي في يوم من الأيام عقلا متحجرا. ولا كان ينساق بسهولة مع الشعارات البراقة، والأفكار والتوجهات بل ظل دوما مشبثا بهويته الدينينة، والوطنية، واللغوية، والثقافية، ولثوابته المذهبية من عقيدة سنية وسطية، وفقه مالكي، وسلوك تربوي معتدل، ووفيا لروح الانفتاح والتجديد والحرية والتحرر والإنصاف. ومن خلال هذه السلسلة سنتلمس جميعا مجموعة من مواقف علمائنا المستنيرين في مجموعة من القضايا التي تمس الجوانب العقدية، والفقهية والاجتماعية والسياسية... لنخلص منها إلى أن العقل المغربي دائما يشتغل في إطار المصلحة والأفق العام لم يكن لدولة الإسلام أن يتسع كيانها وينتشر، ولا أن يتأكد وجودها ويستمر، لولا الجهاد حتى إنه ارتبط في تاريخ الإسلام بالغزوات، والفتوحات الإسلامية التي أكدت من خلالها أمة الإسلام قوتها، و فرضت هيبتها وسلطانها على العالمين. وما إن تمكنت هذه الدولة الإسلامية الفتية من فرض وجودها إلى جانب باقي الأمم والشعوب حتى بدأ الضعف يتسرب إلى بعض جوانبها وأطرافها فصارت مستهدفة من طرف الأعداء والخصوم. فكان الأمر يستدعي الدفاع عن النفس وعن الحياض. وفي كل هذا وذاك يحضر الجهاد باعتباره حربا مقدسة إما من أجل نشر تعاليم الدين الحنيف أو من أجل الدفاع عن النفس ولم يخل عصر من عصور الإسلام لم يواجه فيه المسلمون تحديات من أعدائهم النصارى وغيرهم مما جعل موضوع الجهاد يأخذ حيزا مهما في نقاش الفقهاء من قبيل هل هو فرض كفاية أو فرض عين؟ وهل يمكن للجهاد أن يكون مع الإمام أو بدونه؟ وما هي معايير كل اختيار من الاختيارين؟ والمغرب عبر تاريخه الإسلامي الطويل اعتبر نفسه دوما في جهاد مستمر على اعتبار أنه في صف المواجهة مع العدو النصراني البرتغال والإسبان. فالتهديد النصراني للجيوب والشواطئ المغربية استمر قرونا وما زال. وما احتلال سبتة ومليلية وجيوب أخرى في الشمال والجنوب، إلا نموذج يوضح طبيعة المواضيع التي كانت تطرح بإلحاح على الفقهاء سؤال الجهاد من أجل تحريرها. فهل من الناحية الشرعية يمكن لأي جماعة أو عائلة أو زاوية صوفية أن تلهب حماس الناس وتؤجج مشاعر العامة وتحركهم للجهاد من أجل طرد المغتصب الكافر من أراضيها؟ لقد عاش الفقهاء المغاربة أمام إشكال حقيقي، إشكال تتفاعل فيه عوامل بنيوية من صميم الرؤية الدينية. فهل يقولون بالجهاد كيفما اتفق وضمن أي شروط وبدون إذن الإمام الأعظم(السلطان)؟ أم أن إذن إمام الوقت ضروري في ذلك؟ والحقيقة أن الفقهاء المغاربة انقسموا بصدد هذا الإشكال إلى فريقين: 1 فريق يرى أن الجهاد فرض والإمامة العظمى فرض كذلك على المسلمين، إلا أن الفرق بينهما هو أن الجهاد غاية، في حين أن الإمامة العظمى وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فإذا تحققت الغاية بدون هذه الوسيلة، فلا معنى للتوقف عليها لأن تضييع فرض الإمامة العظمى أهون من تضييع فرضين الإمامة والجهاد. إن هذا الموقف مثله ثلة من الفقهاء ومن أشهرهم محمد العربي الفاسي. وللقارئ المتمعن أن يربط هذا الموقف بسياق أصحابه والشروط الموضوعية التي كان يعيشها المغرب زمن الدولة السعدية من ابتلاء المغرب باحتلال النصراني لأراضيه واغتصابه لها من غير وجه حق. بل إنه في حماة حماس بعض الفقهاء لم يتمالك نفسه فاعتبر أن القول بضرورة إذن الإمام في الجهاد مقالة قريبة من الكفر إن لم تكن هي الكفر بعينه 2 فريق يرى أن الجهاد يتوقف على إذن الإمام الأعظم الذي ولاه الله أمر المسلمين وحماية بيضتهم وحراسة ثغورهم فهو الذي يعرف متى يكون هناك استعداد للجهاد، وإعداد للعدة المناسبة. وأن الجماعات التي تنتظم في عائلات معينة أو زوايا أو عصبيات أخرى إنما تعرض أرواح الناس للهلاك والأسر وتخلق الفتنة في صفوف المسلمين. أضف إلى ذلك أن الدعوة إلى الجهاد من دون إذن الإمام هو خروج عن البيعة، ونقض لها. وفي ذلك إخلال بوحدة المسلمين وخروج على الإمام وما يعقب ذلك من فتن المسلمين وتهديد أمنهم إن فقهاء المالكية الذين سبروا الواقع وفهموا الشروط والملابسات التي عليها واقع الأمة متفقون على أن الجهاد لا يمكن أن يكون إلا بإذن الإمام وعلى وجوده لكنهم وضعوا وقتها استثناءات من قبيل تعذر استئذانه لطول المسافة أو وجود عوائق طبيعية وإنسانية، أو لضيق الوقت فإذا كانت هناك فرصة سانحة للانقضاض على العدو والتأكد من التغلب عليه علما أن استئذان الإمام قد يتطلب وقتا قد يضيع عليهم هذه الفرصة فقالوا لا ضير في ذلك عدا ذلك يبقى استئذانه في الجهاد ضروريا ومؤكدا فقد يعيش المسلمون عقودا وقرونا بدون جهاد لكنهم لا يستطيعون العيش أياما بدون إمام .