لم يكن العقل المغربي في يوم من الأيام عقلا متحجرا. ولا كان ينساق بسهولة مع الشعارات البراقة، والأفكار والتوجهات بل ظل دوما مشبثا بهويته الدينينة، والوطنية، واللغوية، والثقافية، ولثوابته المذهبية من عقيدة سنية وسطية، وفقه مالكي، وسلوك تربوي معتدل، ووفيا لروح الانفتاح والتجديد والحرية والتحرر والإنصاف. ومن خلال هذه السلسلة سنتلمس جميعا مجموعة من مواقف علمائنا المستنيرين في مجموعة من القضايا التي تمس الجوانب العقدية، والفقهية والاجتماعية والسياسية... لنخلص منها إلى أن العقل المغربي دائما يشتغل في إطار المصلحة والأفق العام يعتبر الأستاذ الطاهر بن عبد السلام اللهيوي توفي مؤخرا في مدينة تطوان وقد عاش نيفا وتسعين عاما (ت 2013) واحدا من الفقهاء الذين تصدوا للمد الوهابي ولرموزه وناقشهم وأفتى فيهم فتواه الشهيرة التي ضمنها كتابه « رسالة القول الفصل بين صلاة القبض وصلاة السدل مع التصدي لحقيقة الوهابية النجدية» لم يكن الفقيه اللهيوي يتوانى في الرد على الوهابية وعلى أذنابها في المغرب لاسيما عندما كان من يتجرأ منهم على علماء البلاد وصلحائها ورموزها الدينية فقد أفتى فتوى بعنوان «فتوى دينية بكفران الوهابية النجدية والتنديد بخطرها على الأمة الإسلامية» من الأمور التي اعتبرها الأستاذ اللهيوي مدعاة لتكفير هذه الحركة هو استبدادها بالإسلام ، واعتقادها الجازم بأن « الإسلام الصحيح الذي جاء به الله ورسوله محصور فيها وفي أتباعها. وأما غيرهم ممن ليس تابعا لهم من عامة المسلمين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون بيت الله الحرام كفار يجب قتالهم ويحل مالهم ودماؤهم... ومن كفّر مسلما فهو كافر شرعا» لكن الفقيه الطاهر اللهيوي حين يتولى الجواب عن سؤال هل كفر هذه الطائفة مخلد في النار؟ يجيب بقوله:» أرجو أن لا يكون مخلدا في النارلأنهم يمارسون بعض الطقوس الدينية إن قبلت منهم لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. بشرط خلوهم من النفاق ... وإمامهم محمد بن عبد الوهاب النجدي هو الذي يتحمل وزر هذا المذهب الضال ويتحمل أوزار من عمل به إلى يوم القيامة « أما في معرض جوابه عن سؤال: هل يقبل الله العمل بهذا المذهب؟ فكان جواب الفقيه اللهيوي بالنفي حيث اعتبر أن ما جاءت به الحركة الوهابية إن هو إلا بدعة فهو يقول: « الحق أنه لا يقبل العمل به. لأنه بدعة مبنية على الجهل بقصد التوصل إلى حطام الدنيا» ثم يزيد فيؤكد على أن الوهابية ما هي «في واقع الأمر إلا محنة سعد بها قوم في الدنيا وشقي بها آخرون سبق بها القضاء الأزلي ويا ويل من أشقته هذه المحنة « ثم إنه يزيد فيؤكد على أنه « قد أجمع علماء المشرق والمغرب في زمن محمد بن عبد الوهاب على أن مذهبه بدعة محدثة ظهرت 1142 ه وحذر العلماء شرقا وغربا العوام من اتباعها ولما توفرت له القوة القتالية خرج ثائرا من نجد صحبة آل سعود أمراء الدرعية» ومما يؤاخذ به الطاهر اللهيوي الحركة الوهابية هو تنقيصها من قدر رسول الله (ص) والتقليل من جاهه العظيم حيث يقول: « وقد ثبت لدينا ولدى كل مسلم بالأدلة القطعية والظنية أن الوهابية النجدية تنقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتهضم جاهه العظيم وتصغر جنابه الفخيم الكريم بقولها وفعلها. فمن ذلك أنها تمنع من يكثر من الصلاة على النبي (ص) في الحرمين الشريفين، وتنزع ما في أيدي الحجاج من كتب دلائل الخيرات وغيرها ..كما ثبت لدينا أن حكام الوهابية يمنعون حفاظ القرآن الكريم من تلاوته في الحرمين الشريفين ... ومثل ذلك يمنع حكام الوهابية علماء المذاهب من دروس العلم وبيان الأحكام لاتباع مذاهبهم في الحرمين الشريفين. واحتكروا دروس العلم فيها لجهال المذهب الوهابي» في سياق إماطة اللثام على الوجوه المجهولة للمربي أحمد بوكماخ، أريد إخواني الأعزاء أن أسلط الضوء على وجه قل ما ينتبه إليه من استفاد من سلسلة إقرأ. ذلك أن عباءة المعلم والمربي التي ارتداها السي أحمد، أخفت الكثير من المواهب التي كان يتمتع بها هذا المؤلف، وجعلتنا لا نركز إلا على الظاهر من ملمحه son profil. لم يكن مؤلفا للكتب المدرسية وكفى . كان أستاذنا مثقفا وأديبا، وإعلاميا، إضافة إلى عشقه لفن المسرح. في آخر مشواره التعليمي، لما تكالب ضده جماعة من المسؤولين لإبعاد سلسلته عن البرمجة بالمدارس الإبتدائية، تحت غطاء التعددية في التأليف، والإنفتاح على كفاءات جديدة، وهم في الخفاء كانوا يهيئون اقتسام الكعكة فيما بينهم عن غير حق ، حاول أستاذنا أن يفرغ ما تبقى في جعبته من طاقة، كماعلمت عن طريق السي عبد الصمد ؛ طاقة تتمثل في أفكار حول التربية والبيداغوجيا، وأشياء أخرى. حاول إفراغها على صفحات بعض الجرائد المحلية، ومنها جريدة الخضراء التي سبق ذكرها، وكأن الرجل كان قد عاهد الله على أن يقتسم مع الخلف ما اكتسب من العلم. والمؤكد كما سبق ذكره، أن المربي بوكماخ كان قد ألف مسرحيتين واقتبس ثالثة عن كاتب سوري مكتوبة أصلا باللغة الشامية، قبل أن يكرس وقته للتأليف المدرسي. وكان يتكلف وحده بزرع الروح في النص المسرحي، ليصبح جاهزا للعرض؛ ابتداء من الإخراج وصولا إلى الإستهلاك فوق الخشبة، مرورا، بالطبع، بالكاستين والديكور والإنارة . فلنستمع للأستاذ عبد الصمد في كلمة ألقاها بمناسبة ذكرى تأسيس جمعية قدامى تلاميذ المدرسة الإسلامية بطنجة: «كان من وراء هذا العمل الناجح ( يقصد النشاط المسرحي بطنجة ) أحمد بوكماخ الذي أضفى على الحوار والحركة واللباس والتلقين ما كان له من موهبة تجلت فيما بعد في كثير من الأعمال التي قدمها، سواء على مسرح سيرفانتطيز، أو خلال الحفلات الوطنية التي كانت تقام بالمدرسة الإسلامية. وأنا أذكر أن هذا الأستاذ المقتدر كان يحول المدرسة وتلامذتها إلى خلية عمل دؤوب كلما حلت حفلة من الحفلات الوطنية.» وهكذا، لما طرق أستاذنا التأليف المدرسي، أبان على مهارته ككاتب وشاعر وفنان. كأني به ولج ميدان التأليف المدرسي علما منه مسبقا أنه الميدان الوحيد الذي سيتسع لاستثمار جميع قدراته الفكرية والفنية. إضافة إلى مواهبه المسرحية، أريد ألا يفوتني أن يطلع كل من تربطه علاقة تربوية أو تعليمية بالسي أحمد، على وجه آخر من وجوه أستاذنا وهو وجه الشاعر أحمد بوكماخ. و أنا أعيد قراءة العديد من نصوص إقرأ، و خصوصا منها الشعرية، اتضحت في ذهني حقيقة لا يمكن أن يتجادل حولها شاعران. فسلاسة التعبير وبساطة الكلمات وموسيقى النظم، وهذا ليس بالشيء الهين شعريا ، كل هذا جعلني أتيقن من أن الرجل كان شاعرا محنكا. كان من الممكن أن يصول ويجول في قرض الشعر على جميع مستوياته، ويتبوأ المقام الأول بين أصحابه، لو أنه ركز اهتماماته على القصيدة، و خاض غمارها. فلو لم يكن السي بوكماخ مولعا بالتربية، مهوسا بالطفل، لتوجه آنذاك إلى الشعر الغنائي، وقد كان حينها الميدان بكرا، الدليل أن بعضا من قصائده ( محفوظاته ) كتبت وكأنها ملحنة مسبقا؛ ولو كان قد ولج الأستاذ ميدان الشعر الغنائي، لاعتبر اليوم سلطة ومرجعا. فلنستمع له في بعض المقاطع. يقول في محفوظة «العيد» يا أمي هذا العيد طالعه سعيد أشرق بالأفراح إشراقة الصباح