لأول مرة في تاريخ الملكية المعاصرة، يصدر بلاغ عن الديوان الملكي، يقر بأن ملك البلاد وقع على قرار العفو الخطأ عن شخص معين ، شخص منبوذ ولا إنساني، بدون الاطلاع على مقتصيات وحيثيات الجريمة التي اقترفها، والتي من أجلها كان العفو الملكي. وكانت اللغة التي تحدث بها البيان صريحة، واضحة بلا بلاغة ولا فدلكة، تقول بالحرف أنه «لم يتم بتاتا اطلاع جلالة الملك محمد السادس ، بأي شكل من الأشكال وفي أي لحظة من اللحظات بخطورة الجرائم الدنيئة المقترفة ». ليس في الأمر أية «هزيمة أخلاقية» كما تريد بعض الكتابات أن تقدم الأمر، بل هي «شجاعة الحقيقة» في صورة إنسانية ناصعة، لا تختبيء وراء المبررات والصيغ البلاغية. وهو تجاوب، أيضا، مع مشاعر العديد من المغاربة، وأولهم الضحايا والأسر والعائلات والرأي العام الإعلامي والفني والسياسي، الذي يحمل في نفس القلب، حب الملك وتقديره، ومشاعر الألم والاستغراب الغاضب لما حدث. خلف القضية، هناك معضلة كبيرة اسمها، «عدم اطلاع الملك بتاتا على خطورة الجرائم». المرتكبة. كان يمكن أن يكون ملفا حربيا، كان من الممكن أن يكون ملفا استخباراتيا، كان من الممكن أن يكون ملفا اقتصاديا، كان من الممكن أن يكون ملفا يتعلق بكارثة طبيعية. أو ملفا كارثيا بلا حرب، سوى حرب الكانيبالية الجنسية، ولا زلازل، سوى زلزال الأخلاق، وبلااستخبارات، سوى ما قيل عن شخصية المغتصب، ولا اقتصاد سوى اقتصاد الحقيقة، التي ضاعت في دهاليز البيروقراطية. فهل يمكن أن نتصور حجم الكارثة عندما لا تقدم المعطيات كلها إلى ملك البلاد ورئيس الدولة والحامي الأول وضامن استقرار البلاد وسرها السليم؟ هناك معضلة، وقنبلة كامنة باستمرار وراء قرارات يتم التقديم لها بهذا الشكل من التراخي. والموضوع هو سلسلة العمل التي تسبق القرار. سلسلة يبدو أنها تشتغل في هالة من القداسة، أسقطها الدستور الجديد، ولم تسقطها العادة البيروقراطية ولم تسقطها التقاليد العتيقة.. لقد تحمل ملك البلاد مسؤوليته كاملة، عندما أقر بما وقع، وبإنسانية» في التسليم بضرورة تدبير جيد للملف من طرف المسؤولين، و تحملها، أيضا، عندما قرر فتح ملف المسؤولية، وهي مسؤولية كلفتها السياسية الآن كبيرة. لا يستقيم أن يكون هذا الخطأ في سياق يتسم بتزايد الاغتصاب, والأرقام الفظيعة التي تنشرها الجمعيات المسؤولة دليل على تزايد هذا الجرم في حق الطفولة، بالإضافة إلى أنه سياق يفرض التشديد على العقوبة والتشديد على كل من يستهتر بالكرامة البشرية. لا شك أن العشرات الذين احتجوا، من كل فئات المجتمع لم يستسيغوا أن يتم ما تم في ظروف وثيقة دستورية جديدة، و باسم مناسبة جليلة، هي مناسبة عيد العرش، ومع خطاب أعاد تاسيس النموذج الحداثي والإنساني للتوجه الملكي. فضاعت بين أعينهم الصورة، وتكرست صورة الذئب البشري وهو يضحك ملء فكه، والدم يسيل من كل جانب من فمه. والآن؟ هناك تحقيق لفهم ما جرى، وإن كان الظهير المخصص للعفو يحدد المسؤوليات، بالنص والحرف، وتبقى درجة المسؤولية وطبيعتها. ثم هناك «اقتراحات من شأنها تقنين شروط منح العفو في مختلف مراحله». والحقيقة أن الشروط المنصوص عليها إلى حد الساعة لم يتم توفيرها. وفيها تنصيص واضح على جمع المعلومات على كل ملف معروض للعفو. ولم يتم ذلك، بدليل البلاغ الملكي نفسه، الذي يوضح أنه لم يتم بتاتا، وبأي شكل، وفي أي لحظة إطلاع ملك البلاد على طبيعة العفو الذي يستفيد منه دانييل هذا. وإبداء الرأي، في المرحلة الثانية، وهو ما لم تقم به أي جهة مكونة من مكونات لجنة العفو. ولا أحد امتلك الحس والجرأة لكي يطلع الملك على طبيعة الجرائم وإبداء الرأي. والذي يتعلل بالوقت - كما هو وزير العدل- هل سيمكنه أن يبدي رأيه في مستقبل الأيام، وهل سيبديه إذا ما تغيرت شروط منح العفو، الذي هو من اختصاص الملوك ورؤساء الدول؟ هممممممممممم..! والآن، مرة أخرى؟ ماذا عن العنف الكبير الذي وجه به المغاربة عشية الجمعة في الرباط؟ من اتخذ القرار، هذه المرة، بالهجوم وإراقة الدم.. الدم المغربي الذي أريق على رصيف الخيانة، عند اغتصاب الأطفال، ثم على رصيف العاصمة، عند اغتصاب الحق في الألم.. من سمح بهذا العنف .. قبيل صدور قرار بأن القضية غلط في غلط. وأن العفو الملكي، لا يعني بالضرورة مسؤولية شخص الملك، كما يتضح من البلاغ. وكما عبرت عن ذلك ببلاغة الفنانة سمية أقريو؟ والذين مسوا في أجسادهم، وفي فلذات أكبادهم؟ والذين تعرضوا، بعد الأذى العاطفي للأذى الجسدي، بمناسبة الهجوم العنيف عليهم بالرباط بعد أن احتجوا؟ عندما سئل الشهيد أبو إياد، في المجلس الوطني الذي أعقب الخروج من بيروت: ما قولك في النساء اللواتي اغتصبن، وتم التنكيل بأجسادهن من طرف العدو؟ قال «هو جرح الشهيد والفدائية يصيبه في كل شبر من جسده.» وكذلك كان حال الشهداء والفدائيات الذين راحوا ضحية الوحش الإسباني.. كان الثمن كبيرا وغاليا ورهيبا كان فظيعا وجارحا .. لكن بجراحهم وجراح عائلاتهم تقدم المغرب خطوة كبيرة، وفتح موضوعا لم يفتح أبدا بهذه القدرة الهائلة على التغيير، وبهذه القدرة على تصحيح خطأ ارتكب باسم الملك. هي ليست مواساة، لأن المواساة لن تجدي، هو اعتراف بأنهم قدموا ثمنا لاتخاذ هذه الخطوة فلذات أكبادهم. بالرغم منهم صحيح، وفي غفلة من الضمير، ومن الأخلاق، وفي درب مليء بالظلام والعتمات. لكن لابد لنا لهم هذا الاعتراف والامتنان. هذا البلاغ، فرصة تاريخية لإسقاط تقاليد عتيقة ترفع التوقيع الملكي إلى درجة من القداسة لم تعد حاضرة بتاتا في ذهن الملك ولا في توجهه، كما عبر ذات دستور (القداسة لله وحده). الخطأ يدخل النسبية الإنسانية في القرار، وهو، من هذه الجهة، إمكانية لتنسيب الفعل الإنساني في السياسة، وأيضا مناسبة لكي توضع الصورة الحقيقة لكل مسؤول في تراتبية اتخاذ القرار. فلن يكون من المقبول أن تختفي وراء المسؤولية الأولى، أخلاقيا وإدرايا وسياسيا، المسؤوليات المترتبة قبلها. ليس من العدل، أيضا، أن تختفي في المسؤولية الكبرى كل المسؤوليات الأخرى، التي يعد بعض منها بمثابة خيانة للعهد وللثقة.. نعم خيانة للثقة، حين لا يتم القيام بها. كل مسؤول يدرك حقيقة المرارة عندما تتسلل الخطيئة من بوابة الثقة، ومن بوابة التسلسل في القرار. لقد كان قرار العفو، مطلبا سياسيا كبيرا في لحظات عديدة من تاريخ البلاد، وكانت القوى السياسية تعتبر أنه في حالات كثيرة يعيد تصحيح أخطاء السياسة، أو يعيد أجواء الشراكة السياسية من جديد..كما أنه كان ثابتا أن كل المذكرات السياسية تصر على العفو الملكي عن المعتقلين السياسيين، كمدخل لعلاج بقايا الرصاص وبقايا التحكم السياسي. ليست المناسبة للاستغلال السياسي لدم الأبرياء لتصفية حسابات سابقة عن العفو وسابقة عن الاغتصاب... وليست مناسبة لكي يخجل المغربي من مغربيته ويعد أشقاءه بالتنكر لما هو مشترك، لأن قرارا أمنيا وسياسيا خلف ضحايا (لو كان هذا هو المنطق لكان المغاربة أحرقوا أنفسهم جماعات وفرادى في سنوات الرصاص، والحمد لله أنه لم يكن وقتها من يهدد بإحراق بطاقته الوطنية، بل بمواجهة الاختلالات). المناسبة شرط، أيضا، لكي نقول، وبناء على البلاغ، أن الأمر لا يتعلق «بسوء تقدير ملكي»، في ما يتعلق بالقرار، بل أساسا بخطأ في إجراءات هذا العفو الذي صدر، أوما سميناه بالسلسلة التراتبية في متابعة القضية. شخصيا أصدق دم فدوى مروب، أصدق غضبة محمد الشوبي، أصدق، أيضا، دم الفبرايري ..في الطرقات، أصدق الذين رأيتهم أول مرة على قارعة التعنيف.. وأبتسم عندما أرى البعض وهم طريحو الأرض ( كما لو أنهم لم يقفوا منذ الاحتجاجات في .. ماي 2000. بعضهم أصبح يسقط، كما لو أنه يصاب بالرياح كلما رأى رجال الأمن. هؤلاء لا أصدق غضبهم بكل صراحة.. لا أصدق غضب من يمشي في المظاهرات بالشبشب.. أمام شاشة الحواسيب..! أصدق الأم التي غضبت في وجه البوليسي، أصدق هبة، وهي تصرخ في وجه رجل الأمن، المندهش للمرارة في لغتها. (في الحقيقة، في كل مرة وفي كل وقفة أرى حميد أمين . ممددا على الأرض احتجاجا أو اعوجاجا بفعل التدخل الأمني. وهي مناسبة لكي نقول له: أوقف .. معانا السي حميد. واش الاحتجاج اللي جا يلقاك طايح!)