لم يكن العقل المغربي في يوم من الأيام عقلا متحجرا. ولا كان ينساق بسهولة مع الشعارات البراقة، والأفكار والتوجهات بل ظل دوما مشبثا بهويته الدينينة، والوطنية، واللغوية، والثقافية، ولثوابته المذهبية من عقيدة سنية وسطية، وفقه مالكي، وسلوك تربوي معتدل، ووفيا لروح الانفتاح والتجديد والحرية والتحرر والإنصاف. ومن خلال هذه السلسلة سنتلمس جميعا مجموعة من مواقف علمائنا المستنيرين في مجموعة من القضايا التي تمس الجوانب العقدية، والفقهية والاجتماعية والسياسية... لنخلص منها إلى أن العقل المغربي دائما يشتغل في إطار المصلحة والأفق العام لقد تفنن الإنسان ومنذ زمن بعيد، وفي مختلف الحضارات في استخراج الخمور والمسكرات من الثمار، والحبوب، والعسل، واللبن .... عن طريق التعصير أو التقطير أو الطبخ. ولما جاء الإسلام لم يحرم الخمر دفعة واحدة بل تدرج في ذلك تدرجا. فنجح في تنفير نفوس المؤمنين منه إلى أن حرمه تحريما، لكن الفقهاء وأثناء تفصيل دليل تحريم الخمر وتحديد علة ذلك تباينت آراؤهم وتنوعت لا سيما أمام تعدد المواد التي تخامر العقل وتلعب به. فقد أحصوا من المواد الشيء الكثير. فهناك الباذق، والبتع، والأفيون، والطرطر، والطلاء، والمرقد، والسيكران، وجوز الطيب، والحشيشة، وماء الحياة، والرُّب.... وما إلى ذلك مما يصنف في دائرة ما يخامر العقل أو يذهبه. و شراب الرُب المعروف عندنا في المغرب والذي كان الناس يلجأون إلى شرابه في أوقات البرد القارس لتدفئة أبدانهم والاستعانة به على مقاومة شدة البرودة، كان يصنع من العنب العادي لكن بغير تعصير أو تقطير. ولكن كانوا يعمدون إلى طبخه، وتركه فوق النار مدة طويلة إلى أن يذهب ويتبخر ثلثاه ويبقى منه الثلث . والحقيقة أن مناطق كثيرة في المغرب كانت تمر عليها في السنة أوقات برد وزمهرير، وثلج وبرَد فلا تجد أجسامهم ما يدفئها سوى هذا الشراب المطبوخ من العنب طبخا مبالغا فيه إلى أن ينتهي بإزالة مائه ولا تبقى إلا عصارته. وهوالمسمى بالرب. فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الشراب فمنهم من قاسه جملة وتفصيلا على الخمر فقال بحرمة شرابه، ومنهم من رأى أن هناك فارقا واضحا بينهما، فالخمر عصير عنب بالتعصير، والرب عصارة عنب بالطبخ الكثير. ثم إنه لا يسكر مثل الخمر ابن غازي المكناسي والرب: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن غازي العثماني المكناسي عالم المغرب وفقيهه المتميز بمشاركته في العديد من العلوم والفنون فقد كان أديبا مع الأدباء، وفقيها، ومقرئا، ومؤرخا، وحيسوبيا .... حتى قال فيه القائل: تكلم في الحقائق والمجاز فما مثلك في الغرب يا ابن غازي توفي في مدينة فاس يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى عام 919 ه ودفن بالكغادين. لقد ألف ابن غازي في الخمر والماحيا كتابا نفيسا سماه «مذاكرة السيد أبي إسحاق بن يحيى في حكم الماء المنسوب للماحيا» وفيه تصدى لمجموعة من الأمور المتعلقة بالخمر والكثير من المسكرات والمرقدات والمفسدات. ومن بين هذه الأمور تطرق إلى حكم شراب الرب. يقول ابن غازي: « أما الرب المطبوخ على النار فروى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قدم إلى الشام شكا إليه أهل الشام وفي الأرض وثقلها وقالوا : لايصلحنا إلا هذا الشراب. فقال عمر: اشربوا العسل. فقالوا لا يصلحنا العسل. فقال رجل من أهل الأرض هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لايسكر؟ فقال نعم. فطبخوه حتى ذهب الثلثان، وبقي الثلث، فأتوا به. فأدخل عمر أصبعه ثم رفع يديه فأتبعهما بتمطط. فقال هذا الطلاء هذا مثل طلاء الإبل. فامرهم عمر أن يشربوه. فقال له عبادة بن الصامت أحللتها والله. فقال عمر كلا والله. اللهم إني لا أحل شيئا أحللته لهم» لقد أورد ابن غازي في كتابه عن ماء الحياة هذا الخبر وفيه ضمنيا توضيح لحكم شرب عصير الرب بدليل أن عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله وأمير المؤمنين أباحه للناس ومن باب أولى فإن إثبات هذه الرواية هو تأكيد للحكم الشرعي الوارد فيها .