تتيح لنا مجددا «فسحة رمضان»، العودة لمرافقة تفاصيل مذكرات الماريشال ليوطي الميدانية في المغرب بين سنوات 1912 و 1926، التي تعتبر سنوات حاسمة في إعادة بنينة وتحديث الدولة المغربية. وكنا توقفنا في الجزء الأول من ترجمة هذه المذكرات الهامة جدا، عند سنة 1916، ومنها نواصل رحلة الإكتشاف. الحقيقة أن هذه مذكرات هامة جدا، كونها تعنينا كمغاربة، عن كيف تشكل المغرب الحديث بعد احتلال فرنسا وإسبانيا لبلادنا، إثر توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912، والتي مرت ذكرى 100 سنة عليها السنة الماضية. وأهمية هذه المذكرات، ليس فقط أنها وثيقة تاريخية، بل كونها كتبت من صانع قرار، لم يكن عاديا قط في تاريخ المغرب الحديث، أثناء وبعد صدمة الإستعمار، الماريشال هوبير ليوطي، أول مقيم عام لفرنسا بالمغرب. لقد جاء إلى المغرب بعد سنوات قضاها في مدغشقر ثم وهران بالجزائر، ليمارس مهام المقيم العام ل 14 سنة كاملة. وهي أطول فترة قضاها مقيم عام فرنسي بالمغرب. ليس هذا فقط، بل أهميتها التاريخية أنها كانت مرحلة تأسيسية لشكل الإستعمار الفرنسي في إمبراطورية لها منطقها الدولتي في التاريخ، في كل الشمال الغربي لإفريقيا، هي الإمبراطورية الشريفية المغربية. وأن كل أساسات الدولة الحديثة قد وضعت في تلك المرحلة، على مستوى إعداد التراب، أو التنظيم المالي، أو القضاء، أو التعليم أو الفلاحة. ومن خلال ما دونه في مذكراته نتتبع بدقة كيف ولدت كل تلك الترسانة التنظيمية للدولة المغربية الحديثة، بلغة صاحبها التي لا تتردد في وصف ذلك بالعمل الإستعماري، المغلف بالدور الحضاري. وهي شهادة فيها الكثير من جوانب الجرأة الأدبية التي تستحق الإحترام. ثم الأساسي، أنه كرجل سياسة كتب شهادته وأرخ للأحداث عبر مذكراته الخاصة، من وجهة نظره، ولم يلد بالصمت، بل كان له حس تاريخي، يتأسس على إدراكه أنه يسجل كلمته للتاريخ. لقد صدرت هذه المذكرات أول ما صدرت سنة 1927، أي سنة واحدة بعد مغادرته المغرب (بقي مقيما عاما بالمغرب من 1912 إلى 1926). ثم أعيد نشرها سنة 1944، قبل أن يعاد نشرها من قبل كلية الآداب بالرباط منذ سنة إحياء للذكرى 100 لاختيار الرباط عاصمة للمغرب. لنستمع لصانع من صناع التاريخ المغربي الحديث والمعاصر، كيف يروي قصة الأحداث من وجهة نظره. أو كما قال الزعيم اليساري الفرنسي فرانسوا ميتران عن مذكراته الخاصة هو: «هذه هي الحقيقة من الجهة التي كنت أنظر منها». أي أن للحقيقة دوما جهات أخرى للرؤية والنظر، يكملها عمليا المؤرخون. * القنيطرة: 14 يونيو 1916 (تتمة 2) قال النقيب كودي كلمة منذ لحظات حول نيتكم تأسيس تجمع نعتبره مشروعا. ولقد تأخر ذلك قليلا، بسبب الصفة التي سوف نمنحها له، هل: «لجنة الدفاع». ومن يقول «الدفاع» يقول أيضا «هجوم». والحال أنه لا أحد يهاجم القنيطرة، بل بالعكس كلنا متحمسون لتنمية المصالح بها. بالتالي، لابد من توصيف آخر يترجم منطق «تنمية المصالح»، وهذا أمر سيسلس لوحده. ولقد أشار النقيب كودي، مثله مثل السيد أوزي، إلى قوة وحدتكم. وهذا مما يفرحني عاليا. لنرسخ أكثر هذه الوحدة، هذا مهم، لكن لنحافظ عليها، هذا أهم. والحاجة إلى الوحدة ليست ترفا عاطفيا، بدعوى أن كل شئ على ما يرام، بل إنه ترجمان لرغبة راسخة في النجاح. إذ تماما مثلما يحدث في أي آلة، فإن الإحتكاك والعطب يؤخر دورتها الكاملة وفعاليتها. وكل تنافس بين الأحياء والمواجهات الصغيرة، إنما تضيع وقتنا الثمين. إننا جميعا رجال مستعجلون، ولن نصل لنتائج مرضية سوى بالسير معا بتوافق واتفاق وأن ننتصر للمصلحة العامة على المصالح الخاصة. فضمن هذه الروح أرجو أن تواصلوا عملكم. (1) إنه في ظروف مماثلة، مع مساعدين ذوي فكر منفتح مثل الذين يحيطون بي، الذين تتلمذوا في نفس المدرسة التي كونتني، الأحرار من كل فكر بيروقراطي ومن وهم الزعامة، والذين هم رجال منجزات، يمكننا النجاح في مهامنا، رغم كل أسباب الإحباط التي تعطل عملنا يوميا، وتصعب من مهمتنا في القيام بأقصى الممكن، بذات الشغف الذي أراه يسكنكم هنا جميعا. أرفع نخبي لكم. * الرباط: 4 يوليوز 1916. السيد القائم بالاعمال [البارون كوفليي، عين ممثلا للمملكة البلجيكية بالمغرب، وقدم أرواق اعتماده للسلطان مولاي يوسف ? م - ].. إن الجميع هنا يحمل لكم نفس العواطف المتضامنة. فحضوركم يوقض في أفئدتنا، الصورة العميقة لبلجيكا البطلة، بلجيكا الجريحة والشهيدة. البلد النبيل الذي أعلى الشرف على المصالح. ومن منا نحن الفرنسيين، لا يستحضر بقلق ما كانت ستكون عليه فرنسا، لولا شجاعة بلدكم الذي وقف سدا أوليا أمام وضاعة العدوان الرهيب [للألمان]؟. وعلينا أن لا ننطق اسم بلدكم سوى مقرونا بعاطفة تقدير دينية واعتراف سام. وأسماء ملككم وملكتكم، أصبحت مقرونة بمعنى التضحية والواجب الأقصى. (2) إني أشكر السماء، على تمزامن مجيئكم إلى الرباط [قادما من طنجة]، مع وصول أخبار البشرى عن بداية انتصاراتنا الواعدة. في فيردان، حيث حزنا تقدير العالم، بفضل مقاومة أبطالنا منذ أربعة أشهر في هجوم مضاد، والذي تزامن مع نجاح القوات الروسية في الشرق والقوات الإيطالية في الوسط، ثم في الغرب بدعم من القوات البلجيكية نرى الإنتصارات الباهرة للقوات الفرنسية والإنجليزية.. وهذه الأخيرة، تجعل قلبنا وقلبكم ينبض أكثر غبطة، لأنها الأكثر التصاقا بمضاربكم ودياركم المستباحة. وما تمناه قريبا، بكل جوارحنا الجياشة، هو تطهير جيوشنا لأرضكم وتحرير كامل بلجيكا، التي سكنها الموت للأسف وانتشرت فيها المآسي والخرائب، لكننا موقنون أنها باعتماد على رصيدها التاريخي سيتقوم متعافية من أنقاضها، وأن البيت المدمر ستتم إعادة بنائه بسرعة، وأنها ستواصل سيرها المعتاد في درب الحضارة. إن شرف لي أحيي من خلال شخصكم الكريم تمثيلكم لجلالة ملك بلجيكا لدى السلطان الشريف، وأن أوجه تحياتي لزوجتكم الفاضلة. إني أدعوكم للوقوف لرفع نخب جلالة الملك ألبير وجلالة الملكة إليزابيث وسمو الأمير الملكي دوباربون ولكل العائلة المالكة، لبلجيكا وشعبها وقواتها المسلحة. * هامش: (1) ما يقصده الماريشال ليوطي هنا، هو حدة التنافس الذي ظل يميز العلاقة بين فصيلين من المعمرين الفرنسيين، بمنطقة الغرب، هما المعمرون القرويون الفلاحيون والمعمرون التجار والصناعيون بالمنطقة الصناعية للقنيطرة. كانت هذه الصراعات لا تنحصر فقط في الخلافات حول الأولويات الإقتصادية لمنطقة الغرب، بل أيضا حول حضور الدين في ذلك الخلاف. فالفلاحون المعمرون محافظون، وأغلبهم من الجنوب الفرنسي ولهم تقديس خاص للعائلة، فيما المعمرون المدينيون ليبراليون وأغلبهم ينحدر من مدينة ليون الصناعية والتجارية القوية حينها بفرنسا، التي اختارت القنيطرة وإنجاز ميناءها وسكتها الحديدية مع الشمال وفاس وطنجة، على الإستقرار بالدارالبيضاء، بمينائها الجديد، الذي هو عمليا مخصص للرأسمال الباريسي وللرأسمال القادم من بوردو. وهذا للحقيقة واحد من مجالات التنافس الإقتصادية المالية، بين المجموعات الصناعية والتجارية الفرنسية لم يسلط عليه الضوء كثيرا في علاقته مع المغرب، والذي بقيت له تبعات إلى اليوم. مثلا الدارالبيضاء، لا تزال على علاقة قوية بمجموعة بوردو المالية والصناعية وكذا مجموعة باريس، فيما مناطق أخرى من المغرب لها علاقات قوية مع مجموعات ليون ومارسيليا. (2) عمليا، لعبت بلجيكا دورا حمائيا لفرنسا في الحرب العالمية الأولى سنة 1914، كونها رفضت عبور القوات الألمانية من أراضيها لاحتلال باريس. وانطلقت عمليا المواجهات يوم 4 غشت 1914، بالهجوم الألماني المفاجئ والكاسح على موقع مدينة لييج، التي سقطت في 12 يوما فقط، ثم تلتها مدينة أنفير الذي سقطت بعد معارك شرسة مدمرة يوم 28 شتنبر 1914. ورغم محاولات القوات البجيكية فتح جبهة في الجهة الجنوبية لبلادهم مع الألمان، فإن محاولتهم العسكرية كانت فاشلة، مما اضطرهم للتراج غربا باتجاه فرنسا، أي باتجاه مدن فلانسيان وليل ودوي ودانكرك، التي تعتبر أهم التجمعات السكانية والعسكرية في الشمال الشرقي لفرنسا على الحدود مع بلجيكا. ولقد لعبت معركة فيردان الشرسة، والتي سقط فيها المئات من المجندين المغاربة في تلك الحرب من قبل جنرالات فرنسا، الدور الحاسم في قلب موازين الحرب، مما أعاد التوازن للمواجهات العسكرية ضد الألمان، خاصة بعد التدخل الإيطالي من الجنوب والروسي من الشرق والإنجليزي من الشمال. وذاكرة بلجيكا مع المحاربين المغاربة، التي ترتبط إعلاميا بالحرب العالمية الثانية، قديمة وتعود إلى معارك الحرب العالمية الأولى. علما أن حضور القائم بالأعمال بالبلجيكي إلى المغرب لتسليم أوراق اعتماده لسلطان المغرب مولاي يوسف، يترجم قدم العلاقات الديبلوماسية البلجيكية المغربية، التي كانت بمرتبة سفير ما قبل، حيث نجد دار بلجيكا في طنجة (مقر السفارة)، التي تعود إلى بدايات القرن 19. وكانت المبادلات التجارية بين أنفير ولييج مع المغرب قديمة.