كثيرةٌ هي الكتابات والتعليقاتُ والحَواشي التي أُلّفَتْ عن الرّسُول وزوْجاته: كمْ عددهنّ، وهلْ كلهنّ مسْلمات؟ وهل تزوّج عائشة حقّا وهي بنْت تسع سنين؟ وهلْ كانتْ له علاقة خارج الزّواج، أوْ ما كان يُطلق عليه اسم «أمّ الولد»، وما سببُ ذلك؟ إلى غيرها من الأسئلة. يمكنُ تقسيم هذه الكتابات والتعليقات، عُمُوما، إلى نوْعيْن اثنيْن: نوْع تمجيديّ لا يعمل سوى على تكْرار ما قاله القدماء، أوْ على الأصَحّ كتابات معيّنة للقدماء. وهو تكرار ينطلقُ من رؤْية تقديسيّة للتاريخ، بلْ وتجْهَلُ حقيقة التاريخ الإسلامي، ومختلف سياقاته السّياسية والقَبَليّة والدّينية والجهوية. هذه الحلقات ستكون عرْضا موضوعيا لما دوّنته السير النبوية وكتب الأخبار الأولى، القريبة جدا من عصر الرسول، قبْل أنْ تظهر كتب التفسير والتأويلات الإضافية. لقد تعددّت الروايات عن كيفية زواج الرسول بخديجة بنت خويلد بن أسد. ومعظم هذه الروايات، التي بدأتْ تُنسج تفاصيلها الأولى منذ أواسط القرْن الثاني للهجرة، تُضفي على هذا الزواج هالة قدْسية، وبالتالي جاءت الروايات مليئة بالتفاصيل التي تجعل هذا الزواج شيئا يسير في اتجاه مفارق للعلاقة البشرية بين رجل وامرأة. ومن المفيد الإشارة هنا بالضّبْط إلى الخُطبة التي كان ألقاها أبو طالب عندما خطب خديجة لمحمد قبْل أنْ يصبح رسولا. جاء في هذه الخطبة التي يوردها النويري في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب»، باب «ذكر تزويج رسول الله صلعم خديجة بنت خويلد» ما يلي:» الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعلنا سُوَّاسَ حَرَمه، وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس. ثمَّ إنّ هذا ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل لا رجح به فإنْ كان المالُ قلْ فالمال ظلّ زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة وبذل لها الصداق ما أجله وعاجله». البُعد الدنيوي، الذي أشرنا إليه سابقا، واضح جليّ في هذه الخطبة. فلا داعي، إذن، للوقوف كثيرا عند تلك التفاصيل، ولنكْتفِ بوصف الزواج في حدّ ذاته، وما ترتّب عنه من علاقات أفقيّة وعموديّة، بصرْف النظر عن فقْر محمّد وثراء خديجة، وشبابه وتقدّمها في السنّ. لنلاحظْ أنّ الأخباريين وكتّاب السيرة الأوائل، بخلاف المفسّرين والشرّاح وكتب القصّاص، التي ازدهرت كثيرا خلال الفترة العبّاسية وما بعدها، كانوا يبدأون بوفاة خديجة، ولا يذكرون زواجها من الرسول إلا في النهاية. فابن إسحاق في «سيرته»، ص. 227، يبدأ الجزء الخامس، الخاص بزوجات الرسول وأزواج بناته، بالعنوان التالي «وفاة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها»، ولا يتجاوز صفحة عنها يذكر فيها أنها توفيت في السنة ذاتها التي توفي فيها أبو طالب، وأنّ الله «يبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»، وأنّ عائشة كانت تغار منها لفرْط حديث الرسول عنها! أمّا البلاذري في «الأنساب»، فقد خصّص لها عشر صفحات كاملة، لكنها تهمّ تفاصيل أبنائها وبناتها وعائلتها، ولا يذكر زواجها من الرسول إلا في الفقرة الأخيرة، قُبيْل حديثه عن الزواج الثاني للرسول من سودة بنت زَمعة. وهذه الفقرة هي:»وكانت خديجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي هالة هند بن النباش بن زُرارة الأسيدي، من تميم، ولدت له هند بن أبي هالة، سمي باسم أبيه. ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فطلقها، فتزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم. وكان مسماة لورقة بن نوفل، فآثر الله عز وجل بها نبيه. وكانت خديجة ولدت لعتيق جارية، يقال لها هند، فتزوجها صيفي بن أمية بن عابد بن عبد الله، فولدت له محمداً. فيقال لنبي محمد بن صيفي بالمدينة « بنو الطاهرة «.». التفاصيل نجدها عن مفسّر ومؤرّخ مثل الطبري، حيث يقول في «تاريخه»، في «باب زواج خديجة»: «خديجة بنت خويلد كانتْ استأجرت محمدا ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة، والذي زوجها له خويلد، وكانت المرأة التي مشت في ذلك مولاة [عبدة] مولدة من مولدات مكة». وفي رواية أخرى أن خديجة أرسلت إلى محمد تدعوه هي بنفسها إلى الزواج، وكانت خديجة ذات شرف وكان كل قريش حريصا على نكاحها قد يبذلون في الأموال وطمعوا في ذلك فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل ونحرت بقرة وخلقته بخلوق وألبسته حلة حبرة ثمّ أرسلت إلى محمد في عمومته فدخلوا عليه فزوجها فلما صحى قال: ما هذا العقير؟ ما هذا الحبير؟ قالت: زوّجتني محمد بن عبد الله فقال: ما فعلت لا أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش فلمْ أفعل». غدا: زواج الرسول من خديجة قبل الرسالة.(2)