انتقلت في ساعة متأخرة اول امس من مشاهدة القنوات الإعلامية المصرية التي نقلت مباشرة من الساحات والميادين في القاهرة وغيرها من مدن مصر وقراها، وعلى امتداد ساعات ، الفرحة العارمة لجموع الشعب المصري بعد الاعلان عن قرار إقالة مرسي، انتقلت باتجاه القنوات الغربية العالمية، ارى كيف تقدم الحدث الكبير ، مبتدئا باكثرها اهتماما ومواكبة للموضوع ، واكثرها - كما يقال ويدعى- احترافية - اي قناتي (BBC القسم الانجليزي ) و CNN . كان اول ما فاجأني في القناتين معا وهي تنقل تعليق المعلقين تلك الكلمة التي تظهر في اسفل الشاشة عند استعراض عناوين الاخبار ، كلمة coup «انقلاب» وذلك في توصيف ما جرى في مصر !! في اشارة الى إقالة مرسي بعد اربعة ايام كاملة من نزول ملايين أبناء الشعب المصري من مختلف الطبقات والأطياف الى الشارع، في حركة تاريخية هادرة فاقت في كثافتها وعنفوانها ودرجة تنظيمها ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ذاتها . شعرت على التو بفورة غضب وامتعاض تعصر دواخلي وانا ارى هذا التوصيف الإعلامي البليد، المغرض والمتعسف، بصلف وسبق إصرار ، على الوقائع كما هي ماثلة على الارض . وازددت امتعاضا وانا أتابع تلك التحليلات النمطية والمعلبة لبعض من كانت تستقدمهم القناتان وتقدمهم كخبراء في الشأن السياسي المصري، ممن تحس وانت تستمع اليهم انهم يستظهرون محفوظات حفظوها عن ظهر قلب عن أحوال وأوضاع وتوازنات مصرية من عالم اخر غير ما نراه ، وحديث عن ديناميات سياسية غير تلك التي تجري ، هادرة مجلجلة ، يكاد يسمع صوتها حتى من به صمم . وتناسلت في عقلي التساؤلات بعد ان هدأت بدواخلي فورة الغضب والامتعاض من هذا الذي يسمى في أدبيات الاعلام desinformation الذي وقفت عليه كما قد تقف على اعمال غش مفضوحة تمارس امام عينيك : هل ضاقت مساحة الفهم الى هذا الحد على هؤلاء الإعلاميين الغربيين لدرجة لم يعودوا قادرين على التمييز بين الثورة الشعبية العارمة، وهي قائمة في مصر واضحة لكل من له عيون يرى بها، وبين الانقلاب العسكري ؟ كيف يخطئون النظر والنظرة الى هذا الحد وفي تراثهم السياسي القديم ، وفي ذاكرتهم التاريخية ما يسعفهم للعثور عن نقاط التشابه والالتقاء والقواسم المشتركة بين ما عاشوه من ثورات وما يعيشه الشعب المصري الان ؟ ألهذا الحد اختلطت عليهم الألوان والظلال وأسماء الاشياء ومسمياتها فلم يروا مثلا ان أولئك الشباب الرائعين ،التلقائيين ، المفعمين حسا مدنيا ووعيا سياسيا متقدا، من امثال محمود بدري منسق حركة تمرد وشاهين الناطق باسمها ، الذين أقنعوا ملايين الناس للنزول الى الشارع ، لم يحملوا اي زي عسكري، وان الفريق عبد الفتاح السيسي ، قائد القوات المسلحة المصرية أعلنها واضحة لا تحتمل اي تأويل منذ البدء، بان الجيش المصري لن يكون طرفا في دائرة العمل السياسي ،وان مهمته هي حماية الإرادة الشعبية ، ومنع ترويع الشعب المصري ، بأعمال جهالة قد تلجا اليها أطراف لا يرضيها التعبير عن الإرادة الشعبية؟ هل نسي أولئك الإعلاميون بعضا من أدبيات القانون الدستوري وقد كانت جزءا من تكويناتهم في معاهد التكوين والتي تقول بان السيادة للشعب ، ثم ألم يروا ان الملايين التي نزلت كانت تطالب اساسا باحترام هذا المبدأ المؤسس للديموقراطية كما هي مثبتة مدونة في الدساتير العصرية في بلدانهم ؟ هل هي العودة مرة اخرى الى منطق الكيل بمكيالين ؟ ثم نأتي الى السؤال المركزي : إعلاميو القناتين المذكورتين لا ينفكون يرددون ان الإقالة تمت لرئيس منتخب بطريقة ديمقراطية democratically elected ، ليكن ، لكن ماذا لو ان نفس هؤلاء الذين انتخبوه، عبروا بالملايين عن رغبتهم في وضع حد فوري لعقد الثقة الذي أوصله الى الموقع، بالنظر الى نتائج سياسته التي لم يعد الصبر على نتائجها، محتملا كما أظهرت لافتات المتظاهرين بكامل الوضوح . ترى ، في هذه الحالة، اي مسوغ قانوني او أخلاقي واي متن فكري ديموقراطي يمكن الدفع به لرفض اللجوء للانتخابات السابقة لأوانها ، كما فعلت جماعة الاخوان في مصر ، اذا كان هذا هو مطلب الأغلبية الساحقة من افراد الشعب ؟ أسئلة يوحي بها تتبع المعالجة الإعلامية في عدد كبير من المنابر الإعلامية الغربية اليوم لوقائع الثورة المصرية الثانية تجعلنا نشكك في موضوعية هذا الاعلام ومصداقيته، كما تجعلنا نرى كم يوجد هذا الاعلام على مسافة قريبة جدا من دوائر القرار الاستراتيجي في البلدان التي ينتمي اليها ؟ الظاهر اليوم ان الثورة المصرية الثانية أربكت الكثير من الحسابات، وعرت وافقدت التوازن للعديد من الترتيبات الاستراتيجية في الأوساط الغربية المقررة، وفي الولاياتالمتحدة بالذات، التي كانت قد ضبطت ساعة وإيقاع التعامل مع قضايا التطور السياسي في العالم العربي على فرضية الاستمرارية في الزمان والامتداد في المكان لأنظمة الاسلام السياسي درءا للحركات الجهادية المتطرفة، غير ان الحاصل اليوم والذي انكشف منذ ظهور المؤشرات الحاسمة لنجاح حركة تمرد ، وما اعقب ذلك من تهديدات أمريكية مبطنة بقطع المعونات، مما تناقله الاعلام، يبين ان الولاياتالمتحدة لا يريحها كذلك وبنفس القدر والقوة وصول أنظمة ديموقراطية مدنية عصرية الى الحكم في الأقطار العربية الوازنة كمصر . تلك هي الحقيقة الاولى التي تستشف من مواكبة ما يردده الاعلام الغربي وهو يقوم بتوصيف ما يحدث في مصر متباكيا على ديمقراطية يريدونها شكلية فيما يظهر خدومة، خنوعة ، نائمة لا تحرك ساكنا او تطور وضعا ،وتريدها الشعوب، وقد أفاقت على حقيقة حكم الاخوان ، ويريدها شباب الامة، ديمقراطية معطاء تبني اسس النهضة، وتبني حقاً اسس الندية مع قوى العصر . للإعلام الغربي بالطبع دوافعه في التوصيف المغرض لما حدث ويحدث في مصر الشقيقة، مما حاولنا ان نبرزه في هذه الزاوية، لكن ماذا عن بعض إعلاميينا وبعض كتاب الافتتاحيات ، مثل السيد توفيق الذي لم يتوفق في افتتاحية يوم الخميس 4 يوليوز الجاري بجريدة «أخبار اليوم» وقد جنح به الخيال الى استحضار سابقة بينوشي في سياق تحليله لملابسات ثورة مصر الراهنة !! تعددت المواقع والأمكنة والدوافع والحسابات، والمسلكية واحدة : رفض رؤية الواقع كما هو حينما لا يكون على المقاس، ومقاربة الاحداث بعيدا عما تقدمه مؤشرات هذا الواقع، والاستعاضة عن ذلك بما تتمناه النفوس، المبرمجة على التفكير المسبق والمعلب .