تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة المغرب في متخيل الآخر
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 28 - 06 - 2013

نظم مختبر « الدراسات المقارنة» سلسلة من الأنشطة الثقافية في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنساني أكدال / الرباط برسم السنة الجامعية 2012-2013 توجت مؤخرا بتنظيم ندوة دولية موفقة في موضوع» المقارنون العرب اليوم» تكريما للباحث سعيد علوش. ومن بين الأنشطة المنجزة تقديم الطبعة الثانية من كتاب « مغرب الأوقات الفرنسية» لعبد الجليل الحجمري سعيا إلى إضاءة جوانبه في ضوء المستحداث الثقافية وخاصة ما اصطلح عليه إدوارد سعيد بالتمثيل الثقافي. وفيما يلي مداخلة د.محمد الداهي.
تكمن قيمة هذا العمل(1) في قدرته على الصمود والاستمرارية عبر سيرورة الزمن دون أن يفقد بريقه العلمي أو ينحسر إشعاعه المعرفي. ومرد ذلك إلى اعتبارات كثيرة يمكن أن نذكر منها ما يلي:
1-يتميز الكتاب بصرامة علمية أهلت صاحبه إلى تناول القضايا الشائكة والحساسيات المتضاربة والأوهام المستفزة بهدوء ورصانة حرصا على اتخاذ المسافة النقدية اللازمة إزاء الموضوع المدروس، وتفادي إسقاط المواقف والانفعالات الذاتية عليه، ووعيا منه بالمخاطر التي تحف بأية مقاربة تندرج في إطار الدراسات المقارنة. ومن ضمنها أساسا « التداخل البين-ميداني المتوحش، والوطنية المفرطة (إن لم نقل نفسية الشعوب)» (2).
2-مازالت لموضوع الكتاب راهنيته في حضن الدراسات الثقافية والمقارنة التي تسعى إلى فهم الأسباب الكامنة وراء ترويج صور مغلوطة عن الآخر، وبيان انعكاساتها السلبية على تقارب الشعوب وتفاهمها وتفاعلها.
3-كل كتاب مكتوب بهاجس علمي يظل، مع مر الزمن، محتفظا بهيبته العلمية ومكانته المعرفية. وهذا ما ينطبق بالتمام على هذا الكتاب. نعاين في كل مفاصله وحواشيه الدقة والصرامة اللازمتين، وتحريا للمعلومات في مظانها ومصادرها، وسعيا حثيثا لفهم الظواهر المعقدة بعدة مفاهيمية مناسبة وبمنهاجية متسقة ومتدرجة وواضحة المعالم.
4-مما يسعى إليه الكتاب تحاشي النزوع الانغلاقي الذي يأسر الذات في إطار ضيق، ويحول دون انفتاحها إيجابا على الحضارات والثقافات الأخرى. وبالمقابل، يحاول تفكيك كثير من الأساطير والأوهام التي استحدثها الآخر لبواعث متعددة، لعل أهمها السيطرة على الذات وتشويه صورتها حتى تظل خاضعة وتابعة له لاستنزاف ثرواتها وطمس مقوماتها الثقافية. ورغم مضي وقت طويل عن صدور الطبعة الأولى للكتاب مازالت دعوته لقيام ثورة ثقافية صريحة وملحة لتحرير الذات من رواسب المرحلة الاستعمارية ومخلفاتها، وحفز المثقفين ، وخاصة ممن يكتبون باللغة الفرنسية، على نشر ثقافة مضادة تعيد الاعتبار إلى الذات وتخلصها من براثين الاستلاب والانمساخ .
يجد دارس صورة الآخر أمام جملة من القضايا المنهجية التي يمكن أن نختزل بعضا منها فيما يلي:
1-لا يمكن أن نجزم في هذا الفرع من الدراسات المقارنة ( وهو الصوريات) بعلمية المنهح المعتمد. فكل باحث يسعى، من خلال توظيف ترسانة من المفاهيم (على نحو الأسطورة، والصورة، والقوالب..) إلى استيعاب الصورة التي يحملها الآخر عن الذات بالصرامة المطلوبة وفي منأى عن الأوهام والقوالب والمعتقدات والتمثيلات المغلوطة.
2- من المخاطر التي تهدد الصوريات دعمها لانغلاق الذات واعتزازها بصورة مثلى عن نفسها، مما يدعم تنابذ الشعوب وتباعدها، ويعزز مشاعر الكراهية والبغضاء تجاه الآخر. وفي هذا الإطار جرد الباحث كثيرا من الأحكام والتصورات التي نأت بالنزعة الإنسانية عن أهدافها النبيلة ورؤيتها الأصيلة للعالم. ويدعو، في تزامن مع دعوة باحثين غربيين أنفسهم وفي مقدمتهم ليون فنون دي سييفر Léon Fnond?h Siefer ، إلى ضرورة التحري بالصدق والموضوعية لفهم الآخر على حقيقته وسجيته دون الاستخفاف به، والانتقاص من قيمته، وتجريده من إنسانيته.
3-رغم تغير منظورات الدراسات المقارنة وآفاق اشتغالها فهي لم تتحرر بعد من أسلوب الأسطرة La mythification الذي نهجه الغرب في تعامله مع الشرق . وتستمد هذه الأسطرة نسغها الغرائبي من عوالم «ألف ليلة وليلة» التي أثارت إعجاب الفرنسيين ودهشتهم بعد قراءتها مترجمة من لدن أنطوان غلانAntoine Galland,. والحالة هكذا ارتأى الباحث الرجوع ببحثه إلى منابع هذه الرؤية سعيا إلى اجتثاثها من منابتها واستئصالها من جذورها.
4- تذخر كل أمة صورا وأساطير باعتبارها أسلحة دفاعية يفرزها اللاوعي الجماعي للانتقام من الآخر بدعوى أنه يشكل تهديدا للهوية. وهذا ما يذر الملح في الجراح الرمزية والجسدية، ويصيب الذاكرة بجروح يتعذر معها إيجاد دواء ناجع يضمدها ويمحو آثار ندوبها.
5-يدعو المؤلف إلى فهم الذات والآخر على حد سواء تفاديا لسوء الفهم، وسعيا إلى تعزيز الحوار السليم بين الشعوب والأمم. وما يسهم في مأساة المعرفة والعلاقات البشرية هو أن معظم الباحثين ينهلون معلوماتهم من مصادر تؤطرها النظرة الغربية حيال الإنسان الشرقي عموما والمغربي خصوصا. وهي، في مجملها، نظرة جزئية وضيقة ومختزلة تحمل صورة مغلوطة عن الآخر. ولم يستطع الغربي التخلص من النظرتين المتناقضتين التي ينظر بهما إلى الآخر الشرقي. فهو مرة سجين النظرة الخيالية التي كرستها عوالم «ألف ليلية وليلة» في ذهنه ، ومرة منجذب للرؤية الواقعية التي شخصتها الرحلات التي قام بها أصحابها للشرق الغارق في مشاكل البؤس والفاقة والحرمان.
6-اختار الباحث متنا من أعمال حظي أصحابها بالشهرة والنجاح قبل أن يصبح معظمهم في طي النسيان. وهي أعمال تنتسب إلى أجناس مختلفة (الرحلة، ومحكي السفر، و الرواية، والاستطلاع، والاكتشاف). وما كان يهم الباحث منها ، في المقام الأول، بيانُ التأثير الذي يمكن أن تمارسه على الرأي العام بحكم ترويجها لصور وأحكام مشوهة عن المغرب. وفي هذا السياق علل الباحث مدى اختياره لأعمال بيير لوتي Pierre Loti منطلقا لبحثه ولعينة من أعمال هنري دو مونترلان Henri de Montherlant خاتمة له. ما حفزه على التركيز على المؤلف الأول هو كونه يمثل تتويجا لسيرورة ترويج الصورة الأسطورية والاثنوغرافية عن الواقع المغربي، ويؤشر، في نظر مؤرخي الأدب، على بداية لأدب الاستعماري. ويندرج عمل الثاني « وردة الرمل» (3) ، بعد خمس وثلاثين سنة على تحبيرها، في إطار تعزيز الصورة الغيرية التي تدحض الأحكام الجاهزة والمسكوكة عن المغرب. وإن اتخذت الصورة الأسطورية أشكالا وتجليات مختلفة عبر مراحل تاريخ المغرب الحديث، فقد ظلت محتفظة بعناصرها الجوهرية التي تستخف بالمغربي إلى درجة البهيمية. وهذا ما استدعى من الباحث جرد محتويات الصورة التي رسخها السياسة الاستعمارية بمختلف الدعامات والوسائل في ذهن الفرنسيين، وجعلتها معتادة في سلوكهم وممارستهم، ومستحضرة في وعيهم ومتخيلهم.
7- استند الباحث إلى ثنائيات مانوية مركزية لفهم طبيعة العلاقة المعقدة بين الغرب والشرق أو بين المركز والمحيط. ومن ضمنها نذكر أساسا ما يأتي:
- الأسطرة Mythification (ترويج أحكام وتمثلات مغلوطة عن الآخر) واللاأسطرة Démythification ( اضطلاع الذات بتصحيح التمثيلات المغلوطة المروجة عنها ).
-الغرب-الرؤية (ما ينشره الغرب من علوم وفنون مفيدة، ومن مثل وقيم ومبادئ نبيلة) والغرب- المظهر( يتجسد في نظرته الفردانية والاستعلائية التي تحول دون إقامة حوار حقيقي معه).
-الصورة الذاتية ( ضرورة قيام المثقف المغربي بتصحيح الصورة المغلوطة عن بلاده، وتسويق صورة بديلة عنها) والصورة الغيرية(ما يروجه الآخر عن المغرب من صور قد تكون محتملة الوقوع أو مجافية للصواب).
-الانغلاق ( غالبا ما تتحرك الصوريات في مجال ضيق يبعث على انكماش الذات على نفسها ومجافاتها للآخر ) والانفتاح( ينبغي للدراسات الصورية أن تنفتح إيجابا على الحضارات والثقافات الأخرى).
- تصفية الاستعمارDécolonisation(تمكن المغرب من إجلاء المعمرين والحصول على الاستقلال) واللاأسطرة الشاملة Démythification complète ( مازالت رواسب الاستعمار موجودة وهو ما يحتم ثورة ثقافية لتسويق صورة جديدة عن المغاربة).
- الوهم (ما يحمله الغربي من أحكام مسبقة عن الآخر، وغالبا ما يظل وفيا لها ومتشبثا بها في وصف ما يراه بالعيان ) والواقع (قد نجد من يتمرد على الصورة المسكوكة، ويكابد من أجل فهم واقع يتسم بالمناعة والانغلاق، على نحو ما تشخصه تجربة هنري دو مونترلان).
- نهاية الأدب الاستعماري ( انطفأ بريق الأدب الاستعماري بتصفية الاستعمار) ودوام الأسطورة ( وإن حصلت دول، على نحو المغرب، على استقلالها، فهي لم تتحرر بعد من رواسب الاستعمار وتمثيلاته الثقافية).
-الصورة(استعمل الباحث هذا المفهوم لما يتضمنه من إيحاءات موضوعية، على نحو صورة المغرب في الآداب الفرنسية) والأسطورة(استخدم هذا المفهوم لما يوحي به من إيحاءات ذاتية وانفعالية، على نحو الأسطورة البربرية في روايات موريس لوغلايMaurice Leglay، وأسطورة المغرب في الكتابات الفرنسية).
ما يمكن ملاحظته في مختلف الكتابات الفرنسية عن المغرب تكريس الرؤية الاثنوغرافية المشبعة بالدهشة والإثارة والغرابة حيال مختلف تناقضاته وأوهامه المتضاربة. ولأخذ فكرة عن مختلف الآراء المغلوطة حول صورة الإنسان المغربي يستحسن أن يستأنس ببعضها بالنظر إلى تموضعها إما قبل فترة بيير لوتي أو إما بعدها.
ركز الباحث بداية على بعض المؤلفات التي ظهرت قبل بيير لوتي. وفي هذا الصدد بأر بحثه على أسطورة الطيب المتوحش التي وظفها برنار دو سانت بيير في أحد أعماله (4)، ثم بين التناقض الوجداني الذي استثمره ألكسندر دوما في روايته(5) مبينا التأرجح بين العنف واللذة من جهة، وبين الانحدار والفظاعة من جهة ثانية، ثم أستجلى، في الأخير، هول المفارقة المتجلية، في نظر غابرييل شارم (6)، بين بداوة المغاربة وجهالتهم وانحطاطهم وبين تحضر الأوروبيين ورفعتهم وتقدمهم.
لما قام بيير لوتي بزيارة المغرب دون ملاحظاته وانطباعاته في كتاب يحمل عنوانا موحيا « في المغرب 1890». لا تكمن قيمه كتب بيير لوتي في وظيفتها الفنية بحكم ضحالتها ورتابتها، وإنما في قدرتها على مواكبة الأحداث وتشخيصها. وهي تروم اكتشاف المغرب من منظور آخر بدعوى أنه ظل مجهولا ومستغلقا على فهم الأوروبيين. وتمثل، بالجملة، « بوثقة تنصهر فيها عناصر الصورة الأساسية والمتناثرة في مختلف المحكيات المختلفة» ص 146. وتجسد برزخا فاصلا بين الرؤيتين الغرائبية والاستعمارية.
لما حل بيير لوتي بمدينة فاس لاحظ أن مظاهر الموت والشيخوخة تسم الحياة العامة بمختلف مرافقها وتجلياتها. ولم يتعامل مع العتاقة ( الأزقة الضيقة، الحيطان والأواب القديمة، البيوت المتهادية) بوصفها مآثر تاريخية وعمرانية وإنما بكونها ضربا من الانحطاط والدمار والتعاسة. وهذا ما جعله يعتبر مدينة فاس في أوج احتضارها ، ويقر أن الإسلام على وشك الاندثار النهائي، وأن أهل المغرب متوحشين وبدائيين. إنه، بدون منازع، نذير بالرؤية الحزينة للدمار التي أضحت ، مع مر الزمن، مختزلة في هذه العبارة الموحية « المغرب المحتضر». ويعبر لوتي أكثر من ألكسندر دوما عن الأدب الغرائبي الذي يضطرب بكل ما يتسم به هذا البلد من طابع كئيب وحزين» ص 166. لم يساور لوتي أدنى شك في كون أعماله تغذي المساعي التوسعية لتبرير حتمية تحضر مجتمع تحكمه البربرية وتسود فيه الفوضى، والتنويه بقيام الأوروبيين على تصحيح الوضع استنادا إلى معاييرهم الإنسانية والحضارية .
ظلت صورة المغربي المتوحش والعدواني راسخة في متخيل الفرنسيين إلى حد أنها أرغمت الكسندر دوما على تحويل مسار رحلته إلى وجهة أخرى مخافة تعرضه لمكروه ما إن تجاوز عتبة مدينة طنجة التي توجد على مشارف أوروبا المتحضرة. وكل الكتابات التي استثمرت هذه الصورة المشوهة عن المغرب كانت تهدف أساسا إلى بيان مدى ملاءمة استعماره بغاية تعميره وتهذيب أخلاق أهله وتعليمهم قيما جديدة عملا وسلوكا ورؤية.
تكرس مؤلفات الأخوين طارو ( جيروم وجون) صورة « أفريقيا اللعينة « لألكسندر دوما، وصورة « الكفن الداكن» لبيير لوتي، وصورة «الحقير» لأندري شورفيون André Chevrillon. لما زارا فاس عاين عدم وجود الحسين الحضاري والثفافي عند المغربي. وهو، في نظرهما، مجبول على الفردانية والعدوانية ، ومنغمس حتى النخاع في مظاهر اللذة والفسق. اندهشا لطريقة عيشه التي تزاوج بين متناقضات ومفارقات شتى؛ من ضمنها المقدس والمدنس، والعنف واللذة، والفردانية وعبودية جماعية. ولم يريا في الأزقة الضيقة إلا عنوانا لتناقض مظاهر الحياة العامة ،وتيه الأهالي وغموض طبعهم ومزاجهم.
لم تخرج رؤية كلود أوليي وسيمون دي بوفوار عن هذه النظرة التجزيئية والاستعلائية التي تستخف بالآخر وتحط من قدره وشأنه. فالكاتب الفرنسي، يتخذ-بمقتضاها- مواقف مسبقة وانطباعات مسكوكة عن الواقع عوض أن يستملي النظر إليه ويتحرى في معطياته لتبينه على حقيقته. « ينظر الكاتب إلى هذا الواقع لكن هذا الأخير لا يمنح نظرته إليه» ص242. إنها نظرة تقصي الآخر وتبعده لكونه مختلفا، وتعلي من شأن الذات محتفية بما تمليه عليها الغربة الغرائبية le dépaysement exotique وهو ما يدعم مشاعر الكراهية والاستعلائية والعنف تجاه الآخر, ويكرس كل ما يسهم في ترسيخ ضعفه وتخلفه وبدائيته وتوحشه.
ورغم مساهمة جورج هارديG.Hrady في ترسيخ الصورة الأسطورية عن المغربي فقد حذر من مغبة إصدار أحكام قاسية عن ذكاء المغاربة، وهذا ما يستوجب تصحيح النظرة السوداوية التي دشنها أندريه شوفريون وسارت في إثرها الركبان إلى أن أضحت ، وفق المؤرخ كوتييEmile Félix Gautier ، مكرسة عدم توفر الجنس المغربي على أية خصيصة إيجابية.
ترجع الأسطورة الشرقية سبب تقهقر العرب وانحدارهم إلى تشبثهم بالدين الإسلامي وفجورهم الأخلاقي. وفي هذا المضمار، يعتبر المغربي، بصفته عنصرا من هذه الأسطورة، متخلفا وخارج التاريخ نظرا لتشبثه بحقائق ثابتة، ومعتقدات جامدة.
وبالمقابل، صنع الفرنسيون للبرابرة أسطورة موسومة باسمهم (الأسطورة البربرية) لأهداف استعمارية وتنصيرية جسدها الظهير البربري بتاريخ 16 ماي 1930 لإحداث تفرقة بينهم والعرب. أشاد الكتاب الفرنسيون بالبرابرة لكونهم أحرارا وشجعانا وأقوياء وغير متدينين في حين استخفوا بالجنس العربي لاقتران كل الصفات المستبشعة به. ورغم اختلاف الجنسين فهما، في نظرهم، يشتركان في الطبع الحاد والعنيف والفوضوي. لقد توارت البرابرة هذه الطباع منذ قرون، وهو ما يعلل، في نظر موريس لوغلايMaurice Leglay، إمالتهم واستقطابهم حرصا على تهذيب أخلاقهم وتلقينهم مبادئ وقيما جديدة.
استثمرت الكتابات الفرنسية الصورتين الشرقية والبربرية تباعا وتدريجيا بهدف اكتشاف طبع أهل المغرب وطريقة عيشهم، ثم إحكام الطوق على رقابهم، وفرض وصاية عليهم إلى الأبد. وهذا ما يؤكده عبد الجليل الحجمري في هذه القولة: « أيمكن القول إن أسطورة الشرق الإسلامي المنهار مكنت فرنسا من الدخول إلى المغرب واحتلاله؟ لقد سعت ، بفضل النزعة البربرية berbérisme ، إلى توطيد وجودها بالمغرب، والدفاع عن مصالح جالياتها الأكثر إلحاحا، وإرساء دعامات نظام يتسم بكونه أكثر طموحا من نظام الحماية، ويضمن وصاية دائمة لفرنسا على المغرب» ص396.
نحت كتابات معينة منحى مغايرا محاولة أن تقدم صورة مغايرة لما كرستة الكتابات الاستعمارية عن المغرب. وفي هذا الصدد تندرج رواية هنري دو مونترلان « وردة الرمل». يعتبر العامل الوطني من العوامل التي حضت على تأخير نشر الرواية بطريقة جزئية عام 1954 و بطريقة كلية عام 1968. في نهايتها نعاين أن الضابط الفرنسي أولينييAuligny ، الذي كان مشبعا بالحقد على المغاربة إبان دخوله إلى التراب المغربي أول مرة، أضحى مقتنعا بإجحاف الفرنسيين في حق المغاربة وإذلالهم، ومعجبا بالحضارة المغربية التي تستحق، في نظره، التقدير والاحترام. وهو ما جعله ينأى عن الموقف العدائي تجاه المغرب ويرفض الامتثال لأوامر رؤسائه دفاعا عن العلم المغربي.
انزاح هنري مونترلان عن المسار الذي سار في إثره الأدب الاستعماري سعيا إلى فهم المغرب في منأى عن الأفكار المسبقة والأحكام المطلقة. لكن استحال عليه فهمه لتمنعه عن البوح بأسراره. وهذا ما يبين أن هذا الواقع يحتاج إلى رؤية جديدة لاستيعاب حقيقته وطبيعته. وقد استعار الروائي صورة شاملة لتشخيص صعوبة نفاذ الأجنبي إلى طوية المغربي وسريرته. وتتمثل جوانب من هذه الصورة في طبيعة العلاقة الغرامية التي جمعت بين الضابط وفتاة مغربية رحمة جنوب المغرب. بينما هو مشدود إلى النزعة الإنسانية الضيقة التواقة إلى توطيد ألفة مع الآخر، تبدو، هي على نقيضه، ميالة إلى الصمت والكتمان، ومنخرطة في « مقاومة صماء وتمرد بارد» ص 453.
مما تقدم نخلص إلى ما يلي:
1- لقد كرست الكتابة الاستعمارية عن المغرب صورة « الطيب المتوحش» التي بينت للفرنسيين أن مغرب ما قبل معركة « إيسلي» ليس هو مغرب ما بعدها. اتضح لهم أن المغربي فقد هيبته وأضحى مكسور الجناح يمكن السيطرة عليه دون عناء، والتحكم في زمامه كما يشاء.
2- وإن تحرر المغرب من الاستعمار مازال يعاني من مفعول الأسطرة التي تستخف بصورة المغربي وتنتقص من قيمته. ولم تعمل الظروف الحالية إلا على تعزيز مشاعر الكراهية والعنصرية والبغضاء حيال الآخر بصفته مصدرا للشرور التي يعاني منها الغربيون في عقر ديارهم. ومما ساهم في انتعاش هذه الصورة السلبية الدعاية الإعلامية التي تعمم صورة منحطة عن العربي بصفته إرهابيا وهمجيا. فرغم تغير الظروف السياسية مازالت الصورة الأسطورية محافظة على نفوذها ونسغها وإشعاعها. وهذا ما يتطلب من العرب أن يضطلعوا بثورة ثقافية هادئة ومستديمة لتغيير كثير من الصورة النمطية عنهم، وتنقية اللغة نفسها من كثير من الشوائب والألفاظ الجارحة والصادمة، وتسويق صورة جديدة تبين إرثهم الحضاري وحسهم المدني وسمتهم الإنساني.
3- وفي السياق نفسه، نعاين، أنه رغم ظهور أنماط جديدة من الرواية حمّالة لرؤى مغايرة مازال الكاتب الفرنسي ينظر بانبهار وإعجاب إلى المغرب لكونه» يسحره ويسحر شخصيات من بنات خياله بمفاتنه وأسراره، ويمثل، بالنسبة له، بلد الأسطورة، والأحلام المحيرة  والنافعة» ص471. مافتئ المغربي يدغدغ مشاعر الآخر، ويثير لديه شهية الاكتشاف. فهو، في نظره، يمثل حلما وكابوسا في الآن نفسه. وإن كان، فيما قبل بعيدا عن أنظار الفرنسيين، فقد أضحى- بفعل الهجرة- قريبا منهم، لكنه يعاني ، في عقر دارهم، من تمزق هويته، ويبحث عن مصيره وعلة وجوده في عالم ينزع أكثر إلى لفظ الآخر وإذلاله وإبادته.
4- ما أحوجنا اليوم إلى نقد مزدوج « ينصب علينا كما ينصب على الغرب، وبأخذ طريقه بيننا وبينهم» بحثا عن أرضية مشتركة للتفاهم والتآزر في منأى عن «(7) الاختلاف الوحشي» الذي « يقذف بالآخر خارج المطلق»(8)، ويروم تدمير هويته واستئصال مقوماته الحضارية والتاريخية. وفي السياق نفسه ما أحوجنا أيضا إلى وعي نقدي يكون عبارة عن استحضار متلازم ومتزامن لسيرورتين تاريخيتين، متحاشيا كل انكفاء وكل انغلاق لتجنب المواقف التبريئية والاستعراضية الرخيصة»(9)، ومدشنا حوارا حقيقيا يمكن من استدراك الوقت الضائع وتأسيس انتربولوجية حقة (10)
5- يصعب تفادي مفعول الأسطرة دون القيام بمبادرات جريئة دعما لبلاغة الإطفاء(11). ومن بين الأمور التي ينبغي التركيز عليها وتقويمها نذكر ، فضلا عن الإعلام، الكتب المدرسية لما ترسخه من صور سلبية عن الآخر. وهو ما يعمق جراح الذاكرة أو يحفز على استغلالها لأهداف إيديولوجية أو عرقية، ويسهم، أيضا، في انتعاش مشاعر الكراهية والعنصرية تجاه الآخر. وهذا ما يتطلب مراجعة شامل للمناهج التعليمية تفاديا لكل ما يمكن أن يجرح الآخر ويصدمه، ويروج صورة مشوهة عنه.
ختاما:
يتوفر الكتاب على كثير من المحاسن التي يمكن أن تسعف الدارس الأدبي على تعرُّف مجال الصوريات ومساعيها، وتبيُّن مخاطرها ومجازفاتها، وعلى معاينة طريقة منهجية، من بين طرق أخرى واكبت المستحدثات المعرفية، في استثمار المصادر المعتمدة، واستجلاء التمثيلات الثقافية والإيديولوجية التي اقترنت بالمغربي في محطات تاريخية معينة.
مازال الكتاب، رغم مضي سنوات على صدوره، محافظا على راهنيته، لكن يتضح أنه ركز، في معظم مفاصله، على الصورة السلبية للمغربي التي روجتها أقلام تخدم الدعاية الاستعمارية. ولم يعر المؤلف عبد الجليل الحجمري كبير اهتمام « لأصدقاء المغرب» الذين لم يتأقلموا فحسب مع أجواء المغرب، وإنما ناصروا الوطنيين المغاربة لاسترجاع حريتهم وكرامتهم وعزتهم. وعليه، كان حري بالمؤلف أن يعنون كتابه ب» الصورة الأسطورية للمغرب في الكتابات الفرنسية». وهو ما تعززه الصورة المثبتة على غرة غلاف الطبعة الثانية ( مدخل الحريم لجورج كليران Georges Clairin).
علاوة على ذلك وضع المؤلف كتبا متنوعة في مجالاتها وأجناسها ومواضيعها داخل خانة واحدة. وهو ما يقتضي من الباحثين الشباب، باستفادتهم من الكتاب نفسه ومن كتب أخرى، أن ينجزوا أبحاثا مونوغرافية تهم موضوعا محددا أو كاتبا بعينه مستفيدين من المستحدثات المنهجية والمعرفية التي راكمتها الدراسات المقارنة في العقود الأخيرة.
وفي السياق نفسه لم يستند الكتاب إلى منهجية صارمة لتحليل مفردات المتن، واستنطاق مضامينها وبنياتها. ومع ذلك يعد من الكتب السباقة لتناول موضوع التمثيلات والأنساق الثقافية التي يروجها الآخر (الثقافة الناظرة) على الذات (الثقافة المنظور إليها) بهدف تكريس تبعيتها وإدماجها في المركز. وهذا ما بلوره إدوار سعيد ، فيما بعد، مستثمرا مفهوم التمثيل الثقافي في سياقه ما بعد الكولونيالي. أضحت الشعوب التي كانت مستعمرة أن تعي أكثر من أي وقت مضى بأن استقلالها التام رهين بثورة ثقافية لتصفية الإرث الاستعماري، والتحرر من المركزية الأوروبية. ولقد تعززت الهيمنة الثقافية الغربية بالعولمة الضارية. وهو ما يستدعي من الكتاب، في موازاة مع اضطلاع الجهات المختصة بوضع مشاريع ثقافية واضحة وعملية، أن يردوا بالكتابة(12) لتصحيح النظرة المشوهة التي يروجها الغرب عن الذات، وتسويق صورة جديدة عنها دون انفعال أو مغالاة.
1 -Abdeljalil Lahjomri, Le Maroc Des Heures Françaises, 2édition Marsam et Stouky,1999.
صدرت الطبعة الأولى عام1968 بعنوان:
L?image du Maroc dans la littérature française de loti à Montherlant «
2 -Jean-Marc Moura »  l?imagologie littéraire, essai de mise au point historique et critique « in revue de littérature comparée, n?263, 1992, p271.
3 - Henri de Montherlant, la rose de sable, Gallimard 1968.
4 - Jacques-Henri Bernardin de Saint-Pierre, Empsaïl et Zoraide ou les Blancs esclaves des Noirs au Maroc ( 1905).
5 - Alexandre Dumas, Le Véloce 1844.
6 -Gabriel Charmes, Une ambassade au Maroc 1887.
7 - عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، دار العودة، بيروت 1970، ص 9.
8 - المرجع نفسه ص14.
9 - عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي،ط1، 1995، ص254.
10 - انظر المرجع نفسه ص 255.
11 -   يقصد  بول ريكور  ببلاغة الإطفاء الكتابة التي تمحو الآثار الجسدية والرمزية للألم عوض تخزينها في الأرشيف. انظر :
Paul Ric?ur, La mémoire, l'histoire et l'oubli, édition du Seuil, 2000,p654.
12 - انظر في هذا الصدد بيل أشكروفت وآخران ، الرد بالكتابة النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة شهرت العالم، مركز دراسات الوحدة العربية،ط1، 2006، ص24.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.