تقف العين مشدوهة، بقدر من التلصص اللذيذ، أمام عودة العري والتعري إلى الفضاء العام في سياق حركات معولمة عابرة للدول. وخلافا لعري «الطبيعيين»(naturistes) الذي يجنح نحو السلم والاعتزال والمصالحة مع الأرض خارج مدارات المدن، يلاحظ أن هذه ال»هوجة» الجديدة تمارس تعريها «الحضري» الناتئ بالنزوع إلى المواجهة والاحتجاج والصدام، وما يستتبعه ذلك من نقاش محتدم بين مؤيد ورافض، وبروزٍ إعلامي لافت ل»شعبوية تحليلية» تمتح جاذبيتها من قراءات مانوية تبسيطية للدين والأخلاق والسياسة. مع العلم أن النظر العلمي قد راكم ما يكفي من المعارف والمقتربات وأدوات التحليل الكفيلة بتناول مسألة عري الجسد في تمفصلاته القدسية والدنيوية المتعددة، وتفسير فعل التعري بما قد يحمله من إرادية في السلوك الفردي أو الجماعي، حسب رهانات وسياقات الاستعمال المختلفة. العري قيمة محايثة للجسد، منه تخلقت قبل أن تنتقل إلى سجلات مجازية أخرى، بحيث يتم استعارتها غالبا للإشارة إلى الطبيعة أو الحقيقة النيئة أو الفضيحة الصادمة أو كشف المستور المتواري، وغيرها... عري جسد المرأة أو الرجل لا يطرح في الغالب أي اعتراض إلا حينما يغادر الفضاءات الحميمة والمغلقة ويقتحم المجال العام المفتوح الذي هو مجال حصري للدولة والقانون و»الحس السليم» وغيرها من المؤسسات القسرية التي تتقاسم تدبيره. العري «النيئ» مسموح به استثناء داخل حمامات النساء ومراسم التشكيليين ومشارح الطب الشرعي... والجسد الغفل من اللباس أو شبه العاري لمَّا يخترق الفضاء العمومي قد يصبح موضوعا للتملي أو غرضا للاستيهام الغريزي، كما قد يغدو وسيلة لإحداث «الصدمة» وخلخلة البديهيات الزائفة وتفجير منظومة السلطة، وكذا دعوة مستفزة للتناظر السياسي والمجادلة بين الإيديولوجيات والبرامج على قارعة الطريق، بدلا عن الوسائط المعتبرة التي تملأ المجال العام وتجسر العلاقة بين الفرد والدولة. ذلك، أن الجسد يملأ حيزا أوسط أو عتبة بين المجال الخاص والشخصي وبين المجال الجماعي والعمومي. والحدود الفاصلة بين هذين المجالين ليست مرسومة بكيفية نهائية لا تتغير، بل تتأرجح حسب العصر والمجتمع، إذ هناك دائما تدافع بين ما هو حميمي وما هو متواضع عليه، خاصة فيما يتعلق بحضور الجسد داخل المكان العمومي المفتوح مثل الساحات والشوارع والشواطئ... وهذا التدافع الدائم يرتهن ويتفاعل مع ديناميات التحول التي تمس أنساق الثقافة ومنظومة القيم، ويكون له تأثير على محرار»سُلم الحشمة» الذي يُعتمد ضمن المؤشرات العلمية في قياس التحولات المجتمعية. فكلما انحسرت دائرة الحميمي أو الشخصي في تمظهراته الجسدية وامتداداته في المكان المادي والافتراضي كما تمثله اليوم شبكة «الويب»، إلاَّ واتسعت المساحات الخاضعة للحس المشترك حيث ينتفي الحق في الذاتية والاختلاف، ولا يفرد للكائن حيزا إلا إذا تماهى طي «طوطم» القبيلة أو الطائفة أو الحزب أو الجماعة. الجسد رهان أثير للسلطة والسلط المضادة بمختلف آلياتها وتجلياتها المجهرية (micro-pouvoirs ). وكل القناعات والاختيارات والتعاقدات، مهما بدت مجردة متعالية، إلا وتخضع لتَبَنْيُنٍ أو تسنين جسدي، بما في ذلك النماذج السياسية والاقتصادية والثقافية والقطائع الكبرى التي تشهدها الأنظمة والمجتمعات. ويذكر أنه خلال الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، كانت هناك حركة احتجاجية أطلق عليها اسم «بدون سراويل»، تجسد روح الثورة الرافضة للتقليد والمحافظة ونمط العيش الأرستقراطي. ونتابع اليوم كيف أن فرنسا تمنع «البرقع» و تضيق ذرعا باللباس الأفغاني في المكان العام لأنه لا يقدم صورة عن «جسد» المواطن الجدير بتمثل قيم الجمهورية. وثمة شبه إجماع، إعلامي على الأقل، أن جسد «البوعزيزي» المحروق ( وهو جسد عار كذلك) كان بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل الربيع الديمقراطي بتونس. ولم يجد متظاهرو ساحة «تقسيم» التركية سوى الرقص، مثنى مثنى، رجالا ونساء، على إيقاعات موسيقى «الفالز»، في مواجهة قمع الشرطة وما يعتبرونه نزوعا تيوقراطيا للحزب الحاكم.