تساؤلات كثيرة تحيط بوضعية المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر ، لا تتوقف عند حدود أدائها في تدبير القطاع الموكول لها وحصيلة عطائها وقياس مردوديتها ، بل تتعداه إلى مساءلة موقعها وانتمائها المشروع للمرحلة التي دخلها المغرب بعد اعتماد دستور 2011 تساؤلات كثيرة تحيط بوضعية المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر ، لا تتوقف عند حدود أدائها في تدبير القطاع الموكول لها وحصيلة عطائها وقياس مردوديتها ، بل تتعداه إلى مساءلة موقعها وانتمائها المشروع للمرحلة التي دخلها المغرب بعد اعتماد دستور 2011 ، والروح التي أرساها بتكريس مبدأ الديمقراطية كأرضية لكل تدبير عمومي، وحدد ربط المسؤولية بالمحاسبة كقاعدة ذهبية لكل إشراف على المرفق العام . اليوم وفي ظل الوعي الجديد الذي أرساه الدستور ، تبدو المندوبية السامية للمياه و الغابات و محاربة التصحر ، كيانا نشازا في منظومة التدبير العمومي بالمغرب، وجهازا موروثا عن مرحلة فقدت أساسها الدستوري ، مثلماأضحى التسريع بتصحيح وضعيتها ، و إخضاعها لمنطق مقتضيات الدستور ، وقاعدة المحاسبة والحكامة الجيدة التي يكرسها، مطلبا لجعل المغرب الجديد منسجما مع نفسه، وجعل كل المؤسسات التي تتولى تدبير المرفق العام مطابقة في جوهر اشتغالها وفي هيئتها القانونية مع ما تنص عليه الوثيقة الدستورية . يكثر الحديث عن المندوبية المذكورة، في الشهور الأخيرة، وترفع الدعاوى القضائية في شأنها ، لأنها أولا فاقدة لصلاحيتها الدستورية، وهذا أمر واضح ومحسوم فيه سنعود إليه . وثانيا لأن نوع الحكامة التي تنهجها في تسيير القطاع الغابوي، بعيدة كل البعد عن الحكامة الجيدة ، بما تقتضيه من شفافية وتشاركية ولامركزية في القرار . فالبرنامج الحكومي في مجال تنمية والحفاظ على الثروة الغابوية ، يظل فاقدا لشرعيته ، لأنه يخل بشرط أساسي يتمثل في المصادقة عليه من طرف المجلس الوطني للغابات ، وهو مؤسسة أحدثت طبقا لمقتضيات القانون 1.79.350 بتارريخ 20 شتنبر 1976 ، والذي ينص صراحة في البند الخامس على أن المجلس الوطني للغابات المشكل من عدة قطاعات حكومية ذات الصلة ومنتخبين .. ينعقد كلما دعت الضرورة إلى ذلك أو على الأقل مرة واحدة في السنة . لكن من الملاحظ أنه منذ تعيين المندوب السامي الحالي على رأس القطاع ، سنة 2003 ، لم ينعقد أي اجتماع للمجلس الوطني للغابات مما يزيل الشرعية عن كل البرامج والمخططات التي تنفذها المندوبية السامية للمياه والغابات ، والتي كان من المفروض أن تخضع أولا لمصادقة هذه المؤسسة . وهنا تبرز بحدة إشكالية الحكامة ، حيث أن ما ينفذ الآن من برامج قد تمت بلورته بشكل أحادي ، إن لم نقل فردي ،وهي حكامة تنبني على تجاهل صريح وواضح لمؤسسات لها دورها في ترسيخ الديمقراطية التشاركية، وكذا على مركزة للقرار في تناف مطلق مع توجه البلاد نحو اللامركزية . زد على ذلك ، وكما يؤكد كل العاملين بالمندوبية، وكذا المتعاملون معها ، أن قطاع المياه والغابات لم يعرف في تاريخه مثل هذه المركزية المطلقة ، التي يشهدها في ظل المندوب السامي الحالي . فمنذ 2003 لا أحد يستطيع من المصالح الخارجية أو المدراء المركزيين أو المعاونين المقربين ، يستطيع اتخاذ أي قرار دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن المندوب السامي هو المقرر في الصغيرة و الكبيرة . بل إنهم يعرفون جيدا أن مهمتهم بالمندوبية باتت هي أن يقولوا نعم للمندوب السامي و ينفذون ما يقرره . إلى درجة أن العاملين بالقطاع غدوا مقتنعين أنهم تحت إمرة سلطة لها كل مواصفات الحكم المطلق. هذا الوضع ينعكس على الثروة البشرية التي تخضع بالمندوبية لتدبير يتسم بالمزاجية المطلقة ، وبنوع من التدمير الممنهج لكل الكفاءات والخبرات المتواجدة بالقطاع . بل إن هذه المندوبية تكاد تكون الوحيدة من بين كل السلط الحكومية التي لا يعرف فيها أي إطار وأي مسؤول لماذا عوقب ، ولماذا رقي ؟ وأكثر من ذلك فاللجان التي تحدث لاختيار المسؤولين بالمندوبية، هي لجان صورية في أغلب الأحيان ، ولا يتم العمل بنتائجها ، بل إن المسؤول الأول بالمندوبية ضرب عرض الحائط وفي عدة مناسبات مقترحات اللجنة ، واختار أناسا آخرين لم يشاركوا أصلا في الترشح لتحمل المسؤولية . الخلل الذي تعمق أكثر بهذه المؤسسة التي ليس لها وضع دستوري اليوم في ظل الدستور الجديد ، و التي مازالت تفلت من مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، لكون المسؤول عنها لم يأت من اختيار سياسي يمكن للشعب مراجعته أو محاسبته أو معاقبته ، بل تقنوقراط يفهم أن إطار ممارسته لمهامه يتم بناء على تدبير فردي مفتوح ومطلق للقطاع ، هذا الخلل ترجمه أيضا التغيير الإداري الذي قام به المندوب السامي ، والذي سماه بمراجعة اللامركزية بالنسبة للمصالح الخارجية . مضت على تطبيقه أزيد من خمس سنوات . و لحد كتابة هذه السطور ، لم يخضع هذا التصور الجديد لأي تقييم ، خصوصا أن المتغيرات الأساسية فيه تهم الوحدات الميدانية التي لها علاقة مباشرة ويومية بتدبير القطاع الغابوي . وكل ما يلاحظ في هذا الميدان من قبل كل الشركاء في القطاع والعاملين فيه ، هو التخلي عن العشرات من الدور الغابوية التي لها تاريخ عريق ، والتي أصبحت عرضة للنهب والإتلاف دون أن تقوم المندوبية بأي مجهود لوضع حد لإهدار هذا التراث الثمين ، ناهيك عن ضعف التأطير الغابوي الذي أصبح واقعا ملموسا . والأدهى من ذلك ، فإنه خارج هذه النتيجة فإن ما سمي باللامركزية ، لم يصاحبه أي تدبير في عملية اللاتمركز ، بل إن العكس هو الذي يحصل . أما على مستوى تصور وبلورة البرامج، فإن ما يجري العمل به الآن، هو خطة سميت بالخطة العشرية التي تمتد من 2003 إلى 2014، والتي هي عبارة عن مجموعة من البرامج التي دخلت نوعا من الروتين ، نظرا لعدم مراجعتها أو تجديدها حسب التطورات الوطنية والدولية وكذا التغيرات المناخية . وما يدعو أكثر للاستغراب هو أن المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر ، لم تبادر قط إلى إطلاق أية عملية لتقييم هذه الخطة واستنتاج الخلاصات الضرورية من أجل تقويمها أو إعادة النظر فيها ، أو حتى للاطمئنان لنجاعتها، إن هي أثبتت ذلك . وحتى محاربة التصحر ، التي أضيفت كاختصاص لقطاع المياه والغابات ، منذ إحداث المندوبية السامية ، فالبرامج المنفذة في هذا الإطار لم تحمل أية قيمة مضافة . وخاصة إذا علمنا أن مجموع العمليات والتدخلات المشكلة لهذه البرامج كانت تقوم بها مصالح المياه والغابات قبل أن تضاف إليها مهمة محاربة التصحر . أما الوضعية غير الدستورية للمندوبية التي أشرنا إليها أعلاه ، فتتمثل علاوة على عدم انسجام طبيعة المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر ، مع قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة التي رسخها الدستور المعتمد منذ 2011 ، في مسألة التوقيع بالعطف ، حيث أنه ، وفي تعارض مع الفصل 47 و 87 و 90 من الدستور فالمندوب السامي يواصل التوقيع بالعطف رغم أنه غير وارد في تشكيلة الوزراء المخول لهم هذه الصلاحية . وما عزز هذا الوضع الذي يجعل من المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر نشازا على جميع المستويات، وإرثا فقد صلاحيته من مرحلة زال أساسها الدستوري ، كون اللجنة الوزارية الدائمة للتنمية القروية والمناطق الجبلية المُحدثة بمقتضى المرسوم عدد 2.12.624 بتاريخ الثامن من فبراير 2013 ، لا تتضمن في تركيبتها هذه المندوبية ، مع العلم أن القطاع الذي تدبره لا ينفصل عن مجال تدخل اللجنة الوزارية . إن النهوض بالقطاع الغابوي ، لن يتأتى عبر حملات التلميع الإعلامي ، ولا من خلال بناء هالة أسطورية محاطة بكل مظاهر البذخ المبالغ فيها لمسؤولها الأول ، ولا بالمركزة المطلقة للقرار في يد فرد يتصرف في القطاع كما لو كان ملكا خاصا به، وإنما يمر أولا من خلال تصحيح وضعيتها الدستورية، وربط تدبيرها بالقاعدة الذهبية التي كرسها الدستور ، والتي تعتبر مكسبا ثمينا للمغرب الجديد ، وهي ربط المسؤولية بالمحاسبة التي لا تعني فقط المحاسبة الفردية وإنما المحاسبة في بعدها السياسي . وإلا فستظل جزيرة معزولة عن السياق المغربي الحديث بمكاسبه وتحولاته ، فتنتهي لا محالة إلى فضلة تاريخية خلفها زمن انقضى ، تصلح لتكون عائقا أمام تطوير القطاع الذي تدبره والمساهمة في تدهوره، إلى أن تلفظها روح المرحلة التي تقوم على التوسع المسترسل للديمقراطية التشاركية الضامنة للحكامة الجيدة. وتلك مهمة حتمية لا يمكن تفاديها ، سينجزها المستقبل عاجلا أم آجلا .