كهواء دافئ تخرج أنفاسه، وكأنفاس دافئة يدخل الهواء، وكالندى يتساقط عرقه، وكالعرق يتساقط الندى من أوراق الشجيرات التي يخدشها بذراعيه وكتفيه فيمتزج وذاك المتناثر من أعشاب تدوسها بلا رحمة قدمان تركضان سعيا للتحرر من هذه الممرات الضيقة التي تتثاءب في الغسق أو تغفو في الشفق. تغفو في الشفق أو تتثاءب في الغسق هذه الممرات الضيقة التي تنسل من تحت قدمين قويتين تركضان فوق أعشاب تعانق التراب إذ تُداس وتحاول النهوض إذ تتحرر، وكالعرق يتساقط فوقها ندى الشجيرات وكالندى يتساقط فوق الشجيرات عرقُه، وكشجيرة بدا شعره الأشعث حين توقف كي يحدق هنا وهناك مترصدا حركة أي شبح أو طيف يعلن عنه هذا المحيط أوذاك الأفق. حملت إليه الرياح رائحة الرعب والموت وذكرى صداقة امّحت، ومزيجا من الشعور بالتيه والغثيان، ومع كل همسة تخدش مسامعه كان يرتعب متوقعا أن يباغت قلبَه نصلُ خنجر حتما سيوقف نبض الحياة والخوف والحب. حملت إليه الرياح رائحة أزهار الدفلى وذكرى لا تطاق لعطر المرأة التي قضت على صداقتهما، وكذا ذكرى شجرة البلوط التي شهدت اتفاقهما على هجر المرأة التي أحباها معا.. ذكرى الشجرة التي شهدت ضحكهما المجلجل حين اشترطا الموت جزاء للذي يخون العهد. كلاهما يعرفان أن قلبها الآن يتفطر.. كلاهما يعرفان أنها تتضرع إلى الله أن يمنع حدوث كارثة محتملة.. كلاهما يعرفان أنها أحبتهما معا مثلما أحباها معا، ودمرتهما معا مثلما دمراها معا.. كلاهما يعرفان هذا... ذاك الذي جاء إلى القرية بعد أن وصلته الوشاية، وهذا الذي يحاول الآن أن يغادرها بعد أن علم بقدوم الآخر.. ذاك الذي صفعها متوعدا، وهذا الذي ضمها إلى صدره مودعا... لكنها وصديقها المطارَد وحدهما كانا يعرفان أن الوشاية كاذبة وأن الآخر لا يمكن أن يصدق هذه الحقيقة... زارها الأول والثاني في زمنين مختلفين وغادراها في زمنين متباعدين... وبين خروج هذا وذاك ظلت تمد كفيها نحو السماء واثقة من أن الكارثةَ سيمنع حدوثها اللهُ وفارقُ الزمن. كلاهما ركضا في نفس الممرات الضيقة التي تفضي مباشرة إلى الطريق المهجور الذي تعبره بعض السيارات وقليل من الحافلات... كلاهما خدشا نفس الشجيرات وداسا نفس الأعشاب ودعسا نفس الحلزونات... وكلاهما أرعبا دجاج الأعمى الذي يقطن هذه الأحراش. لو أنه كان مذنبا لشعر أنه محق في هروبه ولكانت لشوكات الخوف التي تخز ظهره لذة تولد في نفسه أمل النجاة، لكن هروبه العبثي هذا كان يغوص به في أعماق مستنقعات الغضب وهو يرى أن كل خطوة يخطوها تكرس في ذهن صديقه/مطاردِه يقينا كاذبا بمصيره كخائن. كان يعرف أنه لازال محاصرا داخل دائرة الموت وأن مغادرته القرية تعني انسلاله من محيط الرعب هذا، ووداعا أبديا لترابها وأناسها وأيضا لنفسه. أخذ يحث نفسه على مزيد من الركض.. يشجع جسده المتعب.. لكن البرودة المفاجئة التي داعبت عنقه الدافئ شلت أقدامه.. شلت اندفاعه.. فقد أنبأته الأصابع الخمسة المطبقة على عنقه بأن كل شيء انتهى، وأن مصيره أصبح في قبضة هذه اليد، وأن الديك الذي أخذ يصيح لم يفعل ذلك إلا يعلن للكل نبأ هذه النهاية المفجعة. لو أنه حث خطاه قليلا لوجده لما يزل مختبئا في إحدى هذه الشجيرات.. لوجده لما يزل محاصرا داخل دائرة الموت فلا حافلة يمكنها المرور من الطريق قبل صباح الغد، هكذا فكر، لكن أقدامه التي كانت مندفعة أول الأمر أخذت تتباطأ عمدا وكأنه انشطر إلى نصفين نصف يود استعجال القضاء عليه ونصف متردد... مد يده لإزاحة غصن شجيرة فلامست أصابعه الخمسة عنقا دافئا وحين أطبقت يده على هذا العنق عرف أن الديك الذي أخذ يصيح للتو إنما يعلن لأهل القرية مصيره كقاتل. ظلت طول النهار تتضرع... لم تيأس ولم تتوقف عن الدعاء إلا بعد أن أخبرها الأعمى بأنهما لم يلتقيا ولن يلتقيا وأن المطاردة انتهت دون وقوع مكروه... ولم تقو ليلتها على فعل أي شيء سوى الإنصات إلى هذا الأعمى الذي أخذ يحكي لها كيف تزامن صياح ديك في الفجر حين امسك خطأ، عندما كان يتحسس طريقه بيديه، عنق صديقها الهارب، وكيف صاح أحد الأطفال عند الغروب مقلدا صياح الديك حين أطبقت، خطأ، يد صديقها الآخر على عنقه هو. وقبل أن يودعها أخبرها أن الرياح القوية التي هبت في الصباح والمساء كادت فعلا أن تقتلع جذور شجرة البلوط. ولكيْ تستقيم القراءة التي أقترحها، أبادر إلى القول إن الشكل الأليغوري الذي تتزيّا به رواية «النباشون» لا يندرج ضمن المفهوم المرتبط باستعمالاتها في القرون الوسطى، وبخاصة في القرن الثالث عشر، حيث كانت الأليغوريا تقوم على الترميز والتشابه لتأويل النصوص الدينية وتجسيد الأفكار والمواعظ، وإنما أقصد الشكل الأليغوري كما أعاد تحديده والتر بنيامين (1892-1940)، الذي جعل من العلائق، لا من التشابُه، أساساً للتعامل مع العالم الخارجي، للمزاوجة بين الصورة والفكرة، من دون ربط الواقع في الأليغوريا بالتاريخ. على هذا النحو، جعل بنيامين من الأليغوريا فضاءً للجدلية الصاخبة يتمُّ داخله الهدمُ والبناء وتنبثق فيه دلالات جديدة... قد لا تكون «النباشون» مُتطابقة تماماً مع تصوّر بنيامين للأليغوريا، لأنه يَقرنُها بالكتابة ذات النّفَس الشعري، التي لا تتوخى لغتُها التواصل وحسب... لكن «النباشون» تلتقي معه في تقليص البُعد التاريخي واستحضار الطبيعة في معناها الشمولي، وإدارة الجدلية من خلال سلوك ذوي المال ومُستغلي الدين وتحكمهم في رقاب الناس، وتشخيص انهيار حيوات المهمشين وإصابتهم بالجنون... كل ذلك يضعنا أمام شكلٍ أليغوري لا يكتفي بالرمز، بل يعتمد مبدأ الجدلية بين الشخوص، ويستنطق الصورة والتفاصيل بدَلاً من المفاهيم.