«الشاف بسام»، «الشرطي الأصفر»، «الشرطي الأمين»، «ذو الحاجبين»، «ولد الميمة»، «الشاف الساذج»، «الشاف كربوب»... إنها بعض من النصوص الغنية جدا، بكتابة ذات ألق إنساني رفيع، التي أمتعنا بها كتاب «شرطي ودراجة ? يوميات شرطي» للدكتور محمد الأزهر. معها نتقمص شخوصا مغربية، حقيقية، من لحم ودم، نكاد لا نعرف شيئا عن شرطها الإنساني، ونحنطها عادة في صورة نمطية لمهنة كثيرا ما تثير أسباب البعاد والنفور في مخيالنا الجمعي مغربيا، وهي شخصية الشرطي. وللتاريخ هنا أثره أكيد في ترسيخ تلك الصورة السلبية، بسبب أن جهاز الأمن في زمن ما، مغربيا، كان أداة التطويع الأولى للمجتمع من قبل الدولة. ومعنى أداة التطويع هنا، أنه جهاز تحول من مهمة نبيلة سامية لمعنى رفيع للتضحية والبدل من أجل سلامة الجماعة البشرية، وتحقيق الأمن العام، وتطبيق القانون وحمايته، إلى أداة لترويض المجتمع المغربي الناهض بعد الإستعمار. كون اللحظة المغربية، على امتداد القرن 20 كله، قليلا ما ننتبه، أنها لحظة للتحول هائلة وكبيرة. التحول من حال إلى حال، من مجتمع بداوة بسيط، إلى مجتمع تمدن معقد. ولعل أكثر عناوين التوتر في لحظة تحول تاريخية مثل هذه، هي أن صدمة الإستعمار قد جعلت قوتين هائلتين تتواجهان طبيعيا، منذ السنوات الأولى للإستقلال، هي قوة المجتمع الناهض الذي أراد ربح الزمن الضائع في التخلف وفي عدم التمكن من أسباب المدنية الحديثة (بكل ما توفره من خدمات واجبة). وقوة الدولة، التي تسعى إلى إعادة بنينة ذاتها داخليا، بالشكل الذي يحقق لها الإستمرارية ضمن شروط الدولة المركزية الحديثة. ولأنه كان لابد من أدوات للتطويع، حورت الدولة دور مؤسسة الأمن كي تصبح واحدة من أدوات التطويع والتقليم لقوة ذلك المجتمع الناهض. من هنا، تلك الصورة التي ترسخت عن بروفيل رجل الأمن، في المخيال العام، أنه «آلة صماء، للقمع»، أسقطت عنه إنسانيته. وفي كتاب «شرطي ودراجة»، مع توالي القصص والحكايات والتجارب والأسطر، تسقط متوالية الأحكام المسبقة الراسخة عن ذلك النموذج الواقف في مخيال كل واحد منا، الذي اسمه «الشرطي»، ويبدأ في البروز صافيا كإنسان. بالتالي، فهذا كتاب عميق للإنصاف لرجال هذه المهنة النبيلة والخطيرة، التي هي مهنة للتضحية والبدل والعطاء. وأن رجالها ونساءها، هم مترجموا، تحول القانون من نصوص في أوراق، إلى روح تسري في الدروب والطرقات. من هنا، قرأت الكتاب بمتعة متجددة مرتين. مرة لأتشرب فيها تفاصيل الحكاية (اليوميات)، ومرة ثانية لأتأمل اللغة وبينة التركيب وتقنيات الحكي. وفي كلا اللحظتين ترسخ لدي، ذلك اليقين الذي سكنني منذ سنوات، أن في صفوف رجال الأمن رجال أدب وكتاب من الطراز الرفيع. أولا لأن كتاباتهم تصدر عن تجربة حياة غنية جدا، بفضل ما تمنحه المهنة من ممكنات الإحتكاك بالواقع الفعلي للمغاربة في كافة أبعادة السلبية والإيجابية. وثانيا، لأن المئات من النزهاء منهم، يلجؤون للكتابة، ليس كتنفيس عن واقع ضاغط، بل كفسحة للتعبير عن تجربة إنسانية في نهاية المطاف، في لحظة زمنية من تاريخ المغرب، لها قصتها وشروطها الإجتماعية. فتتحول كتاباتهم تلك إلى وثيقة تاريخية سيكون لها معناها في القادم من الزمن، لأجيال قادمة من المغاربة، بعد خمسين أو مئة عام أو أكثر. تماما مثلما نقرأ اليوم، كتابات رجال شرطة في لندن في نهاية القرن 19، أو رجالات شرطة في برلين في أول القرن العشرين، أو كتابات شرطة في موسكو في أزمنة غابرة. قمة المتعة في قراءة الكتاب كانت في تفاصيل باب «الصراع الذاتي»، الذي ضم عناوين: «يوم أسقطني كلب»، «ليلة الوحدة والألم» (تليق مادة الحكي هنا موضوعا لسيناريو فيلم قصير بادخ)، «أوركسترا الضفادع»، «تسمم» و «المطلوب زيادة الوزن».. ففي تفاصيل الحكي هنا، نجد عمق التجربة الإنسانية لرجل الشرطة المغربي، المقاوم، بدون زاد مادي من أجل إنجاز مهمته كما يجب. ومن خلال هذا الكتاب الممتع للدكتور محمد الأزهر، أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية، رجل الأمن السابق (حارس أمن ثم مفتش شرطة)، أستعيد أسماء رجال أمن مغاربة آخرين، كتاب وشعراء، سعدت بقراءتهم والتعرف عليهم منذ أكثر من 25 سنة (بعضهم ظلت تجمعنا فقط الهواتف والرسائل المتبادلة، ولم نلتقي قط بشكل مباشر)، والذين يقدمون دليلا آخر، على معنى التحول المجتمعي والديمقراطي في المغرب، أن يتصالح الأمن مع دوره القانوني، وأن يتصالح رجاله مع شرطهم المجتمعي والإنساني، عبر الكتابة كتعبير إنساني رفيع. شكرا أيها المواطن المغربي، محمد الأزهر، أن منحتني متعة قراءة ومتعة تعلم ومتعة تقدير لتجربة مهنة كم تظلم من بعض أبنائها ومن المجتمع أيضا.