المخرجة التونسية المثيرة للجدل، نادية الفاني، تظل تتلقى سهام الهجمات من طرف إسلاميي تونس وسلفييها بسبب مواقفها وأفلامها. المرأة أعلنت عموميا أنها ملحدة وأنه لا يحق لأحد فرض اعتناق ديانة سماوي ما على الشعوب. وأن المعتقد أمر فردي لا حق للدولة إجبار أي من مواطنيها على الإيمان أو الكفر به. وأن الدولة المدنية العلمانية هي الضامنة بمفرها للحقوق الفردية والجماعية. وأم المطالبة بفصل الدين عن الدولة مجرد استعارة لغوية يلجأ لها العلمانيون الذين يهابون الدفاع عن أفكارهم مخافة إغضاب الشعوب «العربية الإسلامية» المحافظة. كما أن أشرطتها الوثائقية تولد الغضب، ليس في صفوف الإسلاميين والسلفيين الذين أن أعمالها تتضمن قدرا غير يسير من «سب الجلالة والاعتداء على الأخلاق الحميدة والنيل من الشعائر الدينية»، بل وفي صفوف «أصدقائها» الديمقراطيين والتقدميين الذين يعتبرون أنها تفتح معارك هامشية سابقة لأوانها. بمناسبة العرض الأول لفيلمها «لائكية إن شاء الله» ?الذي كان عنوانه الأصلي هو «لا ربي لا سيدي?، هاجم سلفيون قاعة العرض في العاصمة تونس، كما دخل حزب النهضة الحاكم وقطاعات حكومية مكلفة «بالأمن العقائدي» لشعب تونس على الخط، رافعة البطاقة الحمراء في وجه المخرجة «الصلعاء» وفي وجه توزيع فيلمها في تونس. في فرنسا، حيث تعيش اليوم مجبرة، التقت مجلة «نور» الحديثة النشأة المخرجة التونسية وأجرت معها الحوار الذي نقترح ترجمته على القراء، ليس لأننا متفقون بالضرورة مع مواقفها، بل لأنه من حقها التعبير عن رأيها والدفاع عنه، كما أنه من حق المعارضين لها نقدها فكريا، وليس عن طريق نصب مقاصل محاكم التفتيش، علما أن قطاعا واسعا منهم يدعي أنها «الشيطان» بعينه وأن مواقفها وأفلامها تندرج في إطار «مؤامرةّ كبرى هدفها «زعزعة عقيدة المسلمين»! ومجلة «نور» التي صدر عددها الأول مؤخرا في باريس، مجلة يديرها مالك شبل وتسعى إلى الدفاع عن إسلام للأنوار. لم يعد بإمكانك الرجوع إلى تونس منذ سنتين. ما الذي حدث؟ كنت أتابع العلاج ضد إصابتي بالسرطان بواسطة الأشعة في فرنسا حين تقدم ثلاثة محامين إسلاميين بشكوى قضائية ضدي. عدد الشكاوى بلغ إلى ست في المجموع، وهي تتهمني بسب الجلالة والاعتداء على الأخلاق الحميدة والنيل من الشعائر الدينية والتحريض على الكراهية بين الأديان. القانون الجنائي التونسي لا ينص على بعض هذه التهم، ومع ذلك فأنا مهددة بالسجن لمدة قد تصل إلى خمس سنوات. أنا أول فنانة تتم متابعتها منذ قيام الثورة لأنني تجرأت على التصريح في تونس بأنني ملحدة بمناسبة العرض الأول لشريطي «العلمانية إن شاء الله». الفيلم كان، في البداية، يحمل عنوان «لا ربي لا سيدي»، لكن موزعه الفرنسي قرر تغيير عنوانه. وبعد هذا العرض، تعرضت لتهديدات بالقتل. لقد نشر المهددون عنواني وصور ابنتي. وكنت بحاجة إلى سنة ونصف لأستطيع توقيف الصفحة المخصصة لشتمي على موقع الفايسبوك، لكن العديد من مثيلاتها مستمرة إلى حد الآن. أتهم حزب النهضة بالوقوف وراء هذه الصفحة والحملة التي جعلتها تنال ما لا يقل عن 45 ألف نقرة «أحب» في مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام. بذل الإسلاميون كل ما بوسعهم لمنع عرض «العلمانية إن شاء الله»، وذهبوا إلى حد اتهامي بمساندة بن علي. وحسبهم، فبن علي كان يدافع عن العلمانية، لكن هذا غير صحيح، حيث إنه سمح لأحد أصهاره بإنشاء إذاعة تبث القرآن على مدار الساعة، وبعدها قناة تلفزيونية أجهضتها الثورة في بدايتها. حين قررت جمعية «لا تمسوا مبدعينا» إعادة عرض شريطي في تونس العاصمة، هاجمت مجموعة من السلفيين قاعة السينما. الفيلم لم يتم عرضه في القاعات التونسية، لكنه متوفر على موقع بث أشرطة الفيديو «دايليموشن» وأقراصه المدمجة توزع سريا. لقد أصيبوا بالجنون. وهم يتهمونني بكوني الشيطان وبإرادة فرض الإلحاد. لا أعلم إن كنت سأظل على قيد الحياة إلى اليوم لو مكثت في تونس. تعرض فنانون وتقدميون لاعتداءات وتهديدات في المدة الأخيرة. هل لديك تخوفات إزاء الانتقال الديمقراطي منذ اغتيال شكري بلعيد، المحامي وزعيم الحزب الشعبي؟ لا أعتقد أن تونس ستعرف حربا أهليا على غرار ما عاشته الجزائر. لكنه، ومنذ اغتيال شكري بلعيد، أصبح عدد أكبر من الناس على وعي بالوضع السياسي. رغم أنني قلقة إلى أقصى حد، فأنا كذلك، وبشكل مفارق، جد واثقة لأن المجتمع المدني لا يظل مكتوف الأيدي. تونس هي «كل شيء ونقيضه». في كل مرة تبزغ إرادة الهجوم على حرية التعبير، يتم الشروع بمهاجمة المثقفين والفنانين. في السنة الماضية، تعرض المخرج نوري بوزيد للضرب بواسطة قضيب حديدي. وبمناسبة معرض الفن الحديث بالمرسى، في يونيو 2012، تم تعميم عناوين وأرقام هواتف وسيارات بعض الفنانين. لا أحد في تونس بقي يذكر اسمي حين يتعلق الموضوع بالتشهير بضحايا الهجمات الإسلامية. وحده راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي، يستمر في الحديث عني في خطبه وحواراته، وهو يتهم شريطي بكونه حلقة ضمن مخطط عدائي محبوك. وهذا يعني أنني وضعت أصبعي على مكمن الألم. من الصعب ألا أكون هناك، ومن العسير إنجاز أفلامي هنا، لكنه ليس لدي خيار آخر. في الوقت الراهن، لا يسعى حزب النهضة إلى إقامة الديمقراطية، وهو وظفها للوصول إلى السلطة. لقد انتخبوا مبدئيا لصياغة الدستور، وليس لممارسة الحكم. أما في الواقع، فهم يسعون إلى تغيير المجتمع في العمق ومراجعة التعليم وحقوق المرأة. في شريط «العلمانية إن شاء الله»، تشرحين أن الحديث عن الدين أمر مستعجل، ومعه مراجعة الفصل الأول من دستور 1959 ?تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها?. هل تعتقدين أن العلمانية هي الضامنة للحريات الفردية؟ يرتكز كل مجتمع حديث على قوانين مدنية تطبق على جميع المواطنين وتضمن لهم العيش جماعيا على أساس ديمقراطي. وبالموازاة، يمكن لأي واحد أن يختار احترام أو عدم احترام التعاليم الدينية. ليس من حق أي كان أن يفرض دينا معينا على شعب، معتمدا في ذلك كمرجع نصا كتب منذ 1400 سنة. كنت أتمنى أن يقف الكثير من التونسيون لإعلان إلحادهم أو إيمانهم بالعقل، لكن الإلحاد من أكبر المحرمات حين يكون الإنسان «عربيا-مسلما». كنت أستشعر أن تتولد عن تصريحاتي ردود فعل عنيفة وشتائم، رغم أنني لم أكن أتخيل أنها ستصل إلى هذه الدرجة. يتهمك البعض بأنك تخوضين معركة غير ذات أولوية... يعتقد العديد من أصدقائي الديمقراطيين والتقدميين أن الوقت لم يكن مناسبا. وأنا أرد عليهم بأن الوقت لا يكون مناسبا في أي حال من الأحوال. خلال حكم بن علي، كان يقال إن الوقت ليس مناسبا للتنديد بالديكتاتورية. ورغم هذا، فالشعب انتفض باسم الحرية والكرامة! بينما كانت أحزاب المعارضة مكبلة بفعل «التحالف الوطني». لقد كان بن علي يمنح تلك الأحزاب بعض المقاعد في البرلمان مقابل صمتها! وفي رحم حماس الثورة والشهرين التاليين لها، كان اعتقادنا راسخا بأن هذه الصفحة قد طويت نهائيا، لكن واقع بلدنا تكفل بكشف الحقيقة لنا. يجب علينا الوعي بأن الشعب محافظ وبأن الطلائعيين لن يستطيعوا التعبير والعيش بحرية في الأجل المنظور. إننا أهداف. لكنه ليس أمامنا خيار آخر. علينا أن نقود هذه المعركة كيفما كان الثمن. وإلا، فلا شيء سيتفتح في البلد، فنمو كل بذرة يتطلب آلاف الأفعال. لن ننتظر خمسين سنة للمطالبة بالعلمانية، ولقد انتقدت كثيرا أسلافنا لأنهم لم يفعلوا ذلك عقب الحصول على الاستقلال، فالوقت كان ملائما لذلك. أليس نعت العلمانية مولدا للتقاطبات؟ في تونس، يتم تفضيل استعمال مقولة فصل الدين عن السياسة. وهي استعارة للحديث عن مفهوم يظل، رغم كل شيء، جد دقيق. ويبين النقاش حول الزواج المثلي في فرنسا أن المساواة تقتضي التخلص من العنصر الديني. (...) حين أعلنت عموميا عن إلحادي، فقد كنت صادقة مع نفسي، كما أنني قمت بذلك لتوضيح أن لدينا مشكلة مع حرية المعتقد... يشاطرني بعض أصدقائي الديمقراطيين والتقدميين هذا التحليل، لكنهم يعتبرون أن الموضوع ليس من الأولويات، وأنه أصبح من المستحيل اليوم ولاحقا إثارة قضية العلمانية بسبب شريطي. إنهم يمتعونني بسلطة واسعة! والحال أن التقوقع في مطلب العدالة الاجتماعية لن يجعل التقدميين يتميزون على الإسلاميين. يجب القيام الإقدام على انشقاق واضح، لكنهم ظلوا جد متهيبين عقب حماس الثورة، فزعين جراء ما قاموا به وسعة ما ينتظرهم القيام به، ومشلولين بسبب إرادة الحفاظ على الوحدة، بينما يستلزم المجتمع الديمقراطي أن يكون تعدديا. يفتتح شريط «العلمانية إن شاء الله» بشعارات وأناشيد الربيع التونسي. ومع ذلك، فالأمل يتبخر بسرعة لأننا نشعر بأن التونسيين ليسوا مؤهلين للحوار. أليس كذلك؟ الشباب تائهون. المجتمع لا يمتلك أي قاعدة سياسية صلبة بعد عهد بن علي الذي استمر ثلاثا وعشرين سنة، بل وأكثر إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ولاية بورقيبة الذي انطلق متسلطا وانتهى ديكتاتوريا. خلقت هذه الخمسون سنة جيلين من التونسيين لا يتوفران على تربية سياسية، بل ولا حتى ديمقراطية. يجب القيام بعمل عميق حول التربية المدنية، ووسائل التعبئة والنضال، وأن نتناقش حول علاقتنا بالإسلام والحداثة. خلال نقاش تلا عرض «العلمانية إن شاء الله»، صرحت شابة من بين المتفرجين أنها لم تعد تعرف إن كانت مسلمة أو مسيحية، وهذا مذهل. أجل، إنه يقال لها من جهة أن المرأة التي تخرج من البيت فاجرة، ومن جهة أخرى أن كل من يؤدي الصلاة إسلامي! لم نعد نعرف أين نحن!