يوم الاثنين 13 ماي الجاري احتفلت مدينة الرباط بنفسها كتراث إنساني. لكنّ الاحتفال كان مغايرا، على اختلاف كل العواصم. الاحتفال كان بالإنصات للشاعر العربي الكبير أدونيس. و المبادرة كانت منذ البداية لمنتدى فنون، في شخص الأستاذة حنان بنّودي، التي استقبلت الشاعر الكبير و الإنسان الكبير أدونيس على أرض المغرب، حتى المجيء إلى الرباط لقراءة قصائده على أرضها التي تشبه كل الأراضي العربية المجروحة. في هذا الحوار، يثير أدونيس، ضيف المغرب الكبير، شجون العالم العربي وتوقه إلى الديمقراطية الحقيقية، الديمقراطية النوعية التي لا علاقة لها بأوجه الاستبداد التي عاشها ولا يزال. كما شدّد على أنّ المجتمعات لا تنهض ولا تتغير إلا إذا حققت القطيعة مع القيم و الأفكار و الثوابت والتقاليد التي أوصلتها إلى الحالة التي تشكو منها. والثانية هي أن يكون الصراع على الصعيد الاجتماعي لا أن يكون الصراع على تناوب السلطة. الشاعر أدونيس اسم كوْني، لكن عندما يحضر بيننا تحضر سوريا بلده، هل أسألك عن سوريا، عن أحوالها؟ هل يبلغك منها شيء؟ ماذا يبلغك؟ ماذا يلج إلى قلبك؟ منذ فترة لم أر سوريا إلا في الصور و على الشاشات. وإذا كانت لهذه الصور من معانٍ، فستكون هي التمزق و الحيرة و التساؤل: لماذا هذا الخراب غير الجميل؟ و من أجل ماذا؟ ما الغاية؟ ثم بعد هذه التساؤلات تتأكد لدي بعض الحدوس التي كنت أفصحتُ عنها سابقا شعرا ونثرا. وهي حدوس قائمة على أن المجتمعات لا تنهض ولا تتغير في اتجاه الأفضل إلا إذا حققت أمرين: الأول هو القطيعة مع القيم و الأفكار و الثوابت والتقاليد التي أوْصلتها إلى الحالة التي تشكو منها. والثانية هي أن يكون الصراع على الصعيد الاجتماعي لا أن يكون الصراع على تناوب السلطة. اليوم يتأكد لدي ما كنت دائما ألح عليه، و هو أننا نحن العرب إجمال،ا و سوريا مثالا حيا آخذه نموذجا على الرغم من تاريخه العريق الذي يرقى إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، وابتكر الأبجدية، و سمّى أوربا باسم إحدى آلهاته هي «أوروب». أقول إن هذا البلد بثقافته السائدة لا يزال بلدا ينتمي إلى العصور الوسطى. و العصور الوسطى بمناحيها السلبية وليس بمناحيها الإيجابية. ثم أكمل تمزقاتي الداخلية. ولا ينطبق هذا على النظام القائم فقط بل على القوى المتنوعة التي تعارضه، و التي تستند في معارضتها إلى قوى أجنبية، من بينها القوى التي استعمرته على مدى 400 سنة في الماضي، و استعمرته على مدى ربع قرن في العصور الحديثة. أستاذ أدونيس، عايشتَ خراب العديد من المدن العربية، بيروت مثلا. وهي مدينة طروادية تهدم وتبني نفسها باستمرار. هل ستكون سوريا بلدا طرواديا؟ هل سيبني نفسه بعد هذا الهدم و الخراب؟ أقول هذا لأتابع السهر على تمزقاتي. هناك، في سوريا، تعلمنا الأحداث العربية أن هناك نوعين من الهدم: هدم الكائن البشري من جهة، وهدم منجزات الكائن البشري من جهة أخرى. وما يحدث في البلدان العربية هو هدم مزدوج. وفي أثناء هذا الهدم هناك قوى أجنبية وغير أجنبية؛ فيها حصان طروادة وفيها عطب «أخيل»، و فيها الكثير من الرموز القديمة. التاريخ على المستوى الرمزي يكرر نفسه، بل يقدم بؤرا للإضاءة عميقة و كاشفة. ماذا يستطيع الشاعر أن يفعل أمام هذا «الهدم المزدوج»، أمام هذه «الرّموز القديمة» التي تعود و تكرر نفسها، فتتكرر معها المآسي؟ يستطيع الشاعر أن يتفهم هذه الأوضاع، و أن ينقلها من حالتها البدْئية التي هي إجمالا حالة بدائية. و يسلّمها، أو يضعها في اللغة لكي تضيء بدورها ما يجري. الشاعر لا يستطيع أن يغير، إنما يستطيع أن يحفز الذكرى و ينقل الصورة. و المفكر، و العقل، هل يستطيعان فعل شيء. فما يضحك الشاعر قد يبكي الفيلسوف. المفكر هو نفسه كالشاعر. يعني أن الشعر هو الفكر في أنقى توثباته أو يقظاته. هناك سلّمان اثنان للكشف عن أوضاع العالم: سلّم فكري، وسلم شعري، لا ينفصلان في طرق التعبير، بل في الماهية. عليك أن تسألني يا محمود: هل يستطيع؟ و ليس ماذا يستطيع؟ لأننا في حضارة قائمة على الرقابة على جميع المستويات. ففي عقل كل مفكر و شاعر يكمن جلاّد أو رقيب. عليك أن تسألني: ماذا نكتب؟ كيف نكتب؟ من مشكلاتنا في الثقافة العربية أننا لا نستطيع حتى الآن أن نسمي الأشياء بأسمائها. لأننا في ثقافة تقول لنا إن الأشياء سميت إلى الأبد، و إذا حاولت أن تسمي من جديد، أن تطلق أسماء جديدة فكأنك تحاول أن تدعي الألوهية، ثم تنهال عليك ضربات التكفير. لا أحد ينصّب نفسه، إلا في القرون الوسطى، مدافعا عن الغيْب و يفرض تصورا واحدا لهذا الغيب كما يحدث في ثقافتنا. أستاذ أدونيس، وجهت رسالة أولى ثم ثانية إلى الرئيس بشار الأسد، وهما رسالتان تشبهان الضوء، تنيران طريق رئيس عربي غارق في الظلمات. هل و صلت الرسالتين إليه؟ لا، لا أظن أنهما وصلتا إلى السلطة. لكنهما وصلتا إلى عدد كبير من الذين يقرؤون. وقد دار حولهما في الحين جدلا حولها. وبعض الذين رفضهما أو انتقدهما وجدوا، مع تطور الأحداث، أنني قمت بالفعل الصحيح. لماذا رفضوا توجيههما، فالوظيفة التاريخية للشاعر و للمثقف هو توجيه الرسائل للتصحيح؟ و لماذا قبلوهما في الأخير؟ لأن التجربة أثبتت صحة ما ذهبتْ إليه الرسالتان، إذا كانوا يؤمنون بالتجربة والواقع. إذا كان هذا الافتراض صحيحا. أنا أفترض فقط. ما زال أدونيس هو شاعر النقد. هل يكفي النقد في أوضاعنا؟ لقد ذهب لوننا بعيدا في القتامة. النقد في الوضع القائم لا يكفي. لا نستطيع أن نقول إنه يكفي. لكنني أعتقد أنه أسهم في زلزلة الواقع القائم، وفي إعادة النظر فيه. كما ساهم في تشجيع أشخاص آخرين على القيام به. كل كتابة هي في العمق فعل نقدي من حيث أنها تشير إلى وضع سيء من أجل خلق و ضع أفضل. كل كتابة تتضمن بعد التجاوز. الكتابة التي تعيد إنتاج الواقع هي كتابة وصفية. أظن أنه على هذا المستوى كان لكتابتي شيء من التأثير. نعم أنا أومن بذلك. ما هي المخارج المتبقية أمام المجتمعات العربية. هل جربنا كل المخارج؟ هل نحن في ورطة؟ هل نحن بلا نجاة؟ دائما هناك مخارج. لكن المهم كيف نتجه نحو هذه المخارج. الصراع العربي يبدو كأنه يدور داخل دائرة بدون أفق إلا أفق الهيمنة على هذه الدائرة. ومادام الصراع هو هكذا، كيف إذن سنتقدم مثل غيرنا؟ نحن نرث مشكلات عمرها 15 قرنا. و هي مشكلات و قضايا عولجت، و كانت لها، و رافقتها وجهات نظر مرتبطة بزمانها و مكانها، و عولجت ضمنهما، لكن ما تزال المشكلات قائمة. لكننا لا نزال نعاجلها بالأساليب التقليدية ضمن الدوائر المغلقة. يجب أن نكسر هذه الدائرة. كما يجب أن نعترف و أن نتواضع ونقول إن كلّ الحلول ليست موجودة في الدين. بل يجب أن نتجرأ ونقول إن هناك مشكلات قائمة في الدين. لا في الدين كرؤية للإنسان و رؤية للعالم، كتشريع و كسلطة وكسياسة. أعتقد أن مثل هذا الاعتراف سيكون له أهمية كبرى، لأنه سيخرج هؤلاء من التقوقع في القرون الوسطى، الذين يؤكدون على الممارسة الديموقراطية. الديموقراطية ليست كمية، ليست عدد أصوات. الديموقراطية ثقافة، حرية اعتراف بحقوق الإنسان، بالكرامة، بتحرير المرأة... وهكذا. عندما تكون الديموقراطية كمية، تصبح هي الوجه الآخر للديكتاتورية. عندما نفكر في معضلاتنا الفكرية والدينية تقف أمامي المدارس و الجامعات و المعاهد و مؤسسات العلم. هذا هو باب نجاتنا المتبقي. قبل كل المناهج التعليمية، لابد أن تكون هناك عقلية تؤمن بالتغيير و بالغد الأفضل. في الحياة العربية لا وجود لهذه العقلية. المعادلة في العقلية العربية هي هذه: إما أن تكون معي أو تكون ضدي. تصور مجتمع بكل تلويناته، فهل تكون هذه الممارسة فعالة؟ كل منا يعرف ذلك. ليس هناك شعب في العالم يختلف عن الحرية كما نختلف عنها نحن. نحن في البلدان العربية هذه هي معادلتنا: إذا لم تكن معي فأنت ضدي. فقبل التربية، عليك أن تقبل بالتعدّد و بالتنوع. عليك أن تقبل أن الواحدية هي الخطأ. في البدء كانت الكثرة لا الواحدية. الربيع العربي، الذي سرعان ما تحول إلى ربيع النار و الجثث. ما رأيك فيه؟ أول من صفّق وكتب عن الربيع العربي كما بدأ في تونس و القاهرة هو أنا. كتبت ذلك في جريدة «الحياة». بل قلت بعد فترة تحديدا بعدما استلم المتديّنون الحكم، اليوم يمكن أن يبدأ الربيع. لكنْ في جميع الحالات أنا أرى هذا الربيع كشف عن مدى تعفن المجتمع العربي. كان الربيع مناسبة كبرى للتوجّه نحو التحرّر. لكنْ عوض التحرر انكشف أمامنا هذا المستنقع الهائل الذي نعيشه، وقدرة الفرد العربي على الحفاظ العبودية و التبعية، وعلى رفض الاستقلال. الربيع العربي كشفَ أن العربيّ يرفض الاستقلال. هناك قدرة تريد من الأجنبي التدخل. هذا لا نجده في أي بلد آخر. ولكن للربيع العربي حسنات كثيرة، قبل كل شيء. خاض الكاتب و المفكر العربي برهان غليون تجربة، أو مغامرة، الثورة على بشار الأسد في سوريا. ما نتيجة مغامرته؟ يجيبك وضعه الراهن. ربما كان لابد من تنوير ديني و سياسيّ قبل هذه الثورات العربية؟ لكن للتنوير شروطه. هنا يصح نقد الثقافة العربية إجمالا. الثقافة العربية ليست ثقافة تعيد النظر في ما هو قائم، وفي الأسس التي ينهض عليها ما هو قائم. لا تجد مفكرا واحدا طرح سؤالا جذريا واحدا على المشكلات الدينية. ماذا لو طرحنا هذا السؤال: ما القيمة المعرفية للوحي؟ أيّ فيلسوف عربي طرح هذا السؤال؟ هل يعقل أن يكونَ هناك مفكر في مجتمع لا يطرح الأسئلة الأساسية على ثقافته. هذا لا نجده في ثقافتنا. سنظل ندور في فلك فكر تلاؤميّ، فكر مصالحة، فكرا تكتيكيا وليس فكرا استراتيجيا. والذين تجرؤوا مثل محمد أركون سرعان ما خفت صوتهم. هناك أيضا نصر حامد أبو زيد. نعمْ، لم يقل نصر حامد أبو زيد أكثر مما قاله الأقدمون. و أنت ترى ماذا فعلوا به. ابن رشد كان أكثر جذرية. على الصعيد الشعر يمكن قول الشيئ نفسه. إذن، لازلنا لم نطرح الأسئلة الجذرية على حياتنا ووجودنا وعلاقتا بالآخر. القضايا التربوية و التعليمية تفيد لكن بعد حل هذه المعضلات الجذرية. الثقافة العربية مجموعة انفصامات؛ تقرأ شيئا و تكتب شيئا آخر. تفتح قلبك لشيء و تغلقه على شيء آخر. مجموعة من الانفصامات المركبة داخل الشخصية ذاتها. الثقافة العربية حالىة سيكولوجية أكثر ما هي حالة استقصاء وتساؤل. في كل سنة يطرح اسم الشاعر أدونيس للفوز بجائزة نوبل. يجب أن يتوقف العرب كليا عن التفكير في الجوائز و أن يكتبوا و يسهموا في الإبداعات العالمية. آخر شيء يمكن التفكير فيه هي الجائزة. مشكلة الشاعر هي هل يبدع؟ و كيف يبدع؟ أنا، بهذه المناسبة، أحيي الفن التشكيلي العربي اليوم لأنه أكثر تحررا من المعوقات التي تكبل ثقافتنا. الفن التشكيلي العربي حقق منجزات عظيمة. هناك تشكيليون مغاربة و مصريون و سعوديون وعراقيون بشكل خاص. اللغة التشكيلية العربية أساسية و يمكن أن توضع مع اللغات التشكيلية في العالم. ما رأي الشاعر أدونيس في الشعر المغربي؟ فأنت من أكبر المطلعين على هذا الشعر. اذا كان هناك شخص عني بالشعر المغربي و بالثقافة المغربية فهو أدونيس، لأنه أول من وضع خارطة الشعر المغربي و أدخلها في الخارطة العربية. أعتقد أنني قدمت أشياء كثيرة للشعراء المغاربة، و كنت دائما أقول لهم لا تقلدونا نحن المشارقة، و أقصد التقليد الإيديولوجي و السياسي. أقول لكم حافظوا على تنوعكم ووحدتكم، وكونوا عازمين على صورة أخرى للعرب. الشعراء يعيشون معا كما تعيش أشجار الغابة. ليس هناك شجرة تنفي الأخرى، ولكن تعيش معها ولكل شجرة لونها و خاصياتها. لكن يبدو أنهم لم يسمعوا نصيحتي، فالعدوى العربية وصلت. لابد من كسر الواحد، الواحد عدم . الواحد يدعك تقفز إلى الأوحد و هذه مشكلة معقدة أكثر.