يفتتح يومه الجمعة (الخامسة زوالا)، بالمكتبة المتعددة التخصصات التاشفيني بالجديدة، معرض الفنان التشكيلي عبد الله بلعباس الذي يضم بورتريهات لكتاب مغاربة. المعرض يستمر إلى غاية 15 ماي الجاري، وهذه إضاءة له. سعيد عاهد يخبرنا الفنان التشكيلي الباريسي المنحدر من المغرب أن «الفرشاة عكاز أبيض لكل رسام يبتغي التقدم». يبدو أن خيمياء توارد الأفكار اشتغلت بين باريس والجديدة، إذ ها هو عبد الله بلعباس يمسك عكازه ليتقدم، ساعيا نحو قارات تشكيلية جديدة، قارات ذات جغرافيات مختلفة تماما عن جغرافيات تلك التي سبق له سبر أغوارها، بامتياز، بواسطة فرشاته، وخاصة قارتا الرسم بالنقط والتشخيصية الجديدة. استكشاف البورتريه، هي ذي الوجهة التي ينخرط فيها بلعباس في إطار تجربته التشكيلية الجديدة. لكن مغامرته هذه لا تروم التقاط ملامح كل من صادفه تشكيليا، بل تتمحور حول شخوص بعينها: الكتاب المغاربة، وهو انتقاء يزود مقاربته بشحنة طاقة غير مسبوقة. عبر الأعمال هذه التي يعرضها لأول مرة، رغم أنه يشتغل على تيمتها منذ مدة غير وجيزة وراكم في سياقها منجزا لم يقتصر على حمَلة القلم المغاربة، يسرد بلعباس للعين تشخيصه الذاتي، الثنائي البعد، لكتاب صادقهم في أيامه ولياليه، أو رافقهم عبر مؤلفاتهم. لا يكتفي بلعباس، حين يتسلح بالفرشاة، ويشرع في هندسة الخطوط والرسوم والبقع، ويتنقل في رحم درجات لوحة ألوانه، باستنساخ ملامح وجوه شخوصه، بل يضيف إلى هذه الملامح تأويلَه الشخصي للعلاقات التي تربطه/ ربطته بالكاتب المرسوم ولمنجز هذا الأخير. ومن ثمة، فبورتريهاته، حتى الأكثر واقعية منها، لا تخلو من لمسات وتعبيرات وملامح غالبا ما تكون مضمرة في الصور الفوتوغرافية التي يشتغل بلعباس انطلاقا منها، بل غائبة منها حتى. وكيف لا، وهو يوافق إتيين سوريو الذي يكتب في قاموسه الجمالي: «رغم كونه بصريا فحسب، فالبورتريه يستطيع إبراز الشخصية الداخلية لموضوعه بشكل ملموس، عن طريق مؤشرات عديدة...» اعتمادا على منظورية وجوه الكتاب المغاربة الذين اختار الاحتفاء بهم، ونظرا لكون الوجه «وعد بقدر ما هو معطى قائم» (جون هيليون)، يلجأ بلعباس إلى هذا السند أو ذاك: قماش، صفحات جرائد تتضمن نصوصا للكاتب المشخص أو صفحات من أحد مؤلفاته. وهذان السندان الأخيران يعكسان رغبة الفنان الجلية في عدم تخليد»الكائن الكاتب» بمفرده، بل ومعه «أثره». أثر تخصبه توابع الفرشاة وأصناف الحبر ومخلفات المشروبات المتداولة يوميا. أثر يحيد عن وظيفته الأصل (القراءة)، ليعيش حياة إضافية ذات منحى مغاير (صياغة النظرة). في بورتريهاته للكتاب، يوظف بلعباس اللقطات المقربة دون غيرها. وهي (البورتريهات) تكشف كذلك عن تعامله الذكي مع التعامد، التعامد الذي هو فرض عين للتملك الجمالي للوجوه: «نتعرف على الوجه أساسا عبر التعبيرات التي تمنحه الحركية، وهي التعبيرات التي يظل المحور العمودي أساسيا لتأويلها» (جاك نينيو). كيفما كان السند الذي يلجا إليه عبد الله بلعباس في أعماله المعروضة والذي يفرضه عليه تمظهر ملامح المحتفى به، فإن بورتريهاته للكتاب المغاربة دعوات لاستحضار وإنعاش الذاكرة: ذاكرة الذين كفوا عن الكتابة وبقوا منغرسين في حقلنا الثقافي (أوليس الإبداع قتلا للموت حسب رومان رولان؟)، وذاكرة الذين يؤرقوننا إلى حد الآن في انتظار مؤلفهم القادم. وكل تمثال من التي نحتها بلعباس في لوحاته، بتواطؤ لا ينضب مع الإنصات لنبض صاحب التمثال الإنساني والفكري، تحريض على الانتفاضة ضد الغياب، ضد بعد المسافات والنسيان. وجميعها مديح لغير المكتوب، لما لم يكتب بعد، ولما يتعذر وصفه في حضرة المكتوب.