1 درجةُ «خالي الذهن»، الذي يُوجَّه إليه الكلام خاليا من المؤكدات. وهذا مجال تقرير المعرفة في الكتب، أو تقديمها في الأقسام والمدرجات. 2ودرجة «المتردد» الذي يُؤكَّد له الكلام ويُدعَّمُ بما يُزيل تردده، ويدفع الشكَّ الذي يُساوره، 3ودرجة «الجاحد» الذي يُرصد له أقصى ما يمكن من المؤكدات والحجج لمحاصرته. وكلامي في ذلك المقال كان موجها لأعتى درجات الجحود، كان يواجه أشخاصا يقلبون الحقائق العلمية، ويرمون خصومهم بالكفر والمروق من الدين جَرَّاءَ خلافات سياسية مكشوفة. وأنا أفترض أن هذه البنية النحوية/المنطقية (بنية: ليس لا a ولا b) بنية منطقية مشتركة بين اللغات. وهي التي تَستعمل فيها الفرنسية أداة النفي ni مكررة. ففي مقام نفي رؤية شخصين يقال: Je n?ai pas vu ni l?un ni l?autre أي: لم أر لا هذا ولا ذاك. وفي الإنجليزية تلتقي أدوات النفي الثلاث (not... neither...nor) في جملة واحدة I have not seen neither one nor the other وفي الدارجة حدث ولا حرج: «ما تصدعنى! ما شتُّ لا هو لا خوه!». وقد سألت السيد ?و?ل عن المقابل الإسباني للجملة الفرنسية فقال: No he visto ni una cosa ni la otra. ورغم أني لا «أقْشعُ» من الإسبانية إلا ما «يُقشِّره» الشيخان من البلاغة فقد فهمتُ أن هناك ثلاثَ أدواتٍ للنفي في هذه الجملة: (no...ni...ni). أي الصيغة الفرنسية نفسها، وهذا يرجح أن يكون الأمر نفسه في اللغات العائدة إلى أصل لاتيني، مثل الرومانية (nu...nici...nici)، والإيطالية (non...né...né). أَرأيتما أين أقحمتُماني؟ أتمنى ألا يسخر اللسانيون ,والمناطقة من جرأتي على ميدان ليس من اختصاصي. قضية دلالة التكرار عميقة جدا وقد تطرقنا إليها في كتابينا: الموازنات الصوتية، وتحليل الخطاب الشعري في فصل: التمفصل الدلالي والتقطيع النظمي، وأوردنا كلاما للسيميائي الروسي يوري لوتمان ينفي فيه وجود التكرار أصلا، فحين نقول: «لا، لا، لن أنساق مع الاستفزاز»، فإن «لا» الأولى تفيد النفي والثانية تفيد التأكيد، أي أنها بديل للفعل «أؤكد». هل فهمتما شيئا؟ العمري لا يُكرِّر، بل يؤكد المعني ويُقلِّبه على جوانبه، وتلك مزية الكتابة الجاحظية. فتح الله صدريكما لسحر بلاغة التكرار في القرآن الكريم، وفي كلام العمري فهو متشبع به، وسالك لطريقه، ولن تعيبا شيئا من كلام العمري إلا وقعتما في الحرج. الدرس الرابع فشل الدفاع عن «حتى» لم يبذل الشيخان جهدا يُذكر في الدفاع عن أخطاء الخطيب نهاري النحوية، التي من أجلها ثارت ثائرتهما في الظاهر، لأنها حروقٌ من الدرجة الثالثة، لا علاجَ لها، بل برراها ببساطة الرجل، وخلطه بين الدارجة والفصحى. غير أنهما لم يطمئنا إلى هذا التبرير،فعادا، أثناء التطبيق، ليشككا في اعتراضي على رفعه الفعلَ المضارعَ الواقعَ بعد «حتى» في قوله: «»لا تمهلُك حتى تجعلُك..». تَوهَّما أنه ما دامت «حتى» قد أرهقت النحاة فلا بد أن توجد ثغرة، ولو صغيرة، في كلام العمري عنها. وبعد مضْغٍ وعلْك افترَضَا أن بوسع نهاريوليس بوسعهما هماأن يعترض بأن «حتى»(في قوله: «لا تمهلُك حتى تجعلُك.. «) قد ترفع المضارعَ كما رفعته في قوله تعالى: «وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ «. )البقرة 214). قبل دحض هذه المقايسة نُعطي القارئَ فكرةً أولية عن المُقاس عليه، أي الآية القرآنية، فنقول: من المعلوم الممارس أن رفعَ الفعل بعدَ حتى في هذه الآية ليس مَحلَّ إجماع، بل هو قراءةٌ واحدةٌ من بين قراءات، الرفعُ هو قراءة نافع وَحْدَه.لم يُخطِّئْه النحاةُ، بل اجتهدوا في بيان السر الذي حدا به إلى الرفع، فمنهم من عدَّه لهجةً من اللهجات العربية، ومنهم من اجتهد في تفسيره دلاليا ومقصديا من داخل الفصحى، فاهتدي إلى ماضوية الفعل، كما تشرح الفقرة الموالية. اعتمد اللغويون في تسويغ رواية نافع على اعتبار الواقعة الموصوفة من الماضي المنتهي: حَلَّ فيها الفعلُ المضارعُ محلَّ الماضي، حل «يقول» محل «قال». على تقدير: وزُلزلوا حتى قال الرسول؟ على اعتبار أن ذلك وقع في الماضي. فهذا التأويل (المناسب للآية القرآنية) غيرُ ممكن في جملة نهاري الممتدة نحو المستقبل، لا يمكن أن نقول: «لا تمهلُك حتى جعلتْك». لا يمكن ذلك إلا بتحويل الفعل الأول (تمهلُك) إلى الماضي ليصير: «لم تمهلْك حتى جعلتْك». وهنا تغير كل شيء، ولم تصبح الواقعةُ هي الوقعةَ. لقد وَضع النحاةُ شروطا لهذا الاستثناء، وهي لا تنطبق عل قول نهاري، ولذلك فهو خطأ صريح2، إذ قياس مع وجود الفارق، كما تقولان حين يحلو لكما. أستعيرُ هنا صيغة من صيغ المرافعات أمام المحاكم، وإن كانت حجتي دامغة، فأقول: إذالم يُعجبكما كلامُ العُمري، لأنه ليس إماما ولا شيخا، فلا مَفرَّ لكما من تَجَرُّع كلامِ الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره، لا بأس بمرارة الدواء، قال: «وفي قوله: «حتى يقول الرسول»، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومَن رفعَ فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه»فعَل» أُبطل عمل»حتى» فيها، لأن»حتى» غير عاملة في»فعَل»، وإنما تعمل في»يفعل»، وإذا تقدمها»فعَل»، وكان الذي بعدها»يفعل»، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في»يفعل» وإبطال عمل»حتى» عنه، وذلك نحو قول القائل: « قمت إلى فلان حتى أضربُه»، والرفع هو الكلام الصحيح في»أضربه»، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربتُه، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل»حتى» من الفعل على لفظ»فعَل» متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب»يفعل»، وإعمال»حتى»، وذلك نحو قول القائل: «ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك = وجعل ينظر إليك حتى يثبتك»، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ ب «حتى»». قال الشيخان إن نهاري رجل «بسيط»! ومع ذلك اقترحا عليه أن يعترض بما لم يعترضا به وهما «مركب»: (شيخ +شيخ = شيخين ونصف)3. وأقول، في مستوى آخر من النقاش: لو صح قياسُ كلام نهاري على قراءة نافع، وأقصد ما أقول، لجاز لكل مجترئ أن ينصب اسم «إن» مَتَى شاء قياساً على قراءة: «إن هذان لساحران»، وهي ليست القراءةَ الوحيدةَ للآية، ولم نسمعْ بهذا بعدُ. لقد استنتجتما، سدد الله عقليكما، من تعليقي على «حتى» في كلام نهاري أن «معلومات العمري في النحو قليلة..»، فما رأيكما في معلومات الطبري؟ معلوماتي في النحو قليلة، هذا شيء أكيد، ولكنها كافية لكشف أساليب التدليس. ل»حتَّى» استعمالاتٌ كثيرةٌ سيكون من التشغيب على القارئ الخوضُ فيها في هذا السياق، الباب يُحرز، كما قال الفقهاء. نترك الاستطراد غير المفيد للحشويين الذين يخوضون في كل شيء بمناسبة أي شيء، معتقدين أن في ذلك دلالةً على اتساع المعرفة. الدرس الخامس كتابة أسماء الأعلام أ : القرويين أم القرويون؟ مِنْ أغرب مآخذ الشيخين طلبُهما تغييرَ اسم القرويين ليصبح «القرويون»! وهذا لمجرد أنهما اكتشَفا، يا للنباهة، أنهُ في موقعِ اسمِ فعلٍ ناقصٍ (كان)، وتذكَّرا، بالمناسبة، أن أصل الكلمة هو «القيروانيون»! وربما يودان الرجوع إلى هذا الأصل، فهو ليس أبعد من العصر الجاهلي بالنسبة للسلفية التراثية! ومع ذلك فهذه هي المسألة الوحيدة التي سأتعاطف مع الشيخين فيها، وسأوقع على أي طلب تقدمانه بشأنها حتى لا «يخرجا من العرس بلا حمص». يا أخوي الكريمين! لقد أخطأتما العنوان! هذا الطلب تُوَجِّهانه إلى الجهة المعنية..! توجهانه إلى المجلس البلدي، إلى رئيسه السيد شباط، سيتعاطف معكما لاعتبارات موضوعية، وَجِّها طلبكما إلى وزارة الأوقاف، أو وزارة التعليم، وجِّهاه إلى السيد رئيس الحكومة.. هذا ليس شأني. القرويين اسم جامعةٍ، اسم مدرسةٍ، اسم مسجدٍ، كلمةُ «القرويين» تُحيل على هذا المجموع (جامعة القرويين، مدرسة القرويين، مسجد القرويين). الفاسيون يقولون: القرْويين، بدون زيادة، وبعض الفاسيات يقلن الْأرْويِّين. هذا اسمُ علم موقوف على تلك الصيغة، وزاد من توقيفه دخوله للحاسوب، إذا سألت الكمبيوتر عن «القرويون» فمن المفروض المتوقع أن يأخذ بيدك ويرمي بك على الضفة الشرقية لنهر سبو، أي إلى البادية حيث يعيش القرويون، إلا إذا عبث عابث بذاكرته. ومادمتما قد اعترفتما بوجود تخريج لتلك الصيغة (عن طريق التقدير الذي سميتماه «الحكاية») فما الداعي إلى كل تلك المماحكة؟ كراهيةُ الحشويين للتأويل والتقدير، أو عجزهم عنه لا تلزمني. ببن حمزة، أم ابن حمزة، أم بنحمزة؟ وما قيل عن القرويين يُقال عن كتابة اسم الفقيه بن حمزة الذي عابا علي كتابته بدون ألف في قولي: «خرج بها الفقيه بن حمزة». والواقع هو أني كتبتُه بالطريقة التي يُنطق بها في وسائل الإعلام، وفي الندوات، وعند أصدقائه ومعارفه: بَنْ حمزة. وأنا حريص على ذلك. ولم أسمع قط أحدا يدعوه: ابن حمزة. فحين يتعلق الأمر بالألقاب نلتزم بما اختاره الشخص أو أُخْتيرَ له، طابقَ الإملاءَ أم خالفه. فعندنا: ابن عبد الله، و بن عبد الله، و بنعبد الله. وعندنا: خالد، وخليد...الخ والسبب في ذلك هو الحرص على تدقيق الهويات، والاستجابة متطلبات البحت في المعاجم والموسوعات، والإليكترونيات الحديثة. وقد اعتمدتُ فعلا على ما هو شائع على الشبكة العنكبوتية، ويكفي أن تُ?وْ?لا عبارة «الفقيه بن حمزة» لتتأكدا من صواب اختياري. ومستقبلا سأحترم اختيار الفقيه الذي اطلعتُ عليه هذا اليوم في موقعه وهو: بنحمزة. إذن المشكل الآن بينكما وبين الفقيه بنحمزة: انْزَعا منه صفةَ العالم، كما نزعتماها مني، لأنه هو الآخر لم يحترم الإملاء الذي تحفظانه. بل إن عقوبة الفقيه بنحمزة ينبغي أن تكون أشدَّ، لأنه لم يشترك مع العُمري في جنحة إسقاط الألف فحسب، بل دمج الكلمتين: بن+حمزة= بنحمزة، وهذه جناية! الدرس السادس نسبة الجمع الأخلاقي أم الخُلقي؟ جاءتْ في كلامي نسبةُ الأخلاق جمعا (الأخلاقي)، فأنكر الشيخان هذه النسبة، وذكَّراني بأن الصواب هو إرجاعُ الجمع إلى المفرد قبل النسبة إليه. شَكَر اللهُ مسعاهما، بالمعنى الذي قصده الثائر العربي مخاطبا مبارك وابن علي. هذه القاعدة سمعناها ونحن تلاميذ في الابتدائي حين عاب بعض أساتذتنا، من جمعية علماء سوس، نسبة مدينة طنجة، في الإعلام المغربي، إلى الدول: الدوَّلية. هذه النصيحة المشكورة في حينها غير مفيدة في هذا المقام: قضية «الأخلاقي» شيء آخر. فالنسبة إلى المفرد في مجال الأخلاق تتجه إلى السلوك والسجايا، وما هو ذاتي وفردي، في حين أن النسبة إلى الجمع ارتقت، مع البحوث الفلسفية، إلى مستوى الاصطلاح، تتصل بالنظريات والتوجهات والقيم. وهذا ما يقصده الباحثون في الموضوع حين يقولون: «النمو الأخلاقي»، و»السلوك الأخلاقي»، و»العمر الأخلاقي»، و»الواقعية الأخلاقية»،و»الفلسفة الأخلاقية»، و»النمو الأخلاقي والتفكير الأخلاقي»، و»الأحكام الأخلاقية»، و»التربية الأخلاقية»، و»النمو العقلي والنمو الأخلاقي عند المراهقين»، و»نظرية النمو الأخلاقية»، و»المعايير الأخلاقية». .. الخ هذه الصيغ مأخوذة من مقالات عديدة لباحثين في علم الأخلاق والتربية والفلسفة، أنا أتبع هؤلاء في هذا الغلط إن كان غلطا. «الأخلاقي» (ومؤنثه: «الأخلاقية») ينتمي إلى منظومة مصطلحية، إلى نسق علمي، لم يلجأ إليه المختصون إلا لمناسبته، والحاجة الماسة إليه، ولم تكن هذه المصطلحات من حاجيات الأعرابي الذي أُخِذَتْ عنهُ خميرةُ اللغة العربية. إنَّ طلبَ إعادة الخبز إلى خميرة قبل استهلاكه لا يعنيني. وقد ظهرت الحاجة إلى نسبة الجمع في جميع المجالات العملية والاجتماعية/السياسية، وغيرها. نكتفي بثلاثة أمثلة من ثلاثة مجالات مختلفة: أحدها من علم الشعر ونقده، والثاني من عالم السياسة والخطابة، والثالث من عالم البحث في اللغة: 1 فالمثال العالم قولُ أدونيس: «يحلل ابن عربي العلاقة بين المعنى والصورة، حروفيا، فيرى أن كاف الكون ظلٌّ لكلمة كن...وأن الهاء رمز للذات... والواو رمز التجلي».(الصوفية والسوريالية153).نسَب «الحروف» جمعا لأنه لو قال «حرفيا» لدل كلامُه على «المعنى المباشر» العرفي المقابل للمعنى المجازي، وهو لا يقصد ذلك، بل يقصد رمزية الحروف. (أتمنى ألا يستفزكما لا لفظ أدونيس، ولا ابن عربي، ولا «تكراري» للنفي في هذه الجملة، فهو مقصود). 2والمثال الجمهوري الذائع على كل الألسنة هو نسبة الجماهير (الجماهيري). فنحن نسمع القادة السياسيين والنقابيين، والمعلقين الصحفيين يقولون بدون حرج: «تجمع جماهيري ..»، و»لقاء جماهيري..» .. الخ. والسبب في استعمال هذه الصيغة أمران: أولهما، وهو الأساس، الرغبةُ في التعبير عن تنوع الفئات المشاركة في الحشد وضخامتها: جمهور العمال، وجمهور الفلاحين، وجمهور المأجورين....الخ، حين تلتقي هذه الجماهير، في فاتح ماي مثلا، يصبح اللقاء جماهيريا، وليس جمهوريا. والسبب الثاني هو انصراف معنَى جمهوري إلى معنيين آخرين: جمهوري بمعنىَ عامٍّ، وهذا معنى قديم (جمهوري وخاص)، وجمهوري نسبة إلى نظام من أنظمة الحكم، ومنه البيان الجمهوري نسبة إلى الجمهورية. 3 وإذا لم تقنعكما لا «حروفية» الشاعر أدونيسولا «جماهيرية» الخطيب الجماهيري فلا شك أنكما ستتوقفان كثيرا قبل رفض ما ذهب إليه علماء اللغة الذين اختاروا مصطلح «الألسنية» ترجمة للعلم الجديد linguistics/ linguistique فهي نسبة لِجَمْع لسان. الشائع في المغرب العربي استعمالُ مصطلح «اللسانيات»، ومالَ كثير من المشارقة إلى استعمال مصطلح «الألسنية»4. هكذا تغتني اللغة فلا تبقى لغة ذلك البدوي الفقير المعرفة، القليل الحاجات، الذي عاش في صحراء الجزيرة العربية منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة. الأعرابي الذي استعمله أسلافكم (في رفض التأويل فقط) لتخطيئ سيبويه، وكسر قلبه، دفنتُه أنا من زمان. اللغة العربية تحتاج إلى من يطورها لا إلى من يحنطها ويُمتحفها. «ما طَحنوهْ حتى عْياوْ مَنْ تَغزازُو». ومن أراد أن يستمر في «التغزاز» فذلك شأنه. الدرس السابع حالة إعرابية أخيراً وجدَ الشيخان خطأ إعرابيا بمعنى الكلمة!! آخر ما تراءى للشيخين من سراب الخطأ في كلام العمري ما توهماه في هذه الجملة: «ذكر لي أحد الطلبة أن أصحاب الزي الأزرق هم طلبةُ المدرسة المحمدية للمهندسين شبهِ العسكرية، والآخرون من مدرسة المعادن». زعم الشيخان، في الأول، أني عطفتُ «الآخرون» على منصوب (أصحابَ)، وحقه النصب، «الآخرين». ثم عادا وفتحا بابا للتصويب، فقالا: «اللهم إلا أن تكون جملة «والآخرون من مدرسة المعادن» استئنافية، أي أنها ليست مما ذكر له ذلك الطالب». لا شك أن أي عاقل سيقول: ما دام هناك وجهٌ للرفع فما الداعي لِلَّجاجَة؟! فالمفروض في القارئ الناقد المتيقظ أن يُشغِّل برنامجا يستوعب كل الاحتمالات، ولا يخطئ الناس إلا بعد أن يسد جميع أبواب الاعتذار. وإلا رُدَّ عليه كلامه، وشُكِّك في كفاءته أو نزاهته، أو فيهما معاً. تخلَّص الشيخان من هذا التخريج بلا حجة قائلين: «وهذا غير وارد»، يقصدان محتوى ما قاله الطالب. والحال أنه سيكون غيرَ واردٍ في حالة واحدة، ووحيدة: أن يكون لديهما تسجيل مُمغنط لا يقبل الطعن بالصوت والصورة لما دار بين العمري وبين ذلك الطالب! فالمطلوب منهما الآن الإدلاءُ بشريط المحادثة! هذا هو العبث في غير محله. المفاجأةُ غيرُ السارة بالنسبة للشيخين أكبرُ مما ذُكر، المفاجأة هي أنهما أخطآ مرتين: أخطآ في تخطيئي وأخطآ في تصويبي، أخطآ في افتراض العطف على «أصحاب»، وأخطآ في القول بالاستئناف. ولذلك فَصدقتُهما مردودة قبل أن يعودا فيها، لأنها فاسدة. كيف ذلك: الجواب بسيط: «والآخرون» معطوفةٌ على «طلبةُ» في قول العمري: « ... أن أصحابَ الزي الأزرق هم طلبةُ...، والآخرون من مدرسة المعادن». أي ومن ليسوا طلبة المحمدية هم طلبةُ المعادن. ف»الآخرون» معادلٌ(ة) موقعي لِ»طلبةُ» وليس لِ»أصحاب»، لأن الآخرين ليس لهم زي موحد. والتقدير بسيط: الطلبة a كذا والطلبةُ b كذا... ولو تدبر الشيخان الفاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، لأدركا أنها يعني «أمَّا». أما إذا أصرَّ الشخان على تسجيل نموذج للخطأ في العطف خطأً لا عذر فيه ولا وجه لتأويله، فما عليهما إلا أن يطلبا مني إرشادهما إليه، فهو موجود، إن لم يكن عندي فهو موجود عندهما. سيجدانه بسهولة في قول الشيخ ياسيني: «والناسُ بدونها {صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] وجثثاً لا روح فيها،..»5! فهل هناك تخريجٌ، أو تفسيرٌ لنصْب «جثثاً»، وهي معطوفةٌ على خبر مَرفوع؟ «الناس صرعَى»: الناس مبتدأٌ مرفوع بالضمة الظاهرة، وصرعى: خبر مرفوع بالضمة المقدرة. ما الذي وقع؟! قُدرت الضمةُ فضاع الشيخان، عجبا لمن يتوهم رؤية القذى في المريخ ولا يرى الخشب في عينه! خاتمة بعد هذه البيانات التي آمل أن تساعد العقول غير المظلمة على استجلاء أسرار اللغة العربية وطاقاتها، أوَدُّ أن أُؤكد أنني لم أدَّعِ يوما، ولن أدعي، ما دمت مالكا لزمام عقلي، أنني معصومٌ من الخطأ. بل كل أملي أن يغلب صوابي ع لى أخطائي. وعلى كل حال فمن الشائع القول بأن تاريخ العلم هو «تاريخ الأخطاء»، وقد أساء بعض السطحيين فَهْمَ المقصود من هذه العبارة المختزلة فقدح في العلم، ونقَّصه معتقدا أن في تنقيصه خدمةً للوحي. ولذلك أُفضِّل أن يقال: «تاريخ العلم هو تاريخ تصحيح الأخطاء»، فكل عالم يستدرك على الذي قبله ويُقوِّم اعوجاجَه. وفي كتاب الخصائص لابن جني حديثٌ عن أخطاء العلماء الكبار، كما ألف الحريري كتابا بعنوان: درة الغواص في أوهام الخواص، ذكر فيه الأخطاء التي تسربت إلى أعمال كبار العلماء. وهي ليست من نوع وضع حرف من حروف المعاني مكان حرف آخر، بل مما فوق ذلك بكثير. ولقد انتقد العلماء والفلاسفة اللاحقون أسلافَهم السابقين على مر التاريخ، انتقدوا أفلاطون وأرسطو وسيبويه وابن رشد وابن خلدون وديكارت وشومسكي وعبد العروي ومحمد عابد الجابري..الخ، وظل هؤلاء الأعلام معالم لا تمحى في طريق تطور البشرية. ودخل المدلسون مزبلة التاريخ. مَيَّزتُ دائما في تقويمي لأعمال الناس بين الخطأ الجزئي الذي نسميه وهما وهفوة وسهوا، وبين الخطأ البنيوي، القائم في الأداة نفسها. الخطأ الجزئي هو الخطأ الإجرائي القابل للإصلاح دون هدم النسق، أو تشويشه، والخطأ البنيوي عطب في التفكير، عطب في طريقة النظر، ولذلك يستحيل ترميمه. والمهم في البحث العلمي الحرصُ على سلامة المنهج، فبسلامته يمكن تدارك الأعطاب، ومن شروط السلامة التجرد واجتناب الأهواء، فمن اتبع الهوى في مجال العلم هَوى، أي سقط. والأصولية عطب بنيوي، عطب في التفكير، ولذلك تعمى عن الحق. الكمال لله. فإن اقتنع القارئ بما سُقته من تفسيرات فالحمد لله، وإن رأى غيرَ ذلك، كُلاًّ أو جزءاً فقد أقام على بينة من أمره، «إنك لا تهدي من أحببت». ولولا حرصي على تنوير طلبة العلم، وكشف أساليب التدليس التي قد تنطلي على عموم القراء، لما تجاوز قولي للشيخين العزيزين، ومن على شاكلتهما، ما قاله الفرزدق لنُحاة عصره: «علينا أن نقول، وعليكم أن تتأوَّلوا»6. 1 في الجزء الأول من مقاله الذي نوه فيه بفتوى قتل المرتد الصادرة عن المجلس العلمي المغربي. 2افترض، والله أعلم، أن الشيخ الكبير يعرف هذه الحقيقة، ولذلك لم يَتبنَّ دعوى القياس على الآية القرآنية، بل ترك الاختيار لنهاري: يحتج بالآية أو لا يحتج، كما أخَّر إعلان توقيعه إلى الحلقة الثانية، حتى تأكد من مستوى رد الفعل. ذكرني حاله بقصة الذئب والنعجة والسلوقي: ظهرت أذنا الحق. 3 لا تعجب من ضربي لهما مثلا، فهما مثل القصب إذا ضم بعضه إلى بعضا صار أقوى حتى ولو كان مجوفا. 4ذكر لي الأستاذ حمزة المزيني أن التونسيين هم أول من اقترح مصطلح «اللسانيات» في مؤتمر عقد سنة 1979. 5 جاء في رده على الأستاذ عصيد فيما أخذه على وزيرة الأسرة، الحقاوي. موجود على الأنتيرنيت. 6 قال عبد الله بن إسحاق للفرزدق: بِمَ رفعتَ «أو مجلفُ» ؟ فقال: بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا. انتهى