خصت مجلة بانيبال الأنجليزية في عددها 43 ملفا عن المترجم العالمي دنيس جونسون ديفيز شارك فيها مجموعة من المترجمين: روجي ألان، خالد مطاوع، بول ستاركي، همفري ديفيز، وليم هتشينز، مارك لينز، بتر كلارك، موسى الحالول، ماركريت أوبانك، ابراهيم أولحيان.. نقدم هنا شهادة الناقد المغربي ابراهيم أولحيان في أصلها العربي.. -1- ... وكان اللقاء الأول، سنة 2005، بمقهى نيقوسيا بحي جليز بمراكش. كنت رفقة الصديق المبدع علي القاسمي، وجدناه ينتظرنا، وفي يده مجلة «العربي»، أخذها معه، لنتعرّف عليه بسرعة، كمّا أكدّ لنا فيما بعد، أجنبيّ يقرأ العربية، لن يكون سوى دنيس جونسون ديفيز؛ المترجم العالمي الذي كثيرا ما سمعت عنه، وقرأت حواراته التي ينجزها هنا وهناك.. على طول اللقاء كنت أتأمّل ملامحه، لأتبيّن تقاسيم الزمن على وجهه، نغمة العربية وهي تخرج من بين شفتيه. كان مصرّا على الحديث بالعربية (الدارجة المصرية)، يعود في حديثه إلى أيّام بعيدة جدا، وإلى أشخاص لهم تأشيرة الوجود في عمق الأدب العربي الحديث. كنت أنصت إليه باهتمام شديد، وباندهاش غريب، كمن عثر على كنز ثمين.. بدأت أفكر في إنجاز حوار معه، طرحت عليه الفكرة فرفض، لكن في نهاية اللقاء، وبعد حديثي معه عن القصة والرواية العربيتين وأشياء أخرى تعمّقنا في نقاشها، طلب منّي رقم هاتفي ووعدني باللقاء.. لم ينجز الحوار إلاّ بعد سنة، نظرا لما تعرفه مدينة مراكش من حرّ شدّيد، كان يرغم دنيس على المكوث في المنزل، أو السّفر إلى مدينة الصويرة التي يعشق بحرها وهدوءها.. -2- كان لدنيس منزل جميل بحي السملالية، زنقة ابن حزم بمراكش، يأتي إليه مرة أو مرتين في السنة، بعد أن يشتد عليه ضغط القاهرة التي لم يعد قادرا على إيقاعها، هو الذي عاشرها منذ بداية الأربعينيات.. ذات يوم أخبرني، من القاهرة، عبر الهاتف، أنه قرّر العيش نهائيا في مراكش، وفعلا، لم يمرّ وقت طويل، حتّى نقل كلّ أغراضه وكتبه إلى بيته في المدينة الحمراء.. بعد ذلك كنا نلتقي كثيرا في بيته، نجلس في الحديقة و نشرب الجعة، ونغوص في أعماق ذكرياته مع الأدباء والمبدعين العرب في أزمنة الثقافة العربية الحديثة.. كان يحدثني عن إنجازاته وعن مشاريعه، وبين الفينة والأخرى كان يسألني: أمّا أنت ماذا تنجز الآن؟ ! كلّ لقاء يجمعنا كان يتجاوز أربع ساعات، في كلّ مرّة، كان يدعوني لأتناول معه وجبة الغذاء، ولا أغادره إلاّ في المساء.. أمّا زوجته الفنانة الفوتوغرافية باولا كروشياني فكانت تجدها فرصة لتتجول في المدينة العتيقة، هي المولعة بالأشياء التقليدية العتيقة، وبرائحة الزمن الغابر التي تفوح من العمران.. وبعد عودتها تلتحق بنا، بترحاب ينبع من الأعماق، وتشاركنا الحديث.. ذات يوم، وبشكل مفاجئ، يقرّر دنيس العودة إلى القاهرة، بعد أن أحسّ أنّه في حاجة إلى مياه صداقاته هناك. باع المنزل، وغادر. إذّاك أحسست بخواء داخلي، وبجرح الفقد.. وبدأت اتصالاتنا عبر البريد الإلكتروني والهاتف، يخبرني بكل شيء.. لكنه رغم ذلك واظب على زيارة المغرب، وكان يستقرّ في إحدى فنادق مراكش الجميلة، قبل أن يغادرها إلى اسبانيا أو انجلترا.. -3- مراكش، المدينة التي احتضنت كثيرا من المبدعين والكتاب العالميين، تنجح في أسر عاشق الأدب العربي، الذي شكلّ لسنوات جسر عبور هذا الأدب إلى اللغة الإنجليزية. هكذا، وبعد الثورة التي وقعت في مصر، سيعود دنيس إلى مراكش، وبشكل نهائي !! حيث يسكن «وسط المدينة» في شقته بالطابق الرابع. زرته مرات عديدة.. كان تفكيره منشغلا بما يقع في مصر؛ يتحدث بكثير من الحسرة عن تطورات الأحداث، وعن أصدقائه الأدباء، وبما يمكن أن يحدث لهم. ويستعيد تفاصيل القاهرة وأهلها.. وبالكاد أستطيع أن أخرجه إلى عالم الأدب والإبداع، لكنّه سرعان ما يعود ليتأسّف عمّا يقع هناك.. في زيارتي الأخيرة له بمنزله، كان مزاجه راق، استقبلني عند الباب كعادته، بدأ للتو يحدثني عن الكتاب الذي صدر له مؤخرا بالقاهرة، وهو عبارة عن ترجمة لقصص مصرية لأزيد من ستة عقود، بعنوان «العودة إلى البيت»، وتكلّم عن العمود الذي يكتبه أسبوعيا في جريدة البيان الإماراتية، وأيضا عن ملحمة كلكامش التي كان يعيد قراءتها، وتأمله في مسيرة الإنسان منذ غابر الأزمان؛ تحدثنا عن بعض تفاصيل هذه الملحمة التي يعرف عنها الكثير.. جاءت باولا ودّعتنا لنجلس في مكتبه الدافئ، رأيت فوق المكتب أوراقا كثيرة، أخبرني بأنّها أجزاء من سيرته الذاتية التي سيعكف على إتمامها في الأيام المقبلة.. في هذا اليوم بالضبط حكى لي تفاصيل من حياته، لم يسبق أن أشار إليها معي. فدنيس جونسون ديفيز، لا يتكلّم مثل المثقفين الذين يتكئون على المفاهيم والمصطلحات و الاستشهادات، بل حديثه عبارة عن حكايات هي عصارة تجربة في الحياة؛ تختزل كل شيء، وتدل بعمق على ما يريد قوله: حياة مليئة بالأسرار والتجارب، بالإخفاقات والانتصارات، بالإنجازات والآمال.. معه أحسّ أنّني أغوص في بئر الحياة، التي يقول عنها إنّها غريبة ومليئة بالمصادفات.. حين كنت أودّعه عند الباب برفقة زوجته باولا، أخبرته أنّني سأكتب عنه، نظر إليّ كأنّه يريد أن يقول شيئا، قلت له: لا تثق بالكتّاب !! ابتسم وقال: نعم، لا تثّق بالكتاب...