-1 يستطيع الصّديق الجميل، خالد الشّاتي، صاحب الملفّات الساخنة والطرية، يستطيع إذا أرادَ أنْ يفتخر بكونه كان يقبض راتبه، في بداية الثمانينيات، عند كلّ 15 يوما، من جريدة «البيان»، للمرحوم السّي علي يعتة، أو ما يسميه عمّال الأوراش، في البناء وتزفيت الطرق ب»الكانْزا»!، وهو راتب نصف شهريّ لا يتعدّى، آنذاك، مائة وثمانين درهما، أيْ بالدارجة المغربية «ثلْثالاف وستّمْيات ترْيال»! هذا هو الوضْع الصحفي الذي كان سائدا في تلك الفترة الفقيرة من تاريخ الصحافة في المغرب، وبالضبط عند السّي يعتة الذي كان حريصا على انتقاء ألفاظه بدقّة، والحرص على مخارج الحروف، سواء في البرلمان أو في مؤتمراته الحزبية، حيث تستغرق خُطبه أكثر من ساعتيْن على الطريقة السوفياتية. وممّا زاد من إعجابي بالصّديق الشّاتي، سليل الفقيه الشاتي المعروف بدرْب الكبير، متحرّرا ومحاضرا وصاحب مدرسة «الفلاح» الحرّة، هو فرحه (وهو في قمّة نشوته الروحية) بالاعتراف بهذه «الكانزا» نصْف الشهرية التي لم تكن سائدة في الجسم الصّحفي الحزبيّ، الفقير الخالي من الإعلانات، إذْ ليس في هذه «الكانْزا» أيّ عيْب إذا ما أُعطيتْ لصاحبها في الوقت المحدّد. ذلك أن القبول بها يدخل في خانة النضال السياسي والحزبي بعيدا عن أيّ راتب باذخ، كما هو الشأن اليوم، وعلاش لا؟ لقد كان النضال فوق كل اعتبار ذاتي ضيّق، وكان مثل هذا الراتب يكفي لإحداث توازن في ميزانيتنا الشهرية البئيسة. بل كنا نقترض منه كل «كانزا» لملء معداتنا بالماء والمرعى في مدينة عبارة عن طاحونة لا ترْحم. - عندكْ شي ألْفْ فرانكْ؟ - والله ما عنْدي! -2 أنا نفسي مررْتُ بنفس هذه التجربة، وإنْ اختلفت ظروفُها التاريخية والمهنية. فبعد تشتتي الذهني والدراسي، وكنت آنذاك مراهقا، وجدت نفسي، عن طريق تدخّل أحد الأصدقاء بدرب غلّف، عاملا بمعمل «سيب» SIP، بالمعاريف للنسيج والملابس الداخلية للرجال. وبعد قضائي فترة في هذا المعمل 15 يوما، ألفيتني خارج «الكانزا»! هكذا تبدّد حلمي في البقاء بالمعمل بدعوى أنني لا أصلح للعمل نهائيا. يدفعني هذا التذكّر إلى الحالة المادية المريحة التي يعيشها صحفيّو اليوم من الجيل الجديد، بخاصّة صحافيّو الصّحافة المستقلة اليومية والأسبوعية المليئة بالإعْلانات الكثيفة. ففي جريدة «العلم»، حيث كنت مصحّحا ومحرّرا في الوقت نفسه (قراءة مقالات الملحق الأسبوعي)، كان راتبي الشّهري لا يتعدّى 370 درهما، بالإضافة إلى التعويض عن المقابلات الأسبوعية التي يحسبها المرحوم الركراكي بالميتْر، إذ أن كل عَمود مطوّل كان يُعوّض ب8 دراهم، وعليك أيّها الهرادي وأحمد صبري ورشيد بنحدو وعز الدين التازي أن تكتب كثيرا من الكلام لينتفخ تعويضك بعد نهاية كلّ شهر، كان الحاج سليْمان، وهو رجل طيّب، هو «وزير مالية» العلم، نفس الرّاتب تقاضيته في جريدة «التحرير» أيام عبد الرّحمان اليوسفي الذي كنتُ أصحّح له مقالاته السياسية من الأخطاء المطْبعية بزنقة «الجندي روش». كان وزير ماليتنا هو الرّجل الطيّب المهدي الورزازي، وبإمكان الرائد حسن العلوي (فريموس) أنْ يتذكّر هذه المرحلة التاريخية المليئة بالنضال ومُواجهة النظام المطلق، كذلك مولاي عبد السلام البوسرْغيني الذي اشتغلتُ إلى جانبه، رحم الله مصطفى القرشاوي. إنّ هذا النبشَ التاريخي، في ماضي رواتبنا الشهرية ونصف الشهرية ليس عيْبا، بلْ هو ماض مُشْرق لأنّه يؤرّخ لمرْحلة صحفية وسياسية معيّنة من تاريخ الصحافة في المغرب. لذلك فنحْن القدماء نغبط صحفيّي اليوم على رواتبهم المنتفخة، وعلى سفرياتهم وغذاءاتهم وعشاءاتهم الفاخرة في المطاعم الفاخرة. فهنيئا لهمْ.