مشرع بلقصيري.. توقيف شخص بحوزته 922 قرصا مخدرا من بينها 522 قرص مهلوس من نوع "إكستازي" و400 قرص مخدر من نوع "ريفوتريل"    أخنوش: الحكومة تواصل تفعيلا للتوجيهات الملكية السامية إصلاح التعليم بمسؤولية    الناظور.. الأمن يوقف شخصين يشتبه في تورطهما في ترويج المخدرات وتنظيم الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والاختطاف والاحتجاز والنصب والاحتيال    المهرجان الدولي للسينما بدبلن يحتفي بالسينما المغربية    عبور البضائع بين الناظور ومليلية بلا موعد جديد بعد مرور 16 يومًا على أول عملية    اتحاد طنجة ينفي يوجد تزوير في مستحقات لاعبه السابق يوسف بنعلي    أزمة قانونية تتسبب في توقيف عملية التصويت على تعديلات قانون الإضراب بمجلس المستشارين    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الإنخفاض    بوريطة يجدد التأكيد على الموقف الثابت للمملكة في دعمها لمجلس القيادة الرئاسي كسلطة شرعية في الجمهورية اليمنية    وزير الخارجية وشؤون المغتربين اليمني يؤكد حرص حكومة بلاده على تحقيق السلام في البلاد    مؤجلا الجولة 19 من الدوري الاحترافي الأول .. نهضة بركان يسرع خطاه نحو التتويج الأول والرجاء يواصل نزيف النقط    "اختراق إسرائيلي" يستهدف "واتساب"    وقفات بالمدن المغربية تضامنا مع الفلسطينيين ومواطنون يؤدون صلاة الغائب على قادة المقاومة    "النجم الشعبي" يستحق التنويه..    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    غياب لقاح "المينانجيت" يهدد بحرمان العديد من المغاربة من أداء العمرة    الملك محمد السادس يعزي ترامب    وفاة الناشط السابق أسامة الخليفي    فتح معبر رفح بين غزة ومصر السبت    موثقة لعقود "إسكوبار الصحراء" وبعيوي ترتبك أمام محكمة الاستئناف    122 حالة إصابة بداء الحصبة بالسجون    المهدي بنعطية يعلق على قرار إيقافه لثلاثة أشهر    شبيبة الاتحاد الاشتراكي في فرنسا ترفض استمرار لشكر لولاية رابعة وتتهمه بتسليم الحزب ل"المفسدين"    "الكاف" يكشف موعد قرعة ربع نهائي دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية    يوعابد ل"برلمان.كوم": الحالة الجوية بالمملكة ستعرف تغيرات ملحوظة خلال الأيام المقبلة    مجلس شامي يدعو إلى تحديد المسؤوليات المشتركة في توصيف الجرائم السيبرانية لحماية الطفل    توقيع اتفاقيات بين المغرب واليمن    ريال مدريد يواجه مانشستر سيتي    صابيري يعود إلى دوري السعودية    باحثون روس يبتكرون دواء جديدا لعلاج سرطان الجلد بفعالية مضاعفة    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    استئناف الحسيمة تفتتح السنة القضائية 2025 وتستعرض حصيلة الإنجازات    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    خروج دنيا بطمة من سجن لوداية    الكعبي : لا مستحيل في كرة القدم .. وهدفنا التتويج بالدوري الأوروبي    شركة تركية عملاقة تؤسس فرعا بالمغرب لتعزيز تصميم وصناعة الدرونات العسكرية    دنيا بطمة تخرج من سجن الأوداية بعد انتهاء عقوبتها    بعد عام من الإعتقال .. دنيا بطمة تعانق الحرية    ترمب يصر على تهجير سكان غزة رغم رفض مصر والأردن    جدل إلغاء عيد الأضحى ينعش تجارة الأكباش بالأسواق الأسبوعية    "ديب سيك" الصينية في مواجهة قانونية تهدد علامتها التجارية في أميركا    مشاركة وازنة للاعبات المغربيات إلى جانب نخبة من النجمات العالميات في الدورة ال 28 لكأس للا مريم للغولف    أخطاء كنجهلوها.. الطريقة الصحيحة لقيادة السيارة في أجواء البرد القارس (فيديو)    المحكمة التجارية بالدار البيضاء تجدد الإذن باستمرار نشاط مصفاة "سامير"    وفود تمثل كبريات الحواضر العربية ستحل بطنجة    الرئيس الانتقالي في سوريا: نعمل على وحدة البلاد وتحقيق السلم الأهلي    أسعار النفط ترتفع إلى أزيد من 76 دولارا للبرميل    توقعات بتصدير المغرب 90 ألف طن من الأفوكادو في 2025    التمرينات الرياضية قبل سن ال50 تعزز صحة الدماغ وتقلل من الزهايمر    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    الفلاحون في جهة طنجة تطوان الحسيمة يستبشرون بالتساقطات المطرية    ارتفاع أسعار الذهب    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحّالة بيْن عالميْن .. ليون الإفريقي

المؤرخة الأمريكية الشهيرة ناتالي زيمون ديفس (1928) أستاذة التاريخ الاجتماعي في جامعة »برينستون«، اكتشفت شخصية »ليون الأفريقي« باكراً وأولعت بها منذ سنة 1952. فقد وقعت ناتالي زيمون ديفس وقعت بالمصادفة، خلال الأبحاث التي كانت تجريها سنة 1952 للتوثيق لقصة مارتن غير، على كتاب من الحقبة ذاتها يحمل عنوان »وصف تاريخي لأفريقيا بقلم جان ليون الأفريقي«. وهو كتاب طبعه في مدينة ليون الفرنسية عام 1556، الناشر جان تومبورال الذي منحه الملك هنري الثاني امتياز ترجمة هذا العمل من مخطوطته الأصلية التي كتبها »الأفريقي« بالإيطالية.
كانت ناتالي زيمون ديفس تدقّق في الأعمال التي طبعها الناشر تومبورال لأن بعضها جاء على ذكر قصة مارتن غير. وإذا بها تقع في غرام شخصية أخرى لا تقل غرابة وتشويقاً، هي شخصية »ليون الأفريقي«. قرّرت المؤرّخة الأمريكية، وكانت يومها في الثلاثين، أن تخصّص للأفريقي بحثاً منفصلاً ما أن تنهي كتابها عن مارتن غير. من هنا كتابها القيّم »ليون الأفريقي: رحالة بين عالمين« (منشورات »بايو« باريس. فيما ترجمة الفقرات الأولى من الكتاب.
في سنة 1514، قدَّمَ ملك البرتغال، مانْويلْ الأوّل، فيلاً أبيضَ غنمه جنودُه من الهند، كهديّة إلى البابا ليونْ العاشر. وفي موكب بهيج، طاف سكّان مدينة روما المسرورن بالفيل، الذي أطلقوا عليه اسم «أنونْ» أو «هانو»، والذي كان يجسّد بالنسبة للبابا نيّة الملك في جعل الممالك، التي تمتد من أفريقيا الشمالية إلى القارة الهندية، في كنف المسيحية. وقد عاش «هانو»، الذي كان يحتل مكانة خاصة في قلوب الرومان والبابا، والحاضر في الأحداث العمومية والاحتفالات، ثلاث سنوات داخل حظيرته. وقد خصّه الشعراء وكُتّاب السير والهجاؤون بنصوص خالدة، كما شخّصه الفنانون رسوما ولوحات ونحتا على الخشب، وزُيِّنتْ به نافورات المياه، والنقوش التزيينية والصحون. وحتى الفنان الكبير رافاييلْ نفسه وضع رسما جداريّا تخليدا لذكراه.
في سنة 1518، سوف يقدم أحد القراصنة الإسبان، الذي عاد لتوّه منتصرا بعد حملات مجيدة ضد سفن المسلمين بالبحر الأبيض المتوسط، كهديّة إلى نفس البابا رحَّالَةً وديبلوماسيا من شمال إفريقيا، كان قد أسره، ويُدعى الحسن الوزّان، وهو ينحدر من مدينة فاس. وكانوا يأملون منه أن يكون مصدرا ثمينا للمعلومات، ويصبح رمزا للحملة الصليبية ضدّ الأتراك العثمانيين والدين الإسلامي التي كان البابا يرغبُ في خوْضها. أَلَمْ يكن الأتراك يشكلون تهديدا متزايدا للمسيحية منذ حملتهم العسكرية على مدينة القسطنطينية سنة 1453؟ وقد دوّنوا وصول الديبلوماسي وحبْسَه في السجلات والمراسلات الديبلوماسية. خمسة عشر شهرا بعد ذلك، كان تعميده في كنيسة سان-بيير مناسبة أقيمت خلالها احتفالات باذخة. وقد كان أحد القيّمين على الخزانة يسجل الكتب التي يقترضها. لكن، وقياسا إلى إقامة «هانو» ، فإن السنوات التسع التي قضاها الحسن الوزان في إيطاليا، لم يذكرها أولئك الذين شاهدوه، وحضوره لم يُسجّله أولئك الذين خدمهم، ولا أولئك الذين عرفهم، ثم إنّ صورته لمْ يرسمُوها ولا أعادوا رسمها إلى ما لا نهاية. أما عودته إلى شمال إفريقيا، فلمْ تُذكَر إلاّ عَرَضا في وقت لاحق. ولم يتبقّ من حياته، لدى أولئك الذين يهتمون بالأدب العربي أو بأدب الرحلات، سوى ذكرى خفية/بعيدة تناقلتها الألسُن شفهيّا ولا تُذْكَر إلاّ في كتابات متأخّرة.
وفي إفريقيا الشمالية، فإن الصمت التي يتعرّض له يبعث بدوره على الحيْرة. فطيلة السنوات التي كان يعمل خلالها الحسن الوزّان لفائدة سلطان مدينة فاس عبر المدن المغربية المتاخمة للمحيط الأطلسي، لم يجشم الجنود أو الإداريون البرتغاليون أنفسهم عناء ذكر اسمه حتى في الرسائل التي كانوا يبعثون بها إلى الملك مانويل، رغم أنها رسائل تعجّ بالأخبار والمعلومات. ومع أنه عمل في السلك الديبلوماسي لسنوات طويلة بالقاهرة، فإن المرء لا يعثر على اسمه في كتابات ملاحظ متفحص وثاقب النظر، والذي كان يعدّ كل يوم لائحة زوار بلاطات سلاطين المماليك والمشرق.
ورغم ذلك، فقد خلّف الحسن الوزان عددا كبيرا من المخطوطات في إيطاليا، من بينها مخطوط نُشر في كتاب سنة 1550، وعرف نجاحا منقطع النظير. ومع توالي القرون، سوف يثير هذا الكتاب فضول القرّاء والباحثين في مناطق مختلفة من العالم. وقد انطلقت كل أشكال الغموض التي تحيط به، والتي طالت حتى اسمه نفسه، منذ الطبعة الأولى من الكتاب. فحين أصدره جيوفاني باتيستا راموسيو، أطلق عليه اسم La Descrittone dell›Africa (وصف إفريقيا) وسمّى الكاتب بالاسم الذي تمّ تعميده به «Giovan Lioni Africano» (يوحنا ليون الإفريقي)، وأورد سيرة ذاتية قصيرة له في ثنايا مقدة الكتاب. وهذا الاسم ذاته هو الذي نجده مبثوثا في مختلف الإصدارات اللاحقة للكتاب، المنشور بمدينة البندقية باعتباره الجزء الأول من مجموعة «ملاحة وأسفار» لراموسيو، وكذلك في الترجمات الأوربية التي سارت على منوالها: «Iean Leon, African [كذا] بالفرنسية (1556)، «Ioannes Leo Afrianus» باللاتينية (1556) و»John Leo, a More» بالإنجليزية (1600). وعَبْر الترجمة الألمانية (1805) ل»Johann Leo der Africaner» يواصل الكتاب تشكيله للرؤية الأوربية عن إفريقيا، علاوة عن كونها رؤية تصدر عن شخص عاش في هذه الأصقاع التي سافر إليها1.
في هذه الأثناء، سوف يعثر أحد البحّاثة من خزانة الأسكوريال بإسبانيا، وكان بدوره مسيحيا مارونيا منحدرا من سوريا، بالصدفة على مخطوط كان الحسن الوزان قد كتبه باللغة العربية حول موضوع آخر. وقد كان هذا المخطوط يحمل اسم كاتبه الإسلامي والمسيحي معا، وهو ما أشار إليه في الفهرست الذي أعده للنشر (1760-1770). وبعد مرور قرن من الزمان على ذلك، وحين أدرج المستشرق النابغة شارل شيفرْ كتاب «وصف إفريقيا» ضمن مصنّفه «مجموع الرحلات»، برز اسم عربي في المقدمة؛ وفي المجموعة الكلاسيكية لأدب الرحلات، التي كانت تصدرها « جمعية هاكلويْط» بأنجلترا، وردتْ في صفحة العنوان العبارة التالية: «By Al Hassan Ibn-Mohammed Al-Wezzan Al-Fasi, a Moor, baptized as Giovanni Leone, but better known as Leo Africanus» (بقلم الحسن الوزان الفاسي، المغربي، المعمّد بيوحنا ليون، لكن المعروف أكثر بليون الإفريقي).
إن الظل الذي كان يواري كاتبه لمْ يَزُلْ رغم كل شيء. بعد ذلك، وطيلة العقود الأولى من القرن العشرين، حاول بعض الباحثين القيام بمقاربة جديدة للركتاب وللرجل معا. ففي سياق «العلوم الكولونيالية» الفرنسية الجديدة، التي تعتني بجغرافية إفريقيا وتاريخها وإثنوغرافيتها، خصّص الشاب لويس ماسينيون أطروحته بجامعة السوربون للمغرب الأقصى في السنوات الأولى من القرن السادس عشر، كما وصفه «ليون الأفريقي». فانطلاقا من قراءة متنبهة للنص (وهي تقنية سوف تتطوّر في كتاباته العملاقة اللاحقة عن التصوّف والشعر الصوفي) تمكّن ماسينيون أنْ يستخرج منه ما استطاع استخراجه، ليس فقط ما يتعلق بجغرافية المغرب، وإنما كذلك ما يهمّ حياة الحسن الوزان ورحلاته، مركّزا بكيفية أخصّ على مصادره وطرق ملاحظته وتصنيفه. وحسب ماسينيون، فإن إطار كتاب الوزّان «أضفي عليه الطابع الأوربي كثيرا»، بينما «ظلّ العمق عربيّا». وقد نُشِرتْ دراسة لويس ماسينيون سنة 1906، في مرحلة هامة كانت تسعى خلالها فرنسا فرض حمايتها على المغرب2.
كانت المؤرخة والجغرافية أنجيلا كودازي تعرف حقّ المعرفة دراسة ماسينيون، كما كانت تعقد أملا كبيرا على أنْ يتمّ يوما ما العثور على المخطوط الأصلي لكتاب الحسن الوزان. وبما أنها كانت من بين المترددين على مختلف مصنّفات الخزانات الإيطالية ومخطوطاتها، فقد أعلنت سنة 1933 بأنها قد عثرت على مخطوط إيطالي لوصف إفريقيا، ودوّنت في متنه مختلف الفروق الموجودة بينه وبين الطبعة التي أصدرها راموسيو. وفي الفترة الزمنية نفسها، قام جيورجيو ليفي ديلا ديفا، وهو من بين المتخصصين البارزين في اللغات والآداب السامية، باكتشافات جديدة بدوره. فعلى إثْر طرده من منصبه كأستاذ كرسيّ بالجامعة، سنة 1931، بسبب آرائه المعادية للفاشية، اسْتُدعي للإنجاز جرد للمخطوطات العربية الموجودة بخزانة الفاتيكان. وقبل رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1939- مسألة أمنية بالنسبة لرجل يهوديّ- كان قد وضع اللمسات الأخيرة على دراسة حول إنشاء المصنّفات المشرقية بالفاتيكان. ومن بين الكنوز العديدة الموجودة فيها، يجد المرء عناصر هامة تتعلق بالطريقة التي كان يقرأ بها الحسن الوزان، ويكتب ويوقّع. وعند عودته إلى إيطاليا، بعد الحرب، ساعد ليفي ديلا فيدا المؤرخة أنجيلا كودازي على قراءة وتأويل مخطوطيْن كانت قد عثرتْ عليهما ل»يوحنا ليون الإفريقي» يتحدثان عن موضوعات أخرى.
آخر تقديم «كولونيالي» ليوحنا ليون الإفريقي ينطوي على أهمية كبرى، كانت ترجمة فرنسية جديدة مفسرة أنجزها ألكسي إيبولار. فخلال السنوات التي قضاها بالمغرب بصفته طبيبا وضابط في الحماية الفرنسية، أُعجب إيبولار ب»القيمة العظيمة» للمعطيات التاريخية والجغرافية لكتاب «وصف إفريقيا». يستند كتابه أساسا على العمل الذي قام به كلّ من لويس ماسينيون وأنجيلا كودازي، دون أنْ يتبنّى روحما مع ذلك. وإذا كان إيبولار قد عوّل على المخطوط الإيطالي، بروما، سنة 1939- وصفّق لمشروع أنجيلا كودازي بنشره ذات يوم (وهو مشروع لم يتمّ للأسف)- فإن نسخة «وصف إفريقيا» التي قدّمها تجمع بين الطبعة التي نشرها راموسيو، وبين ترجمات شخصية لبعض المقاطع، وبين صياغة حديثة للترجمة الفرنسية في لقرن السادس عشر. وقد كان يجهل أنّ الاختلافات الموجودة بين هذه النصوص، يمكن أن تنمّ عن اختلافات أكبر من حيث الحساسية الثقافية.
وكما هو الشأن بالنسبة لماسينيون، فإنّ طبعة إيبولار كانت تقارن معطيات مأخوذة من «وصف إفريقيا» بعناصر خارجية- بدْءا من المسافة الموجودة بين مختلف الأمكنة إلى سير الأحداث التاريخية. وقد أدْخل عددا من التصويبات على الوزّان حين كان يبدو ذلك ضرويا، كما شرح الأسماء الجغرافية، ودقق في أسماء المؤلفين العرب الواردة. ومن أجل تحقيق ذلك على الوجه الأكمل، عَمَدَ إيبولار إلى تجميع فريق فرنسيّ من المتخصصين في الدراسات المتعلقة بجنوب الصحراء، من بينهم اثنان يعملان بالمعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء بمدينة دكار السينغالية؛ كما راجع بعض المتخصصين في قضايا الفولكلور والكتابات التاريخية عن إفريقيا الشمالية. وتُعتبر الحواشي والتعليقات الواردة في طبعة إيبولار مفيدة، غير أنها لا تتناول المسألة الأساسية التي أثارها ماسينيون: وهي معرفة أين يتموضَعُ النص أو كاتبه بالنسبة للعالَم الذي كان يتحدث عنه، وبالنسبة للعالَم الذي كان يخاطبه. ومرّة أخرى سوف يتمّ تذويب الاختلافات، بما أن إيبولار يحبّ فكرة كوْن «يوحنا ليون» لم يفارق حياته المسيحية أبدا بإيطاليا».
غير أنّ إيبولار لمْ يعمّر طويلا ختى يرى مشروعه مكتملا. ذلك أن فريقه أنجز المهمة على الوجه الأكمل، وبالتالي أصدر نسخة «وصف إفريقيا» بمدينة الرباط من طرف معهد الدراسات المغربية العليا سنة 1956، وهي السنة ذاتها التي حصل فيها المغرب على استقلاله.
وقد كان فريق إيبولار يستهدف على وجه الخصوص قراءً من المؤرخين الأفارقة، وبالتالي لم يكَدْ يمْضي وقت طويل حتى شرع متخصصون في إفرقيا الجنوبية في التساؤل عن مدى مصداقية الوزّان باعتباره شاهداً. وخلال العقود التي تفصلهم عن نهاية القرن العشرين، قام باحثون من أوربا وإفريقيا وأمريكا بمقارنة الصفحات التي كتبها عن إفريقيا السوداء، بعناصر أخرى مؤكدة، وبروايات لاحقة. وفي الوقت الذي يؤكد فيه البعض بأن الوزان يورد تفاصيل ثمينة ومقنعة عن مجتمعات ومماليك مغمورة، فإن البعض الآخر يقول إنه يورد روايات غريبة ومبالغا فيه سمعها بتومبوكتو التي لم يغادر يوما ما أسوارها. هنا رئيس قبيلة عاش بالفعل، وهناك غزوة لم تقع أبدا؛ وهنا ممارسة تجارية مؤكدة، وهناك حريق لم يذكره شخص آخر غير الوزّان. كلّ هذه المقاربات- التي هي رغبات محمودة لإجراء» فحص دقيق» لمصدر أوّليّ- تجزّئُ «وصف إفريقيا» إلى شذرات دون أنْ تنظر إلى الكتاب كمجموع كلّيّ، أوْ تهتمّ بالممارسات الأدبية لكاتبه3.
وفي الوقت الذي كان فيه الباحثون المهتمون بالحضارة الإفريقية يخوضون نقاشات قوية، شرع جيل جديد، ظهر ما بعد المرحلة الكولونيالية، في قراءة الحسن الوزّان. ومن بين الممثلين البارزين لهذا الجيل الباحثة أمْ البنين الزهيري، التي قادتها رحلاتها من موطنها الأصلي المغرب إلى فرنسا فالولايات المتحدة الأمريكية. وقد أصدرتْ كتابَها سنة 1991 بعنوان «إفريقيا في مرآة أوربا: fortunes من يوحنا ليون الإفريقي إلى عصر النهضة»، وكشفت من خلاله مدى التأثير الذي مارسته طبعات كتاب يوحنا ليون على الرؤية الأوربية للشعوب وللأمكنة ولماضي إفريقيا. وعبْر بانوراما واسعة تشمل المؤلفات الأدبية وكتب التاريخ والجغرافيا، قامت أمّ البنين بتفصيل المعطيات التي استقاها المؤلّفون الأوربيون من «وصف إفريقيا»، وإبراز كيف أعادوا تشكيلها وفي بعض الأحيان تجاهلها. وبطريقة أصيلة، أعادتْ وضع العالَم غير الأوربي في سياق وَعْي عصر النهضة. وخلافا للدراسات السابقة المتعلقة بموقف الأوربيين تُُجاه الأتراك، حيث كان المُتخيَّل كله يُنْظَر إليه من الزاوية الأوربية، فإنّ كتاب «إفريقيا في مرآة أوربا» قد تناول المسألة من زاوية التفاعل الذي يحتلّ فيه الشمال إفريقي ليونْ مكانة التميّز. ومن خلال مواصلة أمّ البنين لتطوّر حكاية ليون عبر القرون، فقد انصبّ اهتمامها على المشاكل التي يطرحها المخطوط في حدّ ذاته.
أما الدراسة الثانية التي تكتسي أهمية قصوى، فإنها قدمتْ إلينا من منطقة أخرى من العالم، وتبحر بقصة ليون الإفريقي في اتجاهات مختلفة. فبعد السنوات التي عمل فيها ضابطا ثم دبلوماسيا بكل من المغرب وتونس، انكبّ الألماني ديتريش روشنبرغر على دراسة الحسن الوزّان الذي كان يثير فضوله ويشغل باله كثيرا. وقد أفضى به بحثه، من بين مراحل أخرى، إلى مخطوط روما الذي كان هو الأساس الذي استند عليه لكي يؤلف كتابه الضخم Johannes Leo der Afrikaner (1999). في هذا العمل، عاد روشنبرغر إلى حياة ليونْ وأعماله وإلى الوسط الإيطالي الذي عاش فيه؛ كما كشف عن صدى مؤلفاته لدى الباحثين الألمان. وتتجلى قوّة العمل الذي انجزه روشنبرغر في معالجته الرائعة لصفحات الوزّان موضوع الجدال، والمتعلقة بإفريقيا جنوب الصحراء. فضْلا عن كوْنه استعمل المخطوط واختلافاته بالمقارنة مع الطبعات الصادرة من أجل إقرار مصداقية الوزان بصفته ملاحظا ورحّالة، وأدرج هذا الحكم في إطار صباغة جد غنية للمناطق الصحراوية الجنوبية وشعوبها. ويستخلص مستشهدا بواحد من المتخصصين في إفريقيا الذي اشتغل ضمن فريق إيبولار: «نحن محظوظون لأن كتاب ليون الأفرقي صدر في أوربا، ولفائدة جمهور أوربيّ. فلو كُتِب لجمهور عربيّ، لأُهْملت العديد من التفاصيل الثمينة لأنها ستُعتبر معروفة».
وفي مستوى آخر، فإنّ أهل الاختصاص في شؤون الدراسات العربية، والباحثين بالمغرب باتوا يُقبلون أكثر فأكثر على دراسة الحسن الوزّان وكتابه عن إفريقيا. ففي سنة 1995، سوف يقدّم أحد المتخصصين في الأدب العربي، وهو سيرافين فنجول ترجمة جديدة ل»وصف إفريقيا» إلى الإسبانية اعتمادا على طبعى روميسيو. لقد سعى، من جهة، إلى ردْم الهوّة ما بين المُسْتعربين والمسْتغربين، ومن جهة أخرى، وباسم «التراث الثقافي» المختلط بإسبانيا، إلى استعادة «خوانْ ليون» المُزداد بغرناطة، وكتابه.
وكانتْ تخامر فنجولشكوك حول ما إذا كان ليون الإفريقي قد اعتنق المسيحية اعتناقا صادقا. وهي العملية التي أرْبكتْ منذ البدْء الباحثين المغربية. ففي دراسة رائدة لمحمد المهدي الحجوي [بعنوان «حياة الحسن الوزان وآثاره»، سنة 1933] يصف فيها الحسن الوزان كأسير أجبروه على اعتناق المسيحية، لكنه ظلّ دائما متمسكا بشعبه ودينه، بلْ ذهب به الأمر إلى حدّ التأثير في البابا. بعد ذلك بخمسة وأربعين سنة، أيْ في سنة 1980، صدرت بالرباط الترجمة العربية الأولى لكتاب الوزّان عن إفريقيا. وكان مترجمه محمد حجي قد ناقش قبل ذلك بقليل أطروحته بمدينة السوربون عن الحياة الفكرية بالمغرب خلال القرنيْن السادس عشر والسابع عشر، وأصبح أستاذا لمادة التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط. وفي مقدمة ترجمته للنسخة الفرنسية التي أعدّها إيبولار، دافع حجي عن إسلام الوزان الصادق، مشددا على تظاهره باعتناق المسيحية . ومن الأدلة التي يقدمها الصبغة الإسلامية المتجلية في كتاب «وصف إفريقيا» كلما تحدث عن عادة أو عيد أو غير ذلك مما يخص المسلمين نسبه إلى نفسه مع جماعة المسلمين قائلا «عندنا».
وقد أعيد طرح هذه القضايا سنة 2003 بباريس، بمناسبة انعقاد ندوة علمية عن ليون الإفريقي. وهس ندوة جمعت ثلّة من المختصيّن من المغرب العربي وأوربا وأمريكا الشمالية الذين تهمّهم هذه الشخصية الملغزة. ولم يعد المغرب يومها يسعى لاسترداد نسب الوزان إليه. فقد كانت الطريق قد عُبِّدتْ في جزء منها ليس بفضل الدراسات العالِمة، وإنما بفضل رواية اكتسبت شعبية كبيرة وحيوية كبيرة، وهي رواية «ليون الإفريقي» التي كتبها أمين معلوف. ازداد معلوف بلبنان من أسرة تعتنق ديانات مختلفة، وجاءت من آفاق مختلفة. عمل مدة بالصحافة العربية، وبعد أن مزّقت الحرب الأهلية بلاده استقر بفرنسا. وبها أنهى دراساته في الاقتصاد وعلم الاجتماع، ثم أصبح صحافيا ورئيس تحرير أسبوعية «جونْ أفريكْ»، التي كانت موالية للحركات الاستقلالية الإفريقية والبلدان الفتية التي حصلت على استقلالها. في سنة 1983 سيصدر رواية «الحروب الصليبية كما يراها العرب» باللغتيْن العربية والفرنسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.