توافد عبد الإله بنكيران، ادريس جطو، نبيل بنعبد الله، حميد شباط، صلاح الدين مزوار، محمد بنعيسى وكل قادة اليسار على بيت العائلة «ها أنت ترى يا أخي، كان الثمن غاليا هو روح والدتي، لأنعم ببعض الحرية".. هكذا خاطب الأستاذ خالد عليوة بالأمازيغية السوسية، وزير السكنى الأسبق عبد الرحمان بوفتاس، حين جاء لزيارته ببيت والدته بحي ديور الجامع بالرباط صباح الأربعاء الماضي. وهي جملة رددها كثيرا عليوة أمام الوزراء (في مقدمتهم رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ووزير الدولة عبد الله باها) والقضاة ورجال المال والأعمال والمناضلين ومسؤولي الجمعيات الحقوقية وقيادات الأحزاب والنقابات والكتاب والفنانين الذين تقاطروا جماعات وفرادى على بيت والده لزيارته وتقديم واجب العزاء وكذا التضامن معه في محنة الإعتقال، الذي أجمع العديد من كبار رجال القانون والقضاء المغربي الذين كانوا من زواره، في نقاش قانوني مطول وغني، على أنه "اعتقال تحكمي"، بسبب توفر كل أسباب الضمانات القانونية للمتابعة في حالة سراح. بل وأنه يضرب مبدأ أساسيا في ممارسة العدل هو مبدأ الحرية (وليس قرينة الحرية)، مبدأ الحرية الذي هو ثابت في كل المنظومات الحقوقية بالدول الديمقراطية. لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. ذلك أن روح العدل تقتضي منح المتهم كل أسباب تهيئ دفاعه حتى في جرائم القتل وفي الجرائم الموصوفة، فأحرى في متابعة يلفها الكثير من الغموض التقني، وهي تستوجب منح المتهم كل أسباب تهيئ دفاعه بشكل مدقق. وكان السؤال الذي ظل يتردد على لسان الساسة ومناضلي اليسار، في بيت عائلة عليوة: من المستهدف في متابعة مثل هذه، هل الشخص أم انتماؤه السياسي؟. فيما كان عليوة يؤكد أنه في لحظة تأمله داخل زنزاته، وهو يستحضر تفاصيل محنته وكيف أنه ظل دوما متعاونا مع كل مراحل التحقيق، تأسيسا على قناعته المبدئية بدولة الحق والقانون والحريات، كانت تحضره تجربة ابن خلدون مع السجن والإعتقال، التي جاءته بعد تحمله مسؤوليات سياسية عمومية، وكيف أنه انتصر في الأخير للمثقف فيه، واعتزل الحياة السياسية كي يهب للبشرية واحدا من أنضج كتب التاريخ وعلم الإجتماع "المقدمة". وأنه في محنته هو، كمعتقل احتياطي يحمل رقم 97407 قد خلق أسبابا للقراءة يوميا في مكتبة السجن، وأنه يلتقي يوميا مع سجناء آخرين يهيؤون لامتحانات الباكالوريا أو الإجازة أو الدكتوراه، وأنهم يتطارحون يوميا مواضيع علمية للنقاش تهم تخصصاتهم العلمية ومجالات بحثهم الأكاديمي . وأنه استعاد دوره كأستاذ جامعي باحث من خلال تقديم المساعدة المعرفية لباقي السجناء. وأن الصدى الإيجابي لذلك، حتى بين معتقلي السلفية الجهادية، الذين يؤدي معهم ومع باقي السجناء يوميا صلواته بمسجد السجن، قد جعل إدارة سجن عكاشة تخصص قاعة العروض العامة وتطلب منه أن يلقي دروسا ومحاضرات يستفيد منها كل المعتقلين وكذا موظفو السجن. وأنه اليوم يؤطر مع عدد من السجناء ورشات للشعر والقصة والرواية، وكذا ورشة للرسم وأخرى للسينما. أليس هذا معنى من معاني الإصلاح وأنسنة السجن، وأنه عكس ما تنشره للأسف بعض الصحف (التي اختارت التموقف سلبيا من الرجل وحكمت عليه قبل حكم القضاء)، فهو حتى في محنة اعتقاله الإحتياطي منتصر للإيجابي في العلائق وفي توسيع هوامش ما يفيد المحيط الذي هو فيه تحكميا حتى الآن. كان منزل والدة خالد عليوة، بشكله الهندسي المغربي العتيق، الذي يعود إلى بدايات القرن العشرين، هناك حيث ولد وكبر وحلم وتعلم، أشبه بخلية نحل من توالي الزوار، ومن النقاشات العميقة التي تثار على مدار الساعة من أول الصباح حتى آخر الليل. وكان لافتا أن يكون من زواره موظفون وموظفات سامون بإدارة بنك القرض العقاري والسياحي، الذين أجمعوا على أن أهم مرحلة حقوقية لأطر وموظفي البنك بإجماع الجميع هي مرحلة إدارة عليوة، وأن الرجل أنقد البنك من الإفلاس ورفع من قيمته في سوق الأبناك، وأنه بفضل جهد جبار تمكن من إعادة ملايير الدراهم إلى خزينة البنك كانت لسنوات على ذمة عدد من الشركات الكبرى والزبناء الكبار، وأنه رفع من قيمة سهم البنك في البورصة إلى أرقام قياسية (700 درهم للسهم) لم تصلها أسهم البنك قط ولا تصلها الآن. وكل ملاحظ لصف زوار الرجل على مدى الأيام الثلاثة الماضية، سيكتشف أن سيرة الرجل وكفاءته هي السر وراء ذلك العدد من الزوار، الكمي والنوعي له في بيته. بل وأن الرسالة الملكية المعزية في وفاة والدته، في معانيها الإنسانية الرفيعة والسامية جدا، تستحضر أيضا عناوين تلك السيرة التي يجرها الرجل وراءه، كرجل دولة خدم وطنه، وأنه تربى في عائلة وطنية رأسمالها الأخلاق. والرسالة هنا واضحة. لقد حضرت قيادة حزب الإتحاد الإشتراكي بكل أعضاء مكتبها السياسي يتقدمهم الكاتب الأول ادريس لشكر (يحضر يوميا)، وحضرت قيادة حزب التقدم والإشتراكية يتقدمهم الأمين العام نبيل بنعبد الله، وحضرت قيادة حزب الإستقلال كلها، يتقدمهم الأمين العام حميد شباط، وحضرت قيادة التجمع الوطني للأحرار يتقدمهم الأمين العام صلاح الدين مزوار، وحضرت قيادة الحزب الإشتراكي يتقدمهم الدكتور لطفي واتصل هاتفيا الدكتور عبد المجيد بوزوبع الغائب لأسباب صحية، وقيادات نقابية مركزية وقطاعية. مثلما توالى حضور شخصيات سياسية ومسؤولون كبار في الدولة، نذكر منهم الأخ محمد اليازغي، والأستاذ ادريس جطو رئيس المجلس الأعلى للحسابات (الجهة نفسها التي أعدت تقريرها عن بنك السياش على عهد الأستاذ أحمد الميداوي)، والدكتور إدريس الكراوي (الأمين العام للمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي)، والأخ فتح الله ولعلو عمدة الرباط (يحضر يوميا)، والأستاذ الحبيب الشرقاوي، والأخ محمد الأشعري (يحضر يوميا)، ووزير الخارجية الأسبق محمد بنعيسى، والفقيه البرنوصي، والأستاذ نجيب أقصبي، والأستاذ محمد الناصري والعديد من السفراء ومن قضاة سابقون بالمجلس الأعلى وفقهاء قانون.. (الوحيدون الذين تميزوا بغيابهم، ولم يتصلوا لا هاتفيا للعزاء ولا بالحضور، إلى حدود الخميس، هم أعضاء حزب الأصالة والمعاصرة). فيما بعث الأستاذ ادريس الضحاك ببرقية تعزية، واتصل هاتفيا للعزاء مستشار جلالة الملك الأستاذ فؤاد عالي الهمة. مثلما كانت المكاتب المركزية للمنظمات الحقوقية المغربية، هي من أول من زار بيت الأستاذ عليوة إلى جانب الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي والأستاذ خالد السفياني والدكتور مصطفى الكثيري والأخ الحبيب المالكي. ولقد أكد عدد من أساتذة كلية الحقوق بالرباط، أنهم يدرسون حالة الأستاذ خالد عليوة لطلبتهم، كحالة قانونية في باب قانونية الإعتقال الإحتياطي غير المبرر بقوة النص القانوني، وأن عبارة "لمصلحة التحقيق" لا سند لها أمام ما ينص عليه القانون وهو توفر أو انتفاء ضمانات الحضور والذعيرة وأن أمر التمديد يجب أن يعلل كتابيا بمنطوق النص القانوني، بل وأن الأصل في روح القانون هي حماية "مصلحة المتهم" في تهيئ دفاعه، كما هو معمول به في كل الأنظمة الديمقراطية، مقدمين المثال من النظام القضائي الأمريكي ومن القضاء الفرنسي الذي أحدث آلية قضائية خاصة بالمتابعة الإحتياطية لما فيه مصلحة المتهم وحماية مبدأ البراءة. وأن المعركة اليوم مغربيا هي ليس فقط في الإنتصار للقانون والحق، بل لتفعيل روح الحرية كشئ مقدس لا يستقيم قانون وعدل بدون توفرهما. معتبرين أن سلطة القضاء ليست هي الإنتقام (طرحت حالة الموظف بن زيزي ومأساة عائلته اليوم، المعتقل ضمن نفس الملف، حيث تبث للجميع أن الرجل ليس له سوى أجرته الشهرية وأنه حرم من عمله وأصبح أبناؤه بدون مورد رزق لإتمام دراستهم بل ومنعت حتى حقوقه في الضمان الإجتماعي، وأن بيته اليوم موضوع تهديد بالحجز بسبب عدم تأدية أقساط السلفة البنكية). تمة سؤال كان ثاويا في عيون كل الزوار، على اختلاف مراتبهم ومسؤولياتهم السياسية وفي الدولة: كيف سيعود الرجل إلى زنزانته؟.. وهو السؤال الذي ظل يستبق الأستاذ خالد عليوة الجواب عنه بإصراره على القول: "حريتي المؤقته هذه أديت عليها ثمنا غاليا هو روح والدتي. ولا أوهام لدي في معركتي من أجل العدالة والحق. لقد قلت لزملائي من المساجين أن ضميري مرتاح وأن درس الحياة الذي تعلمته، أن ليس النياشين ما يصنع المرء، بل سيرته بين الناس وراحة الضمير". وحين كنت أتأمل ملامحه، كان خالد عليوة، لا يزال هو هو كما عرفته منذ سنوات، ذات الجرأة وذات الإصرار وذات القوة المعرفية والفكرية، وفي مكان ما تمة حزن المثقف أمام مكر السياسة. وبهذا المعنى إصراره المتواصل على استحضار سيرة ابن خلدون. الصور بعدسة: زليخة