«شيدنا حياتنا ولا أحد يستطيع سرقتها منا. وبناتنا؟ حفيداتنا؟ في حالة سيطرة تجار الدين على قيادة تونس، فستضيع حياتهن. كان بإمكاني مغادرة البلاد، الذهاب للعيش في مكان آخر. ربما أنا بليدة، أو مثالية أكثر من اللازم، لكنني لن أتركهم يفسدون حياة طفلاتي. يزعمون أنهم مسلمون، لكن ما الذي يعرفونه من الإسلام؟ أنا التي لم أكن أحب السياسة، انخرطت في الحركة عبر تأسيس حركة مواطنة. لم أكن أحب المواجهة، لكنني ولجت الساحة. لا يمكنهم أن يفوزوا، لا يجب أن ينتصروا. قررت الإقدام على كل شيء لتجنب هذا. وسأحمل السلاح إذا استلزم الأمر ذلك». هي شهادة مؤثرة لمحامية تونسية ملتزمة، منذ اندلاع الربيع العربي، في رحم كفاح تاريخي ضد الهيمنة الإسلامية على وطنها. مثلما هو مديح للحرية والعلمانية هذا الكتاب الذي نشرته، منذ أسابيع قليلة، المحامية والفاعلة الاجتماعية التونسية دليلة بن مبارك مصدق. يحمل الكتاب، الصادر عن منشورات "بريس دو لا رونيسونس" الفرنسية والذي ساهمت في صياغته الصحفية فاليري أورمان، عنوان "سأحمل السلاح إذا اقتضى الأمر ذلك: تونس، كفاحي من أجل الحرية". وتقدم "الاتحاد الاشتراكي"، ضمن هذه السلسلة اليومية، عرضا مستفيضا لمضامينه. في الأسبوع الأول الذي تلا سقوط بن علي، غمر تونس العاصمة اهتياج غير قابل للوصف. (...) كان زوجي يهتم بالبنات، بينما أنا أقضي جل وقتي خارج البيت أو على الفايس البوك. كنت أبحث عن مجموعة لأنتمي إليها. ولقد بدأت التفكير بمعية أخي ووالدي ورفاق هذا الأخير القدامى: إلى أين نمضي؟ كيف نحافظ على السيطرة على مستقبلنا؟ كيف نتصرف إزاء الحكومة الانتقالية التي نصبت توا، والتي حافظت على نفس الوجوه القديمة ويسيرها الوزير الأول السابق لبن علي، محمد الغنوشي؟ كنا متفقين جميعا على أن هذا الفريق المنبثق من النظام السابق عاجز عن تجسيد التغيير. وكان أن التحقنا بأول اعتصام كبير، اعتصام القصبة الأول، الذي كان يهدف إلى إقالة الوزير الأول." ولأن بعض المعتصمين حضروا دون متاع ولا تغذية، سارعت دليلة إلى جمع التبرعات العينية لصالحهم، كما اغترفت مما وفرته من المال إلى أن نضب رصيدها. أسبوعا واحدا بعد انطلاق الاعتصام الجماهيري السلمي الناجح، تراجعت الحكومة وأقالت رموز العهد البائد. "لكن هذا الانتصار، تضيف الكاتبة، أدى إلى الانقسام في صفوف المتظاهرين. هكذا، اعتبر نصفهم أن القرار ناقص وأنه يجب الاستمرار في الاحتجاج إلى حين إسقاط محمد الغنوشي نفسه. أما النصف الثاني، الذي كنت منتمية إليه، فكان يعتقد بضرورة ترك الفرصة تسنح لانتقال هادئ. كنت لا أظن أنه بالإمكان الذهاب إلى أقصى حد في مدة زمنية وجيزة، أن نطالب بالمستحيل. لكن تقديري كان خاطئا. لم أكن أمتلك ما يكفي من الثقة، لا في أفكاري، ولا في الطاقة الجماعية. احتل الشباب، أساسا، الصفوف الأولى، وكانوا صارمين وهم يطالبون ب"الثورة حتى النصر". لقد لقنوني هذا الدرس البليغ الأول: "المستحيل ليس تونسيا." وهو الشعار الذي أثر في أعماقي أكثر من غيره طوال الثورة." وحسب الكتاب، فقد سمح هذا الانشقاق وانسحاب العديد من المتظاهرين، لقوات الأمن بالتدخل بعنف، لكن الأمر سيؤدي إلى عكس ما كان يتوخاه مهندسوه، إذ عم الغضب من جديد وتساقطت كأوراق الخريف الثقة في حكومة الغنوشي الثانية. "قبل انطلاق اعتصام القصبة في نسخته الثانية، تضيف دليلة بن مبارك، أخذت يوم إجازة للالتحاق بالقافلة المتوجهة من العاصمة إلى سيدي بوزيد، مهد الثورة: قافلة ضخمة هدفها تحية وشكر السكان." وهناك، في سيدي بوزيد، ستلتقي الكاتبة بأفراد عائلة الشهيد البوعزيزي في منزلهم. "بدت لي هذه الأسرة الفقيرة مصدومة، متجاوزة بفعل المأساة وتسارع الوقائع. طلبوا مني أن أصبح محاميتهم لكي يتم الاعتراف لمحمد بصفة شهيد، وهو ما من شأنه أن يفرض قانونيا احترام قصته وتثمين مأساته لتنال الأسرة التعويضات اللازمة من طرف الدولة. وبالفعل، فقد كانت الصحافة والناشرون والمنتجون السينمائيون يزدحمون أمام باب المنزل العائلي. وحسب أقوال أهل الشهيد، فقد كان علي أيضا أن أدافع عن صورته". لم تتردد المحامية في قبول العرض واعتبرته "تشريفا كبيرا" لها. لكنها ستصدم لاحقا لأن القضية ستتحول إلى مجرد مساومة مالية بئيسة! "بعد أسابيع، توجهت، برفقة أخ وعم محمد البوعزيزي، إلى إقامة المنتج السينمائي طارق بن عمار في المرسى. أحاطنا الرجل المؤثر علما بمشروع سينمائي كبير. (...) بدا أخ البوعزيزي محرجا وجد متوتر. ظل يردد بصوت مرتفع أن صورة محمد ليست معروضة للبيع، وأن استشهاده ليس سلعة تجارية. وبعدها، سيغادر الغرفة مسرعا لتهدئة أعصابه. اقترحت أن نكف عن النقاش لألتحق به. في الخارج، وببرودة دم كبيرة، شرح لي مبتسما إلى أي حد يجب أن أرفع سقف التعويضات المالية قبل قبول العقد. تحدث عن مئات آلاف الدنانير، وعن افتعاله الغضب ليرفع من قيمة المزايدة... شعرت بالإحراج (...) لكنني عدت إلى مكاني حول المائدة، مقترحة المبلغ المالي الذي طالب به الأخ قبل أن أنسحب على التو من القضية برمتها. ومنذ ذاك، لم ألتق أي واحد من أفراد الأسرة". بينما دليلة في مكتب طارق بن عمار، برفقة أفراد من آل البوعزيزي، رن هاتف المنتج السينمائي المحمول. ابتعد قليلا مجيباً عن المكالمة باللغة الانجليزية، ولما عاد، توجه إلى الحاضرين بالقول سعيداً: »مارأيكم في باجي قايد السبسي وزيراً أول؟«. ويضيف الكاتب، في السياق ذاته : »في نهاية زوال يوم 7 فبراير 2011، أكد إعلان رسمي خبر تعيين الشيخ الحكيم، البالغ من العمر 84 سنة، على رأس الحكومة، اعتصام القصبة الثاني، الذي تميز بمظاهرة شارك فيها 100 ألف مواطن لم يبالوا بطلقات الإنذار ولا بالغازات المسيلة للدموع، اعتصام القصبة الثاني أقبر، إذن، حكومة الغنوشي الثانية. تعيين السبسي أسعدني إلى حد ما: رجل الدولة المتمرس هذا، المساعد القديم لبورقيبة، لم يكن يجسد المستقبل بالطبع، لكنه كان باستطاعته، بكل تأكيد، ضمان الانتقال وتنظيم أول انتخابات حرة لإنشاء مجلس وطني تأسيسي. لقد حان الوقت لعودة الأمن وهدوء الوضع العام والإيجابي«. وتروي دليلة بن مبارك أيضاً، أن والدها ورفاقه السابقين وظفوا زيارتهم إلى سيدي بوزيد لعقد اجتماع تدارسوا خلاله موضوع تأسيس شبكة من اللجن محدودة العدد من المواطنين قصد حماية أهداف الثورة. انتشرت الفكرة بسرعة، وبمجرد مرور شهر فقط، كان الكثير من اللجن قد أسس عبر مختلف المدن والقرى. في نفس الحقبة، سيتحالف الحزب الشيوعي مع مجموعة من المنظمات، بما في ذلك، النهضة الاسلامية، لتشكيل »المجلس الوطني لحماية الثورة«، والدفع بإنشاء لجن محلية وجهوية تابعة له. وكان من آثار هذه الخطوة تحكم الاسلاميين في اللجن المحلية السابقة لإعلان المجلس وسيطرتهم عليها: »ومثل هذا، تفسر دليلة، أول فشل لنا. فشل مدو. غني بالدروس«. وتسترسل المحامية شارحة: »لم ينزل الاسلاميون إلى الشارع حين كان الشباب يتعرضون للتنكيل. لم يقوموا بالثورة، ولم يشاركوا في الانتفاضات. لم نبدأ في رؤيتهم إلا أثناء اعتصام القصبة الثاني، إذ كان المجتمع المدني هو قائد المعركة التي ساهم فيها المناضلون السياسيون دون رفع يافطات مميزة أو حزبية (...)، ابتداء من شهري مارس وأبريل 2011 خصوصاً، وعقب إطلاق سراح جميع قادتهم وعودة الآخرين من المنفى، برز الاسلاميون بقوة جارفة، مستفيدين من حصول حزبهم على الشرعية«. عقبها، سيتواصل الزحف الاسلامي خاصة بعد توسيع تمثيلية الأحزاب على حساب المجتمع المدني ضمن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، واعتماد هذه الأخيرة نمط الاقتراع النسبي باللائحة لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي لصياغة النص الدستوري الجديد. ونظراً لأن بحثها لنيل دبلوم الدراسات العليا تمحور حول »"أنماط الاقتراع«"، فقد دقت الكاتبة ناقوس الخطر" »انتبهوا، (سيؤدي نمط الاقتراع المعتمد إلى مجلس محجب"!«، لكن لا أحد تقريباً انتبه لصرختها ولا أعارها اهتماماً. »"كان الجميع شريكاً في هذا الخطأ الرهيب، تشرح. الكثيرون كانوا يبتغون إنقاذ مصالحهم، هدفهم. وفي اعتقادي، فالأمر هذا مثل أول سرقة للثورة. وخلال الحملة الانتخابية، ازدادت قوة الإسلاميين، خاصة أن الانتخابات أجلت من موعدها الأولي في يوليوز 2011 إلى أكتوبر. ولقد منحتهم هذه المهلة الإضافية ما يكفي من الوقت لتنظيم دعاية ناجعة، آلة حرب فعلية. في الشارع، في الأحياء الشعبية، رأيت الكثير من النساء يشرعن في وضع الحجاب، ومن الرجال يطلقون لحيتهم«. وأمام سهام النقد التي وجهتها لها بناتها بسبب انخراطها التام في الثورة وإهمالها مهنتها، سترد دليلة بن مبارك مصدق: »لكن، في أي شيء سيفيد نجاحي في مهنة المحاماة، عزيزاتي، في حالة ما لم أضمن لكن نمط مجتمع تعشن فيه حرات تماماً؟ (...) لماذا تتعبأ النساء أكثر، لماذا عددهن أكثر في رحم الحركة المواطنة التي نمت بسرعة كبيرة؟ نظراً للفطرة المميزة لهن كأمهات. نحن جميعاً خائفات، كنساء، على أبنائنا«. وعن انخراطها في سياق المعركة الدستورية، تكتب المحامية في اختتام الفصل الثاني من الكتاب: »بعد فشل لجننا الأولى، قررنا الانخراط بإصرار في المعركة الدستورية الكبرى، عن طريق صياغة بيان مقتضب يستعرض القيم الأساسية وتنظيم السلطات في الدستور الجديد. لم نكن سوى سبعة أفراد! بمعية أخي جوهر، ووالدي وبعض المقربين، نظمنا أول تجمع جماهيري، وحصلنا على أولى الانخراطات، مؤسسين بواسطتها جمعية صغيرة. وبعد انضمام مئات المناضلين لنا، أطلقنا شبكة "»دستورنا«"، أول حركة جمعوية في تونس ضمت مواطنين من مختلف أرجاء البلاد قصد المشاركة في صياغة النص الدستوري. اعتقدت أنني سأخصص بضعة شهور لمعركة سريعة، وكنت مستعدة لذلك. لكن الأمر لم يكن سوى الخطوة الأولى في معركة طويلة، جد طويلة«.