التفاعل الإيجابي لبعض فئات المجتمع الفقيرة مع واقعهم وحاجياتهم، يجعلهم في بحث مستمر عن مورد لرزقهم وفرص لإشباع حاجياتهم، فتراهم يمتهنون مهنا معينة ، ثم يغيرونها حسب تغير الظروف وتعاقب الحالات، واستمرار الإقبال على المهنة أو زواله ، وهكذا تطفو على سطح الواقع مهن تلائم مناسبة معينة أو فصلا محددا ، ثم تختفي بانتفاء شروطها أو توقف الحاجة إليها ، وقد تجد بعض المهن من هذا النوع استمرارا في الواقع ، وتثبت صلاحيتها على مدار السنة وتتابع الفصول ، فيزداد الإقبال عليها من طرف أبناء الشرائح الاجتماعية المهمشة ، إلى أن تصبح ظاهرة منتشرة وعلامة لافتة للانتباه . ومن ذلك مهنة غسل السيارات بالشوارع والساحات العامة ، التي أصبحت بمدينة مكناس ، من المظاهر اللافتة للنظر، فأينما توجهت بشوارع وأزقة المدينة وساحاتها العامة ، وحيثما توفرت إمكانية لوقوف السيارات بنوع من الكثافة بجوانب الطرق وقرب المقاهي وبداخل الباركينكات ، إلا ووجدت شبانا يمارسون هذه المهنة ، وبجانبهم عُدة العمل ، التي هي عبارة عن أسطل مليئة بالماء وشيفونات للمسح والتنشيف ، وقد يقترح عليك أحدهم عند إيقاف سيارتك « نغسلوها الحاج ؟ » ، سيما إذا كانت متسخة ، فتجدها فرصة مناسبة ، بحيث تقضي مصالحك أو تستريح بمقهاك المفضلة ، وتعود لتجد سيارتك مغسولة وبأبسط ثمن ، فهي « حج وحاجة » ، كما عبر عن ذلك أحد المستفيدين من العملية . لذلك لا يجد أصحاب السيارات أنسب من الاستجابة لهذه الدعوة والموافقة على هذا الاقتراح ، ويكون الخيار أمامهم، بين إغلاق السيارة أو تركها مفتوحة من أجل تنظيفها من الداخل ،أو ترك المفاتيح للشخص ليقوم بفتح السيارة وإغلاقها بعد الانتهاء من غسلها ، وذلك حسب درجة الثقة ، ونوعية التجربة التي يراكمها أصحاب السيارات عن الأشخاص الذين يمارسون هذه الهنة ، والمكان الذي تتم فيه ممارستها . واللافت أن هذه المهنة ، بهذا الشكل وبهذه الكثافة ، تكاد تكون غير معروفة بكثير من المدن المغربية ، سيما الكبيرة منها ، حيث يكون من المعهود أن غسل السيارات يتم بمحطات بيع الوقود ، أو ببعض المحلات المستحدثة ، والتي هي عبارة عن دكاكين يتم تجهيزها ببعض الآليات الخاصة بتنظيف السيارات ، فتصبح مقصدا للراغبين في هذه الخدمة ، أما في مدينة مكناس ، فيمكنك الاستفادة من هذه الخدمة أينما وليت وجهك . ومن أجل معرفة بعض الأسباب الكامنة وراء انتشار هذه الظاهرة ، والظروف التي تتم فيها مزاولة هذه المهنة ، كان لنا لقاء مع بعض الممارسين لها ، حيث أفصح رشيد بأن الحاجة وانعدام فرص بديلة للشغل ، هي التي دفعته لتعاطي هذه الحرفة ، التي قضى في ممارستها حوالي عشرين سنة ( منذ 1994 ) وقد جرب قبل انخراطه في هذا العمل حرفا أخرى ، كبيع السجائر بالتقسيط ومسح الأحذية ، وعن طريق بعض معارفه الذين يملكون السيارات ، انخرط في الحرفة الحالية شيئا فشيئا ، حيث كانت البداية مع هؤلاء فقط ، واستجابة لطلباتهم التي كانوا يقترحونها عليه بين الحين والآخر ، وبعد أن تزوجت يقول رشيد استقررت بهذا العمل بصفة دائمة لحد الآن ، وهو يوفر لي يضيف مدخولا أحمد الله عليه ، وأعمل على تكييف حاجيات أسرتي مع ما أحصل عليه ، إذ أنني أنفق على أسرة مكونة من زوجة وثلاثة أبناء ، وما دامت لي الصحة فأنا أستطيع أن أسد حاجياتهم ، وإذا تبدلت الأحوال فلا أحد يدري ما يكون . وعن إمكانية استبدال هذا العمل يقول رشيد ، بأنه إذا وجد عملا قارا ويوفر له فرصة أفضل للحياة ، فلن يتوانى عن قبول الانخراط فيه ، لكن على أن لا يتم التخلي عنه فيما بعد ، ويترك للبطالة والضياع . أما عن علاقته مع زبنائه ، فيؤكد أنها جيدة للغاية ، فهم يكنون له الاحترام ، وهو يقدر الأمانة التي يلقونها على عاتقه ، فهم يتركون له مفاتيح سياراتهم ، ويذهب بعضهم لقضاء أغراضه المختلفة ، بينما يذهب آخرون إلى أعمالهم في الإدارات والمؤسسات ، ثم يعودون ليجدوا سياراتهم مغسولة ، فيتسلمون مفاتيحهم ويذهبون إلى حال سبيلهم ، شاكرين حسن العناية وجودة العمل . وعن بعض المشاكل التي تصادفه في عمله ، يؤكد أنه لم تعترضه أية مشاكل تذكر ، فهو يبني عمله على أساس الأمانة ، حيث يحافظ على أي شيء يجده بداخل السيارة ، لأن صاحبها قد يترك بداخلها أوراقه وأشياءه وأسراره ، فلا بد من الحفاظ على كل ذلك ، فالإنسان إذا تعود على أخذ بعض الأشياء من داخل السيارات ، فلا بد أن يفتضح أمره حالا أو استقبالا ، ومن جهة أخرى فالواحد في هذه المهنة لابد أن تصله بعض الشبهات ولو من بعيد ، وحتى لو كان في منتهى الأمانة ، فأحيانا يضيع لبعض الزبناء شيء في داره أو سيارته ، وعند تصريحه للأمن ، يسألونه عن الأشخاص الذين تصل المفاتيح لأيديهم بين الحين والآخر ، فيذكر من جملتهم الشخص الذي يغسل السيارة ، وبذلك يصبح من المفروض أن يتم استدعاؤه والتحقيق معه ، لكن صدقية وبراءة الإنسان ، وجدية التحريات الأمنية ، تجعل الحقيقة تأخذ مجراها ، وتمر الأمور مر الكرام . لذلك يتوجه رشيد بنصيحة لكل من يعمل في هذا المجال ، بضرورة التحلي بالأمانة في كل الأحوال ، لأنه إذا لم يكن الإنسان أمينا فلا يمكن أن يستمر في العمل بهذا المجال ، بل لابد أن يفتضح أمره مع زبنائه ، ولابد أن يجد نفسه في أحد الأيام متورطا في قضية يؤدي حسابها غاليا . أما حميد ، فقد أكد أنه يمارس هذه المهنة منذ عقود ، وذلك قبل ولادة ابنه الذي يساعده في نفس العمل ، والذي يبلغ عمره ثلاثا وعشرين سنة ، وقد التجأ إلى هذه الحرفة كما يقول ، بعد أن تعب من العمل المتقطع مع الطاشرونات ، حيث كان يعمل فترة ثم يقع الاستغناء عنه لسبب من الأسباب ، كانتهاء العمل في ورشة محددة وعدم توفر الإمكانية للالتحاق بورشة أخرى .. وبذلك يكون عليه أن ينتظر لمدة قد تطول وقد تقصر ، ولكن بعد الزواج وتحمل مسؤولية الأسرة يضيف حميد كان علي أن أفكر جديا في حل معضلة العمل المتقطع ، فقادتني الصدفة إلى هذه المهنة ، حيث قررت في أحد الأيام أن أجرب فيها حظي ، فكان نصيبي خلال ذلك اليوم هو خمسة وعشرين درهما ، فاستبشرت خيرا ، ولزمت هذا العمل منذ ذلك اليوم . ومن حيث علاقته بزبنائه ، فإن حميد يؤكد أنها في مستوى عال من الثقة والاحترام ، والسبب في ذلك هو المعقول ، لأنني يوضح أعتبر السيارة التي يتركها صاحبها من أجل تنظيفها أمانة في عنقي ، أحافظ على كل ما بداخلها ، وفي أحيان كثيرة أجد أشياء ذات قيمة ، فأعمل على تسليمها لصاحبها مباشرة ، لذلك لا أسلم السيارة لأي أحد غير صاحبها ولو كان ابنه . وعن مدخوله من هذه المهنة ، يقول بأنه لا يتعدى سبعين إلى خمسة وسبعين درهما يوميا ، وهو مبلغ غير كاف لحياته مع زوجته وأربعة من أبنائه ، فهو بالكاد يغطي ضروريات الحياة في حدودها الدنيا ، ولا مجال هنا لشيء اسمه الترفيه أو التوسيع على النفس بشكل من الأشكال ، بل إن الأمور تزداد اشتدادا مع الأعياد ومواسم الدخول المدرسي والمناسبات المختلفة ، ولذلك يؤكد أنه لو وجد أي عمل آخر ، فلن يتردد في استبدال هذا العمل ، سيما وأنه قد أصبح بسببه يعاني من أمراض البرد والروماتزم ، لأنه يشتغل دائما بالماء البارد صيفا وشتاء ، وتكون ملابسه عرضة للبلل المستمر ، فينال منه البرد أقصى درجاته ، سيما وهو يعمل في الفضاء المفتوح . وفي الوقت الذي يجد حميد نفسه مضطرا لمزاولة هذه المهنة بكل عواقبها ، فإنه يجد نفسه أحيانا أمام منغصات أخرى تزيد من معاناته ، وذلك حين يأتيه بعض أعوان السلطة ويمنعونه من مزاولة عمله ، بل ويسوقونه كالمجرم إلى المقاطعة حيث يحققون معه في الأمر ، وكأنه وجد عملا آخر بديلا وتشبث بهذا العمل ، أو كأنهم يريدون له أن يموت مع أبنائه جوعا . ويصرح عادل بدوره ، بأنه كان قبل تعاطيه لهذه الحرفة ، يمتهن مسح الأحذية أحيانا ، ويشتغل أحيانا أخرى نادلا بأحد المقاهي ، ولم يجد عملا قارا بإحدى الشركات أو المقاولات ، لذلك فكر أخيرا في تجريب هذه الحرفة ، فارتاح إليها ، واستمر مشتغلا بها منذ مدة طويلة ، وقد وجد فيها حريته واستقراره ، حيث يعمل أو يغادر متى شاء ، ولا يحس بأن هنالك صاحب شغل يضغط عليه أو يكرهه على ما لا يريد ، كما لايحس بأن هنالك من يهدده بالطرد من العمل أو الاستغناء عن خدمته . أما عن المدخول اليومي من هذه الحرفة ، فيقول بأنه لا بأس به ، غير أن هناك فترات يتوقف فيها العمل بشكل شبه كامل ، كما في فصل الشتاء مثلا ، ثم إن متطلبات الحياة جد ثقيلة ، فأنا يقول متزوج وأب لطفل وأعين والدي ، كما أنني مطالب بأداء واجبات الكراء ، وهناك محطات في السنة تفرض تكاليف مضاعفة ، كما في شهر رمضان والأعياد والدخول المدرسي .. لكل ذلك يمكن القول بأن الإنسان يتصارع من أجل توفير ما لا بد منه لاستمرار الحياة ، أما الكماليات فلا يمكن للإنسان أن يحلم بها ، ومع ذلك يؤكد عادل بأنه لو وجد عملا قارا بأجر أقل مما يوفره له هذا العمل ، فلن يتردد في قبوله ، لأن رجال الأمن يقول بمرارة كثيرا ما يحضرون ويمنعوننا من العمل ، بدعوى أن غسل السيارات بالأماكن العامة ممنوع ، لكن ماذا سنفعل ؟ وكيف سنوفر لقمة العيش لأسرنا ؟ هذا هو السؤال العريض الذي يبقى مفتوحا أمام هذه الفئات التي تضطر لامتهان مثل هذه الحرف ، بل وأمام شباب هذه المدينة بصفة عامة ، حيث تشح فرص الشغل بشكل يكاد يصل حدود الانغلاق ، حتى أمام الأطر الشابة المؤهلة من مختلف المستويات ( تقنيون ، مهندسون ، حاملو الشهادات العليا ) مما يجعلهم يبحثون عن فرص الشغل والارتقاء بمدن أخرى ، لتبقى مدينة مكناس باستمرار ، مدينة التهميش والمهمشين بدون منازع ، فمتى سيتم التفكير في زرع بذور الحياة والحيوية بهذه المدينة ، كي يتغير شيء من أحوالها وأحوال أبنائها ؟